قوله تعالى : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم } . أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد بن يوسف أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا علي بن عبد الله ، أخبرنا سفيان ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز ، أسواقاً في الجاهلية ، فلما كان الإسلام تأثموا من التجارة فيها فأنزل الله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ) في مواسم الحج ، قرأ ابن عباس كذا .
وروى عن أبي أمامة التيمي قال : قلت لابن عمر : إنا قوم نكري في هذا الوجه يعني إلى مكة فيزعمون أن لا حج لنا ، فقال : ألستم تحرمون كما يحرمون ؟ وتطوفون كما يطوفون ؟ وترمون كما يرمون ؟ قلت بلى ، قال : أنت حاج : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الذي سألتني عنه فلم يجبه بشيء حتى نزل جبريل بهذه الآية .
قوله تعالى : { ليس عليكم جناح } . أي حرج .
قوله تعالى : { أن تبتغوا فضلاً } . أي رزقاً .
قوله تعالى : { من ربكم } . يعني بالتجارة في مواسم الحج .
قوله تعالى : { فإذا أفضتم } . دفعتم ، والإفاضة : دفع بكثرة ؛وأصله من قول العرب : أفاض الرجل ماء أي :صبه .
قوله تعالى : { من عرفات } . هي جمع عرفة ، جمع بما حولها وإن كانت بقعة واحدة كقولهم : ثوب أخلاق . واختلفوا في المعنى الذي لأجله سمي الموقف عرفات ، واليوم عرفة . فقال عطاء : كان جبريل عليه السلام يري إبراهيم عليه السلام المناسك ويقول عرفت ؟ فيقول عرفت فسمي ذلك المكان عرفات واليوم عرفة ، وقال الضحاك : إن آدم عليه السلام لما أهبط إلى الأرض وقع بالهند وحواء بجدة ، فجعل كل واحد منهما يطلب صاحبه فاجتمعا بعرفات يوم عرفة . وتعارفا فسمي اليوم يوم عرفة ، والموضع عرفات ، وقال السدي لما أذن إبراهيم في الناس بالحج وأجابوه بالتلبية وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات ونعتها له فخرج فلما بلغ الجمرة عند القعبة استقبله الشيطان ليرده فرماه بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة ، فطار فوقع على الجمرة الثانية ، فرماه وكبر فطار فوقع على الجمرة الثالثة ، فرماه وكبر ، فلما رأى الشيطان أنه لا يطيعه ذهب ، فانطلق إبراهيم حتى أتى ذا المجاز فلما نظر إليه لم يعرفه ، فجاز ، فسمي ذا المجاز ، ثم انطلق حتى وقف بعرفات فعرفها بالنعت فسمي الوقت عرفة والموضع عرفات ، حتى إذا أمسى ازدلف ، أي قرب إلى جمع ، فسمي المزدلفة .
وروي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام رأى ليلة التروية في منامه أنه يؤمر بذبح ابنه فلما أصبح روى يومه أجمع أي فكر ، أمن الله تعالى هذه الرؤيا أم من الشيطان ؟ فسمي اليوم يوم التروية ، ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً فلما أصبح عرف أن ذلك من الله تعالى فسمي اليوم يوم عرفة ، وقيل سمي بذلك لعلو الناس فيه على جباله ، والعرب تسمى ما علا عرفة ، ومنه سمي عرف الديك لعلوه ، وقيل : سمي بذلك لأن الناس يعترفون في ذلك اليوم بذنوبهم ، وقيل : سمي بذلك من العرف وهو الطيب ، وسمي منىً لأنه يمنى فيه الدم ، أي يصب فيكون فيه ، فيكون فيه الفروث والدماء ، ولا يكون الموضع طيباً ، وعرفات طاهرة عنها فتكون طيبة .
قوله تعالى : { فاذكروا الله } . بالدعاء والتلبية .
قوله تعالى : { عند المشعر الحرام } . وهو ما بين جبلي المزدلفة من مرمي عرفة إلى المحسر ، وليس المأزمان ولا المحسر من المشعر الحرام ، وسمي مشعر ، من الشعار وهي العلامة لأنه من معالم الحج ، وأصل الحرام : من المنع فهو ، ممنوع أن يفعل فيه ما لم يؤذن فيه ، وسمي المزدلفة جمعاً : لأنه يجمع فيه بين صلاة المغرب والعشاء ، والإفاضة من عرفات تكون بعد غروب الشمس ، ومن جمع قبل طلوعها من يوم النحر . قال طاووس كان أهل الجاهلية يدفعون من عرفة قبل أن تغيب الشمس ومن مزدلفة بعد أن تطلع الشمس ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، فأخر الله هذه وقدم هذه .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي ، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن موسى بن عقبة عن كريب مولى عبد الله بن عباس عن أسامة بن زيد أنه سمعه يقول : دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالشعب نزل فبال ، ثم توضأ فلم يسبغ الوضوء ، فقلت له : الصلاة يا رسول الله قال : فقال الصلاة أمامك ، فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ فأسبغ الوضوء ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ، ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً . وقال جابر : دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المزدلفة ، فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبح بينهما شيئاً ، ثم اضطجع حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة ، ودعاه وكبره وهلله ووحده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أخبرنا محمد ابن يوسف ، أخبرنا محمد بن إسماعيل ، أخبرنا زهير بن حرب ، أخبرنا وهب بن جرير ، أخبرنا أبي عن يونس الأيلي عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس أن أسامة بن زيد : كان ردف النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة إلى المزدلفة ، ثم أردف الفضل من مزدلفة إلى منى ، قال : فكلاهما قال : لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يلبي حتى رمى جمرة العقبة .
قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } . أي واذكروه بالتوحيد والتعظيم كما ذكركم بالهداية فهداكم لدينه ومناسك حجه .
قوله تعالى : { وإن كنتم من قبله لمن الضالين } . أي وقد كنتم ، وقيل : وما كنتم من قبله إلا من الضالين . كقوله تعالى : ( وإن نظنك لمن الكاذبين ) أي : وما نظنك إلا من الكاذبين ، والهاء في قوله " من قبله " راجعة إلى الهدى ، وقيل : إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كناية عن غير مذكور .
{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
لما أمر تعالى بالتقوى ، أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في مواسم الحج وغيره ، ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان المقصود هو الحج ، وكان الكسب حلالا منسوبا إلى فضل الله ، لا منسوبا إلى حذق العبد ، والوقوف مع السبب ، ونسيان المسبب ، فإن هذا هو الحرج بعينه .
وفي قوله : { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } دلالة على أمور :
أحدها : الوقوف بعرفة ، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج ، فالإفاضة من عرفات ، لا تكون إلا بعد الوقوف .
الثاني : الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ، وهو المزدلفة ، وذلك أيضا معروف ، يكون ليلة النحر بائتا بها ، وبعد صلاة الفجر ، يقف في المزدلفة داعيا ، حتى يسفر جدا ، ويدخل في ذكر الله عنده ، إيقاع الفرائض والنوافل فيه .
الثالث : أن الوقوف بمزدلفة ، متأخر عن الوقوف بعرفة ، كما تدل عليه الفاء والترتيب .
الرابع ، والخامس : أن عرفات ومزدلفة ، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها ، وإظهارها .
السادس : أن مزدلفة في الحرم ، كما قيده بالحرام .
السابع : أن عرفة في الحل ، كما هو مفهوم التقييد ب " مزدلفة "
{ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ } أي : اذكروا الله تعالى كما منّ عليكم بالهداية بعد الضلال ، وكما علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، فهذه من أكبر النعم ، التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم بالقلب واللسان .
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا } أي في أن تبتغوا أي تطلبوا . { فضلا من ربكم } عطاء ورزقا منه ، يريد الربح بالتجارة ، وقيل : كان عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقهم في الجاهلية يقيمونها مواسم الحج ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام تأثموا منه فنزلت . { فإذا أفضتم من عرفات } دفعتم منها بكثرة ، من أفضت الماء إذا صببته بكثرة . وأصله أفضتم أنفسكم فحذف المفعول كما حذف في دفعت من البصرة . و{ عرفات } جمع سمي به كأذراعات ، وإنما نون وكسر وفيه العلمية والتأنيث لأن تنوين الجمع تنوين المقابلة لا تنوين التمكين ولذلك مع اللام ، وذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض لعدم الصرف ، وهنا ليس كذلك . أو لأن التأنيث إما أن يكون بالتاء المذكورة وهي ليست تاء تأنيث . وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث ، أو بتاء مقدرة كما في سعاد ولا يصح تقديرها لأن المذكورة تمنعه من حيث إنها كالبدل لها لاختصاصها بالمؤنث كتاء بنت ، وإنما سمي الموقف عرفة لأنه نعت لإبراهيم عليه الصلاة والسلام ، فلما أبصره عرفه أو لأن جبريل عليه السلام كان يدور به في المشاعر فلما أراه إياه قال قد عرفت ، أو لأن آدم وحواء التقيا فيه فتعارفا . أو لأن الناس يتعارفون فيه . وعرفات للمبالغة في ذلك وهي من الأسماء المرتجلة إلا أن يجعل جمع عارف ، وفيه دليل على وجوب الوقوف بها لأن الإفاضة لا تكون إلا بعده وهي مأمور بها بقوله تعالى : { ثم أفيضوا } أو مقدمة للذكر المأمور به وفيه نظر إذ الذكر غير واجب بل مستحب . وعلى تقدير أنه واجب فهو واجب مقيد واجب مطلق حتى تجب مقدمته والأمر به غير مطلق . { فاذكروا الله } بالتلبية والتهليل والدعاء . وقيل : بصلاة العشاءين . { عند المشعر الحرام } جبل يقف عليه الإمام ويسمى " قزح " . وقيل : ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر ، ويؤيد الأول ما روي جابر : أنه عليه الصلاة والسلام لما صلى الفجر -يعني بالمزدلفة- بغلس ، ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر وإنما سمي مشعرا لأنه معلم العبادة ، ووصف بالحرام لحرمته : ومعنى عند المشعر الحرام : مما يليه ويقرب منه فإنه أفضل ، وإلا فالمزدلفة كلها موقف إلا وادي محسر . { واذكروه كما هداكم } كما علمكم ، أو اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة إلى المناسك وغيرها . وما مصدرية أو كافة . { وإن كنتم من قبله } أي الهدى . { لمن الضالين } أي الجاهلين بالإيمان والطاعة ، وأن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة . وقيل ؛ إن نافية واللام بمعنى إلا ، كقوله تعالى : { وإن نظنك لمن الكاذبين } .