أحدهما : أنه تعالى لما ذكر كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر كيفية التصرف في الأموال .
الثاني : لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإبقاء المهور بيَّن بعد ذلك كيفية التصرف في الأموال ، وخص الأكل بالذكر دون غيره من التصرفات لأنه المقصود الأعظم من الأموال ؛ لقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] ، واختلفوا في تفسير الباطل فقيل هو الربا والغصب والقمار والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة ، وعلى هذا تكون الآية مجملة لأنه يصير التقدير : لا تأكلوا أموالكم التي حصلتموها بطريق غير مشروع ، ولم يذكر ههنا الطريقة المشروعة{[7571]} على التفصيل فصارت الآية مجملة .
وروي عن ابن عباس والحسن أن الباطل هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض{[7572]} وعلى هذا لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم : إنها منسوخة : قال لما نزلت هذه الآية تحرّج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئاً وشق ذلك على الخلق . فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في سورة النور { لَّيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ }{[7573]} [ النور : 61 ] وأيضاً إنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة{[7574]} .
وقيل : المراد بالباطل [ هو ]{[7575]} العقود الفاسدة ، وقوله { لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } [ يدخل فيه أكل مال الغير بالباطل ]{[7576]} وأكل مال نفسه بالباطل فيدخل فيه القسمان معاً كقوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُم } يدل على النهي عن قتل غيره وقتل نفسه أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله تعالى ، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه .
قوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } في هذا الاستثناء قولان :
أصحهما : أنه استثناء منقطع لوجهين :
أحدهما : أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسرنا الباطل بغير عوض ، أو بغير طريق شرعيّ .
والثاني : أن المستثنى كون ، والكون ليس مالاً من الأموال .
الثالث{[7577]} : أنه متصل قيل : لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة .
قال أبو البقاء{[7578]} : وهو ضعيف ؛ لأنه قال : بالباطل ، والتجارة ليست من جنس الباطل ، وفي الكلام حذف مضاف تقديره ؛ إلا في حال كونها تجارة ، أو في وقت كونها تجارة انتهى . ف " أن " تكون في محل نصب على الاستثناء ، وقد تقدم تحقيقه .
وقرأ الكوفيون{[7579]} تجارة نصباً{[7580]} على أن كان ناقصة ، واسمها مستتر فيها يعود على الأموال ، ولا بد من حذف مضاف من " تجارة " تقديره : إلا أن تكون الأموال أموال تجارة ، ويجوز أن يفسر الضمير بالتجارة بعدها أي : إلا أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله : [ الطويل ]
. . . *** إذَا كَانَ يَوْمَاً ذَا كَواكِبَ أشْنَعَا{[7581]}
أي إذا كان اليوم يوماً ، واختار أبو عبيدةَ قراءة الكوفيين ، وقرأ الباقون{[7582]} " تجارةٌ " رفعاً على أنها " كان " التامة قال مكي{[7583]} : وأكثر كلام العرب أن قولهم " إلا أن تكون " في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى : يحدث ويقع ، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة .
وقوله : { عَن تَرَاضٍ } متعلق بمحذوف لأنه صفة ل " تجارة " فموضعه رفع أو نصب على حسب القراءتين ، وأصل " تراض " " تراضِوٌ " بالواو ؛ [ لأنه مصدر تراضي تَفَاعَلَ من رَضِيَ ، ورَضِيَ من ذوات الواو بدليل الرُّضوان ، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة ]{[7584]} فقلبت ياء فقلت : تراضياً ، و " منكم " صفة لتراضٍ ، فهو محل جر و " من " لابتداء الغاية .
والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الأجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة .
قال تعالى :{ يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }
[ الصف : 10 ] وقال { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } [ فاطر : 29 ] وقال { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [ التوبة : 111 ] ، فسمَّى ذلك كُلَّهُ بيعاً وشراءً على وَجْهِ المَجَازِ ، تشبيهاً بِعُقُود المبيعَاتِ الّتي تحصلُ بها الأغْرَارُ .
اعلم أنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تجارةٌ على أيّ وجْهٍ كان العوض ، إلا أنَّ قوله تعالى { بِالْبَاطِلِ } أخرج منها كُلَّ عوضٍ لا يجوزُ شَرْعَاً من رباً وغيره أو عوض فَاسِدٍ كالخمرِ ، والخَنْزِيرِ ، وغير ذلِكَ ، ويخرج أيضاً كُلُّ عقدٍ جائزٍ لا عوض فيه كالقرض والصَّدَقَةِ ، والهِبَةِ ، لا للثَّوابِ ، وجازت عُقُودُ التَّبرُّعاتِ بأدلَّةٍ أخَر ، وخَرَجَ منها دٌعَاءُ أخيكَ إيَّاكَ إلى طَعَامِهِ ، بآيةِ النُّورِ ، على ما سيأتي إن شاء اللَّه - تعالى - .
قال القرطبيُّ{[7585]} : لَوِ اشْتَرَيْتَ فِي السُّوقِ شَيْئاً فقالَ لَكَ صًاحِبُهُ قبل الشِّرَاءِ ذُقْهُ ، وأنت في حلٍّ ، فلا تَأكُلْ منه ؛ لأن إذْنهُ في الأكْلِ لأجْلِ الشِّراءِ ، فربما لا يقعُ بينكم بيعٌ ، فيكونُ ذلك شُبْهَة ، لكن لو وصف لَكَ صفة فاشْتَرَيْتَ ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيَار .
قوله { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } أي : بطيبة نَفْسِ كُلِّ وَاحدٍ منكم على الوَجْه المَشْرُوعِ .
وقيل هو أن يخير كُلُّ وَاحدٍ من المُتابِعيْنِ صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْع ، فيلزمُ وإلا فلهما الخِيَارُ ما لم يَتَفَرَّقَا لقوله عليه السلامُ : " الْبَيِّعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا " {[7586]} أو يخير كُلّ واحد منهما صاحبَهُ متبايعاً على ذلك ، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ ، واعلم : أنَّهُ كَمَا يحلُّ المستفاد منَ التِّجارَة ، فقد يَحِلُّ أيضاً المالُ المستفاد مِنَ الهِبَةِ ، والوصيَّةِ والإرث ، والصَّدَقَةِ ، والمهر ، ِ وأرُوشِ الجنايَاتِ ، فإنَّ أسْباب المالِ كثيرةٌ سوى التِّجارة .
فإن قُلْنَا : الاستثناءُ مُنقطِعٌ ، فلا إشْكالَ ؛ لأنَّهُ تعالى ذَكَرَ هَاهُنا شيئاً واحداً ، من أسْبَابِ المِلْكِ ، ولم يذكره غيرهُ بنفي ، ولا إثْبَاتٍ .
وإن قلنا : الاسْتثناءُ مُتَّصِلٌ كان ذلك حكماً بأنَّ غيرَ التِّجَارةِ لا يفيد الحلّ ، وعلى هذا لا بُدّ مِنَ النَّسْخِ ، والتَّخْصيصِ .
ذهب بعضُ الْعُلَمَاءِ إلى أنَّ النَّهْيَ في المعاملات يَقْتَضِي البُطْلاَنَ ، وقال أبُو حنيفَةَ : لا يَدُلُّ عليه واحتجّ الأوَّلُونَ بوجوهٍ :
أحدُهَا : أنَّ جميعَ الأمْوالِ مملوكةٌ للَّهِ تعالى ، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التَّصَرُّفَاتِ ، كان ذلك جَارياً مَجْرَى ما إذا وكل الإنسان وكيلاً في بَعْضِ التَّصرفات ، ثم إنَّ الوكِيلَ تَصَرَّفَ على خِلافِ قَولِ الموكل ، فذلك غير مُنعقدٍ ، فإذا كان التَّصرفُ الواقع على خلاف قول المِالِكِ المجازي لا يَنْعَقدُ ، فالتصرفُ الواقِعُ على خِلاَفِ قَوْلِ المالِكِ الحقيقيّ غير مُنْعَقِدٍ بِطَرِيقِ الأوْلَى .
وثانيها : أنَّ التصرُّفات الفَاسِدَة ؛ إمَّا أن تكُونَ مُسْتَلْزِمَةً لِدُخُولِ المُحرَّم المنهيّ عنه في الوُجُودِ أو لا ، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياساً على التصرفات{[7587]} الفاسدة ، والجامِعُ السعي في ألا يَدخُلَ منشأ النَّهي في الوُجُودِ ، وإنْ كانَ الثَّانِي ؛ وَجَبَ القَوْلُ بصحَّتها قياساً على التصرُّفَاتِ الصَّحيحةِ ، والجامعُ كونُهَا تَصرُّفَاتٍ خالية عن المفْسَدَة ، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من وُقُوعِ التَّصرُّفِ على هذين الوجْهَيْنِ ، فأمَّا القَوْلُ بتصرف لا يكُونُ صحيحاً ، ولا باطلاً ، فهو محال .
وثالثها : أنَّ قوله : " لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَيْن " {[7588]} كقوله : " لا تبيعوا الحر بالعبد " فكما أن هذا نهي في اللفْظِ ، لكنَّهُ نَسْخٌ للشَّرعيةِ [ فكذا الأوَّلُ ، وإذا كان نَسْخاً للشَّرْعيَّةِ ]{[7589]} ، بطل كوْنُهُ مُفيداً للحكم .
قوله { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } قرأ عَلِي{[7590]} - رضي اللَّهُ عنه - : " تُقْتَّلُوا " بالتَّشْديدِ على التكثير ، والمعنى لا يَقْتلُ بَعضُكُم بعضاً ، وإنَّما قَالَ { أَنْفُسَكُمْ } لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام : " المُؤْمِنُونَ كنَفْسٍ وَاحِدَةٍ " {[7591]} ولأن العَرَبَ يَقُولُونَ " قُتلْنَا وَرَبِّ الكَعْبَةِ " إذا قتل بعضهم ؛ لأنَّ قتل بعضِهِم ، يجري مَجْرَى قَتْلِهِمْ .
فإن قيل : المُؤمِنُ مع إيمانِهِ لا يجُوزُ أن ينهى عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ ، لأنه ملجأ إلى ألاَّ يَقْتُلَ نَفْسَهُ ، لأنَّ الصَّارِفَ عنه قائمٌ ، وهو الألَمُ الشَّديدُ ، والذَّمُّ العَظِيم ، والصَّارف عنه في الآخرة قَائِمٌ وهو استحقاقُ العَذَابِ العَظِيمِ .
إذا كان كذلك ، لم يَكُنْ للنَّهْيِ عَنْهُ فائدة ، وإنَّمَا يُمْكِنُ هَذَا النهي ، فِيمَنْ يَعْتَقِدُ في قَتْلِ نَفْسِهِ ما يعتقدُهُ أهْلُ الهِنْدِ ، وذَلِكَ لا يَتَأتَّى مِنَ المُؤْمِنِ .
فَالجَوَابُ : أنَّ المُؤْمِنَ مع{[7592]} إيمانِهِ ، قد يَلْحَقُهُ مِنَ الغَمِّ ، والأذِيَّةِ ما يكُونُ القَتْلُ عليه أسْهَل مِنْ ذلك ، ولذلك نَرَى كَثيراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَلُونَ أنْفُسَهُم ، بمثل السَّبَبِ الذي ذَكَرْنَاهُ ، ويحتمل أنَّ مَعْنَاهُ لا تَفْعَلُوا ما تَسْتَحِقُّونَ به القتل كالزِّنَا بعد الإحْصَانِ والرِّدَّةِ ، وقتلِ النَّفْسِ المعصومة ، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّهُ رحيمٌ بعباده ، ولأجْلِ رحمته نهاهم عن كُلِّ ما يستوجبون به مَشَقَّة ، أو مِحْنَة حَيْثُ لم يأمرهم بقتلهم أنفسَهُم كما أمَرَ به بني إسرائيل ليَكُونَ تَوْبَةً لهم وكان بكُم يَا أمَّة محمَّد رحيماً ، حيث لم يكلفكم تلك التَّكاليف الصَّعْبَة .