الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

قوله : ( يَأيُّهَا الذِينَ ءَامَنُوا لاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم ) الآية [ 29 ] .

( إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةٌ ) الأكثر في كلام العرب أن تستعمل إلا أن يكون في الاستثناء لغير ضمير فيها على معنى إلا يحدث أو يقع( {[12195]} ) وإن في موضع نصب استثناء ليس من الأول واختار أبو عبيدة( {[12196]} ) النصب على إضمار الأموال في تكون ، وغير مختار عند أهل اللغة لأن أكثر كلام العرب في هذا لا يضمرون( {[12197]} ) فيها شيئاً( {[12198]} ) .

ومعنى الآية إنهم نهوا عن أكل الأموال بالربا ، والقمار والظلم والبخس ( إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ ) فليربح ما شاء فيها قال ذلك السدي ، وغيره( {[12199]} ) وهو اختيار الطبري( {[12200]} ) فهي محكمة .

وقيل : نزلت في ألا يأكل أحد متاع أحد إلا بشراء ، أو بقيود ، ثم نسخ ذلك بقوله : ( لَّيْسَ عَلَى الاَعْمَى حَرَجٌ )( {[12201]} ) الآية .

قال ذلك الحسن وعكرمة وغيرهما( {[12202]} )( {[12203]} ) .

قال الطبري : في هذه الآية دليل على فساد قول من ينكر طلب الأقوات والتجارات ، والصناعات من المتصوفة الجهلة لأنه حرم أكل الأموال بالباطل ، وأباح أكلها بالتجارات عن تراض من البائع والمشتري( {[12204]} ) ، ومعنى ( عَن تَرَاضٍ ) هو الخيار فيما تبايعا فيه مالم يفترقا من مجلسهما الذي تبايعا فيه ، وهو قول الشافعي( {[12205]} ) .

وقيل : التراضي هو الرضى بعقد البيع والشراء ، فإذا تراضيا فقد تم البيع افترقا أو لم يفترقا ، وهو قول مالك( {[12206]} ) وأبي حنيفة( {[12207]} ) وأبي يوسف( {[12208]} ) ومحمد( {[12209]} ) .

و( {[12210]} )قال القتبي ( عَن تَرَاضٍ ) [ عن( {[12211]} ) ] موافقة منكم لما أحله الله تعالى وتورع عما حرمه من القمار والربا والبيوع الفاسدة( {[12212]} ) .

وقيل : ( عَن تَرَاضٍ ) عن رضى من البائع والمشتري( {[12213]} ) .

قوله : ( وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم ) أي : لا يقتل بعضكم بعضاً ، وهو معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " لا ترجعوا بعدي كفاراً يضر بعضكم رقاب بعض " ( {[12214]} ) .

وقيل معناه : لا تتجروا في بلاد العدو فتغدوا بأنفسكم . وقرأ الحسن " ولا تقتّلوا " بالتشديد على التكثير( {[12215]} ) .

( إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً ) ، أي : رحمكم الله بأن حرم( {[12216]} ) دماءكم ، بعضكم على بعض .


[12195]:- انظر: الاستغناء 121.
[12196]:- كذا.. وهو لأبي عبيد في إعراب النحاس 1/410 والبحر 3/231.
[12197]:- (د): لا يضمر.
[12198]:- في "تجارة" قراءتان: (أ) تجارةٌ بالرفع على أن كان تامة، وهي قراءة أهل الحرمين وأبي عمرو، ونافع وابن عامر وابن كثير. (ب) تجارة بالنصب على أنها خير كان، وهي قراءة الكوفيين وحمزة، وعاصم، والكسائي، وهو اختيار أبي عبيد، واستبعد النحاس هذا الوجه من جهة الإعراب والمعنى: الكتاب 2/349 معاني الأخفش 441، السبعة 2/231 وإعراب النحاس 1/410.
[12199]:- انظر: جامع البيان 5/30-31.
[12200]:- انظر: المصدر السابق.
[12201]:- النور آية 61.
[12202]:- انظر: جامع البيان 5/31.
[12203]:- لا تنافي بين الآيتين حتى يكون هناك نسخ، وهو ما رجح عند مكي في كتابه الإيضاح في الناسخ: 190.
[12204]:- انظر: جامع البيان 5/32.
[12205]:- انظر: الأم. للشافعي 8/172.
[12206]:- انظر: الموطأ 550.
[12207]:- انظر: الحجة على أهل المدينة 2/677 وأحكام الجصاص 2/171.
[12208]:- هو أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الكوفي صاحب أبي حنيفة كان فقيهاً وعالماً ومفسراً. انظر: طبقات الفقهاء 141.
[12209]:- هو أبو عبد الله محمد بن الحسن الشيباني توفي 189 هـ عالم بالفقه والأصول. انظر: طبقات الفقهاء 142، ولسان الميزان 5/121 (وهو تلميذ أبي حنيفة) [المدقق].
[12210]:- علة هذه المقالة إن البيع إنما هو بالقول كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد الطرفين على صاحبه افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما الذي جرى ذلك فيه. قالوا: فكذلك حكم البيع وتأول الحديث على أنه ما لم يفترقا بالقول. انظر: جامع البيان 5/34، وأحكام ابن العربي 1/409، والجامع للأحكام 5/151.
[12211]:- ساقط من (أ).
[12212]:- انظر: تفسير الغريب 125.
[12213]:- انظر: جامع البيان 5/33.
[12214]:- هي جملة وردت ضمن خطبة حجة الوداع خرجها البخاري في كتاب الفتن 8/91، ومسلم في كتاب الإيمان 1/58.
[12215]:- هي قراءة شاذة تنسب إلى علي والحسن والسلمي. انظر: مختصر الشواذ 25، والجامع للأحكام 5/156، والبحر 3/232.
[12216]:- (أ): رحم.