فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَأۡكُلُوٓاْ أَمۡوَٰلَكُم بَيۡنَكُم بِٱلۡبَٰطِلِ إِلَّآ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٖ مِّنكُمۡۚ وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمۡ رَحِيمٗا} (29)

{ يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما ( 29 ) }

{ يا أيها الذين آمنوا } شروع في بيان بعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان المحرمات المتعلقة بالإبضاع { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } يعني بالحرام الذي لا يحل في الشرع ، والباطل ما ليس بحق ، ووجوه ذلك كثيرة كالربا والقمار والغضب والسرقة والخيانة وشهادة الزور ، وأخذ الأموال باليمين الكاذبة ونحو ذلك ، ومن الباطل البيوعات التي نهى عنها الشرع .

وإنما خص الأكل بالذكر ونهى عنه تنبيها على غيره من جميع التصرفات الواقعة على وجه الباطل ، لأن معظم المقصود من المال الأكل ، وقيل يدخل فيه أكل مال نفسه بالباطل ومال غيره ، أما أكل ماله بالباطل فهو إنفاقه في المعاصي ، وأما أكل مال غيره فقد تقدم معناه ، وقيل يدخل في أكل المال بالباطل جميع العقود الفاسدة .

{ إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ، وهذا الاستثناء منقطع أي لكن أموال تجارة صادرة عن تراض منكم وطيب نفس جائزة بينكم ولكم أن تأكلوها ، أو لكن كون تجارة عن تراض منكم حلالا لكم لأن التجارة ليست من جنس أكل المال بالباطل ، ولأن الاستثناء وقع على الكون ، والكون معنى من المعاني ليس مالا من الأموال ، فكان إلا هنا بمعنى لكن .

وقوله عن تراض صفة لتجارة أي كائنة عن تراض ، وإنما نص الله سبحانه على التجارة دون سائر أنواع المعاوضات كالهبة والصدقة لكونها أكثرها وأغلبها ، ولأن أسباب الرزق متعلقة بها غالبا ، ولأنها أرفق بذوي المروآت بخلاف الإيهاب وطلب الصدقات .

وتطلق التجارة على جزاء الأعمال من الله على وجه المجاز ، ومنه قوله تعالى { هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم } وقوله تعالى { يرجون تجارة لن تبور } .

واختلف العلماء في التراضي فقالت طائفة تمام وجوده بافتراق الأبدان بعد عقد البيع أو بأن يقول أحدهما لصاحبه اختر ، وإليه ذهب جماعة من الصحابة والتابعين ، وبه قال الشافعي والثوري والليث وابن عيينة وإسحق وغيرهم ، وقال مالك وأبو حنيفة : تمام البيع هو أن يعقد البيع بالألسنة فيرتفع بذلك الخيار .

وأجابوا عن الحديث بما لا طائل تحته .

وقرئ تجارة بالرفع على أن كان تامة وبالنصب على أنها ناقصة .

وروى الطبراني وابن حاتم قال السيوطي بسند صحيح عن ابن مسعود قال : إنها يعني هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة . وعن عكرمة والحسن قالا : كان الرجل يتحرج أن يأكل عند أحد من الناس بعدما نزلت هذه الآية التي في النور { ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم } الآية .

وأخرج ابن ماجه وابن المنذر عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما البيع عن تراض ) {[451]} .

{ ولا تقتلوا أنفسكم } أي لا يقتل بعضكم أيها المسلمون بعضا إلا بسبب أثبته الشرع ، وإنما قال أنفسكم لأنهم أهل دين واحد فهم كنفس واحدة ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع : ( ألا لا ترجعوا بعدي كفارا بضرب بعضكم رقاب بعض ) {[452]} .

وقيل إن هذا نهي للإنسان عن قتل نفسه بارتكاب ما يؤدي إلى هلاكها ، أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن تحسى سما فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم يتردى فيها خالدا مخلدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه أي يضرب بها نفسه في نار جهنم مخلدا فيها أبدا{[453]} ، وفي الباب أحاديث .

أو لا تقتلوا أنفسكم باقتراف المعاصي يعني لا يفعل شيئا يستحق به القتل أن يقتل فيقتل به فيكون هو الذي تسبب في قتل نفسه بكسب الجريمة ، وقيل لا تقتلوا بأكل المال بالباطل وقيل لا تهلكوا أنفسكم بأن تعملوا عملا ربما أدى إلى قتلها ، أو المراد النهي عن أن يقتل الإنسان نفسه حقيقة .

ولا مانع من حمل الآية على جميع هذه المعاني ، ومما يدل على ذلك احتجاج عمرو بن العاص بها حين لم يغتسل بالماء البارد حين أجنب في غزوة ذات السلاسل فقرر النبي صلى الله عليه وسلم احتجاجه ، وهو في مسند أحمد وسنن أبي داود وغيرهما .

{ إن الله كان بكم رحيما } ومن رحمته بكم أن نهاكم عن كل شيء تستوجبون به مشقة أو محنة ، وقيل إن الله تعالى أمر بني إسرائيل بقتل أنفسهم ليكون ذلك توبة لهم ، وكان بكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم رحيما حيث لم يكلفكم تلك التكاليف الصعبة .


[451]:صحيح الجامع الصغير 2319.
[452]:مسلم22- البخاري894.
[453]:مسلم109- البخاري721.