محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل الا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما29 ) .

( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم ) أي لا يأكل بعضكم أموال بعض ( بالباطل ) أي بما لم تبحه الشريعة كالربا والقمار والرشوة والغصب والسرقة والخيانة ، / وما جرى مجرى ذلك من صنوف الحيل ( الا أن تكون تجارة ) أي معاوضة محضة كالبيع ( عن تراض منكم ) في المحاباة من جانب الآخذ والمأخوذ منه . وقرئ ( تجارة ) بالرفع على أن ( كان ) تامة ، وبالنصب على أنها الناقصة . والتقدير : الا أن تكون المعاملة أو التجارة أو الأموال ، تجارة .

قال السيوطي في ( الاكليل ) : في الآية تحريم أكل المال الباطل بغير وجه شرعي . واباحة التجارة والربح فيها . وأن شرطها التراضي . ومن ههنا أخذ الشافعي رحمه الله اعتبار الايجاب والقبول لفظا . لأن التراضي أمر قلبي فلا بد من دليل عليه . وقد يستدل بها من لم يشترطهما إذا حصل الرضا . انتهى .

أي لأن الأقوال ، كما تدل على التراضي ، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعا . فصح بيع المعاطاة مطلقا .

وفي ( الروضة الندية ) : حقيقة التراضي لا يعلمها الا الله تعالى . والمراد ههنا أمارته . كالايجاب والقبول ، وكالتعاطي عند القائل به ، وعلى هذا أهل العلم . لكونه لم يرد ما يدل على ما اعتبره بعضهم من ألفاظ مخصوصة ، وأنه لا يجوز البيع بغيرها . ولا يفيدهم ما ورد في الروايات من نحو : ( بعت منك وبعتك ) فانا لا ننكر أن البيع يصح بذلك . وانما النزاع في كونه لا يصح الا بها . ولم يرد في ذلك شيء . وقد قال الله تعالى : ( تجارة عن تراض ) . فدل ذلك على أن مجرد التراضي هو المناط . ولا بد من الدلالة عليه بلفظ أو اشارة أو كتابة ، بأي لفظ وقع ، وعلى أي صفة كان وبأي اشارة مفيدة ، حصل . انتهى . وقوله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما ) فيه وجهان :

الأول : أن المعنى لا تقتلوا من كان من جنسكم من المؤمنين . فان كلهم كنفس واحدة . والتعبير عنهم بالأنفس للمبالغة في الزجر عن قتلهم ، بتصويره بصورة ما لا يكاد يفعله عاقل .

والثاني : النهي عن قتل الإنسان نفسه . وقد احتج بهذه الآية عمرو بن العاص على مسألة التيمم للبرد . وأقره النبي صلى الله عليه وسلم / على احتجاجه . كما رواه الإمام أحمد وأبو داود . ولفظ أحمد{[1654]} عن عمرو بن العاص أنه قال : " لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد . فأشفقت ، ان اغتسلت ، أن أهلك . فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح . قال فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له . فقال : يا عمرو ! صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ قال قلت : نعم يا رسول الله ! اني احتلمت في ليلة باردة ، شديدة البرد . فأشفقت ، ان اغتسلت ، أن أهلك . وذكرت قول الله عز وجل : ( ولا تقتلوا أنفسكم ان الله كان بكم رحيما ) . فتيممت ثم صليت . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئا " .

وهكذا أورده أبو داود{[1655]} . قال ابن كثير وهذا ، أي المعنى الثاني ، والله أعلم ، أشبه بالصواب . وقد توافرت الأخبار في النهي عن قتل الإنسان نفسه والوعيد عليه .

روى الشيخان {[1656]}وأهل ( السنن ) وغيرهم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا . ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا . ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " .

وأخرج الشيخان{[1657]} عنه رضي الله عنه قال : " شهدنا خيبر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لرجل ممن معه يدعي الاسلام : هذا من أهل النار .

فلما حضر القتال قاتل الرجل أشد القتال حتى كثرت به الجراحة . فكاد بعض الناس يرتاب . فوجد الرجل ألم الجراحة . فأهوى بيده إلى كنانته فاستخرج منها أسهما فنحر بها نفسه .

فاشتد رجال من المسلمين فقالوا : يا رسول الله ! صدق الله حديثك . انتحر فلان فقتل نفسه . فقال : قم ، يا فلان ، فأذن أنه لا يدخل الجنة الا مؤمن . ان الله يؤيد الدين بالرجل الفاجر " . وهذا لفظ البخاري .

وروى أبو داود{[1658]} عن جابر بن سمرة رضي الله عنهما قال : " أخبر النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه فقال : لا أصلي عليه " .


[1654]:أخرجه في المسند بالصفحة 203 من الجزء الرابع (طبعة الحلبي).
[1655]:أخرجه أبو داود في: 1 –كتاب الطهارة، 124 –باب اذا خاف الجنب البرد أيتيمم؟ حديث 334.
[1656]:أخرجه البخاري في: 76 –كتاب الطب، 56 –باب شرب السم والدواء به وبما يخاف منه، حديث 721. وأخرجه مسلم في: 1 –كتاب الايمان، حديث 175 (طبعتنا). ورد في البخاري: يلجأ، وفي مسلم: يتوجأ (ومعناه يطعن).
[1657]:أخرجه البخاري في: 64 –كتب المغازي، 38 –باب غزوة خيبر، حديث 1451. ومسلم في: 1 –كتاب الايمان، حديث 178 (طبعتنا) وفيه: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينا. وقال القاضي عياض: صوابه خيبر.
[1658]:الحديث لم أجده في سنن أبي داود. ووجدته في صحيح مسلم في: 11 –كتاب الجنائز، حديث 107 (طبعتنا) ونصه: عن جابر بن سمرة قال: "أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل قتل نفسه بمشاقص (والمشاقص سهام عراض، واحدها مشقص) فلم يصل عليه".