معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

قوله تعالى : { الذي جعل لكم الأرض فراشاً } . أي بساطاً ، وقيل مناماً وقيل وطاء ، أي ذللها ولم يجعلها حزنة لا يمكن القرار عليها ، والجعل هاهنا بمعنى الخلق .

قوله تعالى : { والسماء بناء } . وسقفاً مرفوعاً .

قوله تعالى : { وأنزل من السماء } . أي من السحاب .

قوله تعالى : { ماء } . وهو المطر .

قوله تعالى : { فأخرج به من الثمرات } . من ألوان الثمرات وأنواع النبات .

قوله تعالى : { رزقاً لكم } . طعاماً لكم وعلفاً لدوابكم .

قوله تعالى : { فلا تجعلوا لله أنداداً } . أي أمثالاً تعبدونهم كعبادة الله . وقال أبو عبيدة : الند الضد ، وهو من الأضداد والله تعالى بريء من المثل والضد .

قوله تعالى : { وأنتم تعلمون } . أنه واحد خالق هذه الأشياء .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

هذا أمر عام لكل{[64]}  الناس ، بأمر عام ، وهو العبادة الجامعة ، لامتثال أوامر الله ، واجتناب نواهيه ، وتصديق خبره ، فأمرهم تعالى بما خلقهم له ، قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ }

ثم استدل على وجوب عبادته وحده ، بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم ، فخلقكم بعد العدم ، وخلق الذين من قبلكم ، وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة والباطنة ، فجعل لكم الأرض فراشا تستقرون عليها ، وتنتفعون بالأبنية ، والزراعة ، والحراثة ، والسلوك من محل إلى محل ، وغير ذلك من أنواع{[65]}  الانتفاع بها ، وجعل السماء بناء لمسكنكم ، وأودع فيها من المنافع ما هو من ضروراتكم وحاجاتكم ، كالشمس ، والقمر ، والنجوم .

{ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } والسماء : [ هو ] كل ما علا فوقك فهو سماء ، ولهذا قال المفسرون : المراد بالسماء هاهنا : السحاب ، فأنزل منه تعالى ماء ، { فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ } كالحبوب ، والثمار ، من نخيل ، وفواكه ، [ وزروع ] وغيرها { رِزْقًا لَكُمْ } به ترتزقون ، وتقوتون وتعيشون وتفكهون .

{ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا } أي : نظراء وأشباها من المخلوقين ، فتعبدونهم كما تعبدون الله ، وتحبونهم كما تحبون الله ، وهم مثلكم ، مخلوقون ، مرزوقون مدبرون ، لا يملكون مثقال ذرة في السماء ولا في الأرض ، ولا ينفعونكم ولا يضرون ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أن الله ليس له شريك ، ولا نظير ، لا في الخلق ، والرزق ، والتدبير ، ولا في العبادة{[66]}  فكيف تعبدون معه آلهة أخرى مع علمكم بذلك ؟ هذا من أعجب العجب ، وأسفه السفه .

وهذه الآية جمعت بين الأمر بعبادة الله وحده ، والنهي عن عبادة ما سواه ، وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ، وبطلان عبادة من سواه ، وهو [ ذكر ] توحيد الربوبية ، المتضمن لانفراده بالخلق والرزق والتدبير ، فإذا كان كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ، فكذلك فليكن إقراره بأن [ الله ] لا شريك له في العبادة ، وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية الباري ، وبطلان الشرك .

وقوله تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يحتمل أن المعنى : أنكم إذا عبدتم الله وحده ، اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ، لأنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك ، ويحتمل أن يكون المعنى : أنكم إذا عبدتم الله ، صرتم من المتقين الموصوفين بالتقوى ، وكلا المعنيين صحيح ، وهما متلازمان ، فمن أتى بالعبادة كاملة ، كان من المتقين ، ومن كان من المتقين ، حصلت له النجاة من عذاب الله وسخطه .


[64]:- في ب: لجميع.
[65]:- في ب: وجوه.
[66]:- في ب: ولا في الألوهية والكمال.

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ فِرَٰشٗا وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءٗ وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءٗ فَأَخۡرَجَ بِهِۦ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزۡقٗا لَّكُمۡۖ فَلَا تَجۡعَلُواْ لِلَّهِ أَندَادٗا وَأَنتُمۡ تَعۡلَمُونَ} (22)

{ الذي جعل لكم الأرض فراشا } صفة ثانية أو مدح منصوب ، أو مرفوع ، أو مبتدأ خبره فلا تجعلوا وجعل من الأفعال العامة يجيء على ثلاثة أوجه : بمعنى صار ، وطفق فلا يتعدى كقوله :

فقد جعلت قلوص بني سهيل *** من الأكوار مرتعها قريب

وبمعنى أوجد فيتعدى إلى مفعول واحد كقوله تعالى : { وجعل الظلمات والنور } وبمعنى صير ، ويتعدى إلى مفعولين كقوله تعالى : { جعل لكم الأرض فراشا } والتصيير يكون بالفعل تارة ، وبالقول أو العقد أخرى . ومعنى جعلها فراشا أن جعل بعض جوانبها بارزا ظاهرا عن الماء ، مع ما في طبعه من الإحاطة بها ، وصيرها متوسطة بين الصلابة واللطافة حتى صارت مهيأة لأن يقعدوا ويناموا عليها كالفراش المبسوط ، وذلك لا يستدعي كونها مسطحة ، لأن كرية شكلها مع عظم حجمها . واتساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها .

{ والسماء بناء } قبة مضروبة عليكم . والسماء اسم جنس يقع على الواحد والمتعدد كالدينار والدرهم ، وقيل جمع سماءة . والبناء مصدر ، سمي به المبني بيتا كان أو قبة أو خباء ، ومنه بني على امرأته ، لأنهم كانوا إذا تزوجوا ضربوا عليها خباء جديدا .

{ وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم } عطف على ( جعل ) ، وخروج الثمار بقدرة الله تعالى ومشيئته ، ولكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها ومادة لها كالنطفة للحيوان ، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها وكيفياتها على المادة الممتزجة منهما ، أو أودع في الماء قوة فاعلة وفي الأرض قوة قابلة يتولد من اجتماعهما أنواع الثمار ، وهو قادر على أن يوجد الأشياء كلها بلا أسباب ومواد كما أبدع نفوس الأسباب والمواد ، ولكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال ، صنائع وحكم يجدد فيها لأولي الأبصار عبرا ، وسكونا إلى عظيم قدرته ليس في إيجادها دفعة ، و{ من } الأولى للابتداء سواء أريد بالسماء السحاب فإن ما علاك سماء ، أو الفلك فإن المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب ومنه إلى الأرض على ما دلت عليه الظواهر . أو من أسباب سماوية تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جو الهواء فتنعقد سحابا ماطرا . و{ من } الثانية للتبعيض بدليل قوله تعالى : { فأخرجنا به ثمرات } واكتناف المنكرين له أعني ماء ورزقا كأنه قال : وأنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم ، وهكذا الواقع إذ لم ينزل من السماء الماء كله ، ولا أخرج بالمطر كل الثمرات ، ولا جعل كل المرزوق ثمارا . أو للتبيين ، ورزقا مفعول بمعنى المرزوق كقولك أنفقت من الدراهم ألفا . وإنما ساغ الثمرات والموضع موضع الكثرة ، لأنه أراد بالثمرات جماعة الثمرة التي في قولك أدركت ثمرة بستانه ، ويؤيده قراءة من قرأ : " من الثمرة " على التوحيد . أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى : { كم تركوا من جنات وعيون } وقوله : { ثلاثة قروء } . أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة . و{ لكم } صفة رزقا إن أريد به المرزوق ومفعوله إن أريد به المصدر كأنه قال : رزقا إياكم .

{ فلا تجعلوا لله أندادا } متعلق باعبدوا على أنه نهي معطوف عليه . أو نفي منصوب بإضمار أن جواب له . أو بلعل على أن نصب تجعلوا نصب فاطلع في قوله تعالى : { لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع } إلحاقا لها بالأشياء الستة لاشتراكها في أنها غير موجبة ، والمعنى : إن تتقوا لا تجعلوا لله أندادا ، أو بالذي جعل ، إن استأنفت به على أنه نهي وقع خبرا على تأويل مقول فيه : لا تجعلوا ، والفاء للسببية أدخلت عليه لتضمن المبتدأ معنى الشرط والمعنى : أن من خصكم بهذه النعم الجسام والآيات العظام ينبغي أن لا يشرك به . والند : المثل المناوئ ، قال جرير :

أتيما تجعلون إلي ندا *** وما تيم لذي حسب نديد

من ند يند ندودا : إذا نفر ، وناددت الرجل خالفته ، خص بالمخالف المماثل في الذات كما خص المساوي بالمماثل في القدر ، وتسمية ما يعبده المشركون من دون الله ( أندادا ) ، وما زعموا أنها تساويه في ذاته وصفاته ولا أنها تخالفه في أفعاله لأنهم لما تركوا عبادته إلى عبادتها ، وسموها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنها ذوات واجبة بالذات ، قادرة على أن تدفع عنهم بأس الله ، وتمنحهم ما لم يرد الله بهم من خير ، فتهكم بهم وشنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ند . ولهذا قال موحد الجاهلية زيد بن عمرو بن نفيل :

أربا واحدا أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعا *** كذلك يفعل الرجل البصير

{ وأنتم تعلمون } حال من ضمير فلا تجعلوا ، ومفعول تعلمون مطروح ، أي وحالكم أنكم من أهل العلم والنظر وإصابة الرأي ، فلو تأملتم أدنى تأمل اضطر عقلكم إلى إثبات موجد للمكنات منفرد بوجوب الذات ، متعال عن مشابهة المخلوقات . أو منوي وهو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله كقوله سبحانه وتعالى : { هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء } وعلى هذا فالمقصود منه التوبيخ والتثريب ، لا تقييد الحكم وقصره عليه ، فإن العالم والجاهل المتمكن من العلم سواء في التكليف .

واعلم إن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة الله سبحانه وتعالى ، والنهي عن الإشراك به تعالى ، والإشارة إلى ما هو العلة والمقتضى . وبيانه أنه رتب الأمر بالعبادة على صفة الربوبية إشعارا بأنها العلة لوجوبها ، ثم بين ربوبيته بأنه تعالى خالقهم وخالق أصولهم وما يحتاجون إليه في معاشهم من المقلة والمظلة والمطاعم والملابس ، فإن الثمرة أعم من المطعوم ، والرزق أعم من المأكول والمشروب . ثم لما كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيته تعالى رتب تعالى ، عليها النهي عن الإشراك به ، ولعله سبحانه أراد من الآية الأخيرة ، مع ما دل عليه الظاهر وسيق فيه الكلام ، الإشارة إلى تفصيل خلق الإنسان وما أفاض عليه من المعاني والصفات على طريقة التمثيل ، فمثل البدن بالأرض ، والنفس بالسماء ، والعقل بالماء ، وما أفاض عليه من الفضائل العملية والنظرية المحصلة بواسطة استعمال العقل للحواس ، وازدواج القوى النفسانية والبدنية ، بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بقدرة الفاعل المختار ، فإن لكل آية ظهرا وبطنا ولكل حد مطلعا .