الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } بالحرام يعني الربا والقمار والقطع والغصب والسرقة والخيانة .

وقال ابن عباس : هو الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيت أخذته وإلاّ رددته ورددت معه درهماً ، ثم قال : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً } يعني لكن إذا كانت تجارة استثناء منقطع ، لأن التجارة ليست بباطل .

قرأ أهل الكوفة : ( تجارة ) بالنصب وهو اختيار أبي عبيد .

وقرأ الباقون : بالرفع وهو اختيار أبي حاتم ، فمن نصب فعلى خبر كان تقديره : إلاّ أن تكون الأموال تجارة .

كقول الشاعر :

إذا كان طاعناً بينهم وعناقاً

ومن رفع فعلى معنى إلاّ أن تقع تجارة وحينئذ لا خبر له . كقول الشاعر :

فدىً لبني ذهل بن شيبان ناقتي *** إذا كان يوم ذو كواكب أشهب

ثم وصف التجارة فقال : { عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } يرضى كل واحد منهما بما في يديه .

قال أكثر المفسرين : هو أن يخبر كل واحد من المتبايعين صاحبه بعد عقد المبيع حتى يتفرقا من مجلسهما الذي تعاقدا فيه ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا " .

وقال صلى الله عليه وسلم : " البيع عن تراضي بالخيار بعد الصفقة ولا يحلّ لمسلم أن يغش مسلماً " .

وروى حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البيعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما ، فإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما " .

وابتاع عمر بن جرير فرساً ثم خير صاحبه بعد البيع ، ثم قال : سمعت أبا هريرة يقول : هذا البيع عن تراض .

{ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } يعني إخوانكم ، أي لا يقتل بعضكم بعضاً .

قال الثعلبي : وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول : سمعت أبي عن جدّي عن علي بن الحسين الهلالي قال : سمعت إبراهيم بن الأشعث يقول : سأل الفضل بن عياض عن قوله : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ } قال : لا تغفلوا عن حظ أنفسكم ، فمن غفل عن حظ نفسه فكأنه قتلها .

{ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } .

عبد الرحمن بن جبير عن عمرو بن العاص أنه قال : " لما بعثه رسول الله عام ذات السلاسل قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيمّمت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له فقال : " يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ؟ " . قلت : نعم يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك وذكرت قول الله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فتيمّمت ثم صليت ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً " .

وعن الحسن : أن الحرث بن عبد الله خلا بالنفر من أصحابه وقال : إن هؤلاء ولغوا في دمائهم فلا يحولنّ بين أحدكم وبين الجنة مل كف من دم مسلم أهراقه ، فأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن رجلا ممّن كان قبلكم خرجت به قرحة بيده فأخذ حزة فحزّها بيده حتى قطعها فما رقأ دمها حتى مات فقال ربّكم تعالى : بادرني ابن آدم بنفسه فقتلها فقد حرمت عليه الجنة " .

سماك عن جابر بن سمرة : أن رجلا ذبح نفسه فلم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم .

حماد بن زيد عن عاصم الأسدي : ذكر بأن مسروقاً بن الأجدع أتى صفين فوقف بين الصفين ثم قال : يا أيها الناس أنصتوا ، ثم قال : أرأيتم لو أنّ منادياً ناداكم من السماء فسمعتم كلامه ورأيتموه فقال : إن الله ينهاكم عمّا أنتم فيه ، أكنتم مطيعيه ؟ قالوا : نعم . قال : فوالله لنزل بذلك جبرئيل على محمد فما زال يأتي من هذا ثم تلا { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ } الآية ثم انساب في الناس فذهب .