قوله تعالى : { ويسبح الرعد بحمده } ، أكثر المفسرين على أن الرعد اسم ملك يسوق السحاب ، والصوت المسموع منه تسبيحه . قال ابن عباس : من سمع صوت الرعد فقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده ، والملائكة من خيفته وهو على كل شيء قدير ، فإن أصابته صاعقة فعلي ديته . وعن عبد الله بن الزبير : أنه كان إذا سمع صوت الرعد ترك الحديث . وقال : سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . ويقول إن هذا لوعيد لأهل الأرض شديد . وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى : { لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولم أسمعهم صوت الرعد } وقال جوبير عن الضحاك عن ابن عباس : الرعد ملك موكل بالسحاب يصرفه إلى حيث يؤمر ، وأن بحور الماء في نقرة إبهامه ، وأنه يسبح الله تعالى ، فإذا سبح لا يبقى ملك في السماء إلا رفع صوته بالتسبيح فعندها ينزل المطر . { والملائكة من خيفته } ، أي : تسبح الملائكة من خيفة الله عز وجل وخشيته . وقيل أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد ، جعل الله تعالى له أعوانا ، فهم خائفون خاضعون طائعون . قوله تعالى : { ويرسل الصواعق } ، جمع صاعقة ، وهي : العذاب المهلك ، ينزل من البرق فيحرق من يصيبه ، { فيصيب بها من يشاء } ، كما أصاب أربد بن ربيعة . وقال محمد بن علي الباقر : الصاعقة تصيب المسلم وغير المسلم ولا تصيب الذاكر . { وهم يجادلون } ، يخاصمون ، { في الله } ، نزلت في شأن أربد بن ربيعة حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم مم ربك ؟ أمن در أم من ياقوت أم من ذهب ؟ فنزلت صاعقة من السماء فأحرقته . وسئل الحسن عن قوله عز وجل : { يرسل الصواعق } الآية ، قال : كان رجل من طواغيت العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم نفرا يدعونه إلى الله وإلى رسوله . فقال لهم : أخبروني عن رب محمد هذا الذي تدعونني إليه مم هو ؟ من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس ؟ فاستعظم القوم مقالته فانصرفوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ما رأينا رجلا أكفر قلبا ولا أعتى على الله منه ! فقال : ارجعوا إليه ، فرجعوا إليه ، فجل يزيدهم على مثل مقالته الأولى ، وقال أأجيب محمدا إلى رب لا أراه ولا أعرفه ؟ فانصرفوا وقالوا : يا رسول الله ما زادنا على مقالته الأولى وأخبث . فقال ارجعوا إليه ، فرجعوا ، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه ، وهو يقول هذه المقالة إذ ارتفعت سحابة ، فكانت فوق رؤوسهم ، فرعدت وبرقت ، ورمت بصاعقة ، فاحترق الكافر ، وهم جلوس ، فجاؤوا يسعون ليخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستقبلهم قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا لهم : احترق صاحبكم ، فقالوا : من أين علمتم فقالوا أوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم : { ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله } . { وهو شديد المحال } ، قال علي رضي الله عنه : شديد الأخذ . وقال ابن عباس : شديد الحول . وقال الحسن : شديد الحقد وقال مجاهد : شديد القوة . وقال أبو عبيدة : شديد العقوبة . وقيل : شديد المكر . والمحال والمماحلة : المماكرة والمغالبة .
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } وهو الصوت الذي يسمع من السحاب المزعج للعباد ، فهو خاضع لربه مسبح بحمده ، { و } تسبح { الْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ } أي : خشعا لربهم خائفين من سطوته ، { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } وهي هذه النار التي تخرج من السحاب ، { فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } من عباده بحسب ما شاءه وأراده وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ أي : شديد الحول والقوة فلا يريد شيئا إلا فعله ، ولا يتعاصى عليه شيء ولا يفوته هارب .
فإذا كان هو وحده الذي يسوق للعباد الأمطار والسحب التي فيها مادة أرزاقهم ، وهو الذي يدبر الأمور ، وتخضع له المخلوقات العظام التي يخاف منها ، وتزعج العباد وهو شديد القوة - فهو الذي يستحق أن يعبد وحده لا شريك له .
ولهذا قال : { لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ }
{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } كما قال تعالى : { وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] .
وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا إبراهيم بن سعد ، أخبرني أبي قال : كنت جالسًا إلى جنب حُمَيْد بن عبد الرحمن في المسجد ، فمر شيخ من بني غفار ، فأرسل إليه حميد ، فلما أقبل قال : يا ابن أخي ، وسع{[15496]} له فيما بيني وبينك ، فإنه قد صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم . فجاء حتى جلس فيما بيني وبينه ، فقال له حميد : ما الحديث الذي حدثتني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال الشيخ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله ينشئ السحاب ، فينطق أحسن النطق ، ويضحك أحسن الضحك " {[15497]} .
والمراد - والله أعلم - أن نطقَها الرعدُ ، وضحكها البرقُ .
وقال موسى بن عبيدة ، عن سعد بن إبراهيم قال : يبعث الله الغيث ، فلا أحسن منه مضحكا ، ولا آنس منه منطقا ، فضحكه البرق ، ومنطقه الرعد .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا هشام بن عبيد الله الرازي ، عن محمد بن مسلم قال : بلغنا أن البرق مَلكٌ له أربعة وجوه : وجه إنسان ، ووجه ثور ، ووجه نسر ، ووجه أسد ، فإذا مَصَع{[15498]} بذنبه فذاك البرق . {[15499]} وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا الحجاج ، حدثني أبو مطر ، عن سالم ، عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سَمع الرعْد والصواعق قال : " اللهم ، لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك " .
ورواه الترمذي ، والبخاري في كتاب الأدب ، والنسائي في اليوم والليلة ، والحاكم في مستدركه ، من حديث الحجاج بن أرطاة ، عن أبي مطر - ولم يسم به . {[15500]} وقال [ الإمام ]{[15501]} أبو جعفر بن جرير : حدثنا أحمد بن إسحاق ، حدثنا أبو أحمد ، حدثنا إسرائيل ، عن أبيه{[15502]} عن رجل ، عن أبي هريرة ، رفع الحديث قال : إنه كان إذا سمع الرعد قال : " سبحان من يُسبّح الرعْد بحمده " . {[15503]}
وروي عن علي ، رضي الله عنه ، أنه كان إذا سمع صوت الرعد قال : سبحان من سَبَّحت له .
وكذا روي عن ابن عباس ، والأسود بن يزيد ، وطاوس : أنهم كانوا يقولون كذلك .
وقال الأوزاعي : كان ابن أبي زكريا يقول : من قال حين يسمع الرعد : سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة .
وعن عبد الله بن الزبير{[15504]} أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال : سبحان الذي يسبّح الرعدُ بحمده والملائكة من خيفته ، ويقول : إن هذا لوعيد{[15505]} شديدٌ لأهل الأرض . رواه مالك في الموطأ ، والبخاري في كتاب الأدب{[15506]} .
وقال الإمام أحمد : حدثنا سليمان بن داود الطيالسي ، حدثنا صَدَقة بن موسى ، حدثنا محمد بن واسع ، عن شتيز{[15507]} بن نهار ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال ربكم عز وجل : لو أن عبيدي أطاعوني لأسقيتهم المطر بالليل ، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار ، ولما أسمعتهم{[15508]} صوت الرعد " . {[15509]} وقال الطبراني : حدثنا زكريا بن يحيى الساجي ، حدثنا أبو كامل الجَحْدري ، حدثنا يحيى بن كثير أبو النضر ، حدثنا عبد الكريم ، حدثنا عطاء ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ؛ فإنه لا يصيب ذاكرا " {[15510]} . وقوله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } أي : يرسلها نقمَةً ينتقم بها ممن يشاء ، ولهذا تكثر في آخر الزمان ، كما قال الإمام أحمد :
حدثنا محمد بن مصعب ، حدثنا عمارة{[15511]} عن أبي نضرة ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة ، حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق تلكم{[15512]} الغداة ؟ فيقولون صعِق فلان وفلان وفلان " . {[15513]} وقد روي في سبب نزولها ما رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي :
حدثنا إسحاق ، حدثنا علي بن أبي سارة الشَّيباني ، حدثنا ثابت ، عن أنس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلا مرة إلى رجل من فراعنة العرب فقال : " اذهب فادعه لي " . قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له : من رسول الله ؟ وما الله ؟ أمِن ذهب هو ؟ أم من فضة هو ؟ أم من نحاس هو ؟ قال : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : يا رسول الله ، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك ،
قال لي كذا وكذا . فقال : " ارجع إليه الثانية " . أراه ، فذهب فقال له مثلها . فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك . قال : " ارجع إليه فادعه " . فرجع إليه الثالثة . قال : فأعاد عليه ذلك الكلام . فبينا هو يكلمه ، إذ بعث الله ، عز وجل ، سحابة حيال رأسه ، فرعدت ، فوقعت منها صاعقة ، فذهب بقحف رأسه فأنزل الله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }
ورواه ابن جرير ، من حديث علي بن أبي سارة ، به{[15514]} ورواه الحافظ أبو بكر البزار ، عن عبدة بن عبد الله ، عن يزيد بن هارون ، عن ديلم بن غَزْوان ، عن ثابت ، عن أنس ، فذكر نحوه{[15515]} . وقال : حدثنا الحسن بن محمد ، حدثنا عفان ، حدثنا أبان بن يزيد ، حدثنا أبو عمران الجوقي ، عن عبد الرحمن بن صُحَار العبدي : أنه بلغه أن نبي الله بعثه{[15516]} إلى جَبَّار يدعوه ، فقال : أرأيتم{[15517]} ربكم ، أذهب هو ؟ أو فضة هو ؟ ألؤلؤ هو ؟ قال : فبينا هو يجادلهم ، إذ بعث الله سحابة فرعدت فأرسل عليه صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، ونزلت هذه الآية .
وقال أبو بكر بن عياش ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا محمد ، أخبرني عن ربك ، [ من أي شيء هو ]{[15518]} من نحاس هو ؟ من لؤلؤ ؟ أو ياقوت ؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته ، وأنزل الله : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ }
وقال قتادة : ذُكر لنا أنَّ رجلا أنكر القرآن ، وكذب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ } الآية .
وذكروا في سبب نزولها قصة عامر بن الطفيل وأربد{[15519]} بن ربيعة لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عامر بن الطفيل - لعنه الله : أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا جَرْدا ورجالا مردا . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يأبى الله عليك ذلك وأبناء قَيْلة{[15520]} يعني : الأنصار ، ثم إنهما هما بالفتك{[15521]} بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وجعل أحدهما يخاطبه ، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه ، فحماه الله منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة فانطلقا في أحياء العرب ، يجمعان الناس لحربه ، عليه السلام{[15522]} فأرسل الله على أربد سحابة فيها صاعقة فأحرقته . وأما عامر بن الطفيل فأرسل الله عليه الطاعون ، فخرجت فيه غُدّة عظيمة ، فجعل يقول : يا آل عامر ، غُدَّة كغدَّة البكر ، وموت في بيت سَلُولية{[15523]} ؟ حتى ماتا{[15524]} لعنهما الله ، وأنزل الله في مثل ذلك :
{ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } وفي ذلك يقول لبيد بن ربيعة ، أخو أربد يرثيه :
أخشَى عَلَى أَرْبَدَ الحُتُوفَ وَلا *** أرْهَب نَوء السّماك والأسَد
فَجَعني الرّعْدُ والصّواعِقُ بال *** فارس يَوم الكريهَة النَّجُدِ{[15525]} وقال الحافظ أبو القاسم الطبراني : حدثنا مَسْعَدة بن سعد{[15526]} العطار ، حدثنا إبراهيم بن المنذر الحزامي ، حدثني عبد العزيز بن عمران ، حدثني عبد الرحمن وعبد الله ابنا زيد بن أسلم ، عن أبيهما ، عن عطاء بن يسار ، عن ابن عباس ، أن أربد بن قيس بن جَزْء بن جليد{[15527]} بن جعفر بن كلاب ، وعامر بن الطفيل بن مالك ، قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانتهيا إليه وهو جالس ، فجلسا بين يديه ، فقال عامر بن الطفيل : يا محمد ، ما تجعل لي إن أسلمتُ ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لك ما للمسلمين ، وعليك ما عليهم " . قال عامر بن الطفيل : أتجعل لي الأمر إن أسلمت من بعدك ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ليس ذلك لك ولا لقومك ، ولكن لك أعنَّة الخيل " . قال : أنا الآن في أعنَّة خيل نجد ، اجعل لي الوبَرَ ولك المدَرَ . قال رسول الله : " لا " . فلما قفلا من عنده قال عامر : أما والله لأملأنَّهَا عليك خيلا ورجالا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يمنعك الله " . فلما خرج أربد وعامر ، قال عامر : يا أربد ، أنا أشغل عنك محمدا صلى الله عليه وسلم بالحديث ، فاضربه بالسيف ، فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يَرضَوا بالدية ، ويكرهوا الحرب ، فنعطيهم{[15528]} الدية . قال أربد : أفعل . فأقبلا راجعين إليه ، فقال عامر : يا محمد ، قم معي أكلمك . فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجلسا إلى الجدار ، ووقف معه رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلمه ، وسَلّ أربدُ السيف ، فلما وضع يده على السيف يبست يده على قائم السيف ، فلم يستطع سل السيف ، فأبطأ أربد على عامر بالضرب ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد ، وما يصنع ، فانصرف عنهما . فلما خرج عامر وأربد من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كانا بالحَرّة ، حَرّة واقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ وأسَيد بن حضير فقالا اشخصا يا عدوّي الله ، لعنكما الله . فقال عامر : من هذا يا سعد ؟ قال : هذا أسَيد بن حُضَير الكتائب{[15529]} فخرجا حتى إذا كانا بالرَّقم ، أرسل الله على أربدَ صاعقة فقتلته ، وخرج عامر حتى إذا كان بالخريم ، أرسل الله قرحة فأخذته فأدركه الليل في بيت امرأة من بني سلول ، فجعل يمس قرحته في حلقه ويقول : غدة كغدة الجمل في بيت سَلُولية{[15530]} ترغب أن يموت في بيتها ! ثم ركب فرسه فأحضره حتى مات عليه راجعا ، فأنزل الله فيهما : { اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأرْحَامُ } إلى قوله : { وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ } [ الرعد : 8 - 11 ] - قال : المعقبات من أمر الله يحفظون محمدًا صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر أربد وما قتله به ، فقال : { وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ } الآية{[15531]} .
وقوله : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ } أي : يَشُكّون في عظمته ، وأنه لا إله إلا هو ، { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ }
قال ابن جرير : شديدة مماحَلَته في عقوبة من طغى عليه وعتا وتمادى في كفره .
وهذه الآية شبيهة بقوله : { وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [ النمل : 50 ، 51 ] .
وعن علي ، رضي الله عنه : { وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ } أي : شديد الأخذ . وقال مجاهد : شديد القوة .
و { الرعد } ملك يزجر { السحاب } بصوته ، وصوته - هذا المسموع - تسبيح - و { الرعد } اسم الملك : وقيل : «الرعد » اسم صوت الملك وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا سمع «الرعد » قال :
«اللهم لا تهلكنا بغضبك ولا تقتلنا بعذابك وعافنا قبل ذلك »{[6935]} وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره : أنهم كانوا إذا سمعوا الرعد قالوا : سبحان من سبحت له وروي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع «الرعد » قال : «سبحان من سبح الرعد بحمده{[6936]} » وقال ابن أبي زكرياء : من قال - إذا سمع الرعد - سبحان الله وبحمده ، لم تصبه صاعقة .
وقيل في الرعد أيضاً إنه ريح تختنق بين السحاب - روي ذلك عن ابن عباس في غير ما ديوان .
قال القاضي أبو محمد : وهذا عندي فيه نظر ، لأنها نزعات الطبيعيين وغيرهم .
وروي أيضاً عن ابن عباس : أن الملك إذا غضب وزجر السحاب اصطدمت من خوفه فيكون البرق ، وتحتكّ فتكون الصواعق .
وقوله : { ويرسل الصواعق } الآية - قيل : إنه أدخلها في التنبيه على القدرة بغير سبب ساق ذلك . وقال ابن جريج : كان سبب نزولها قصة أربد أخي لبيد بن ربيعة لأمِّة وعامر بن الطفيل ، وكان من أمرهما - فيما روي - أنهما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدعاه إلى أن يجعل الأمر بعده إلى عامر بن الطفيل ويدخلا في دينه - فأبى ، فقال عامر : فتكون أنت على أهل الوبر{[6937]} ، وأنا على أهل المدر - فأبى ، فقال له عامر : فماذا تعطيني ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : «أعطيك أعنة الخيل ، فإنك رجل فارس » ؛ فقال له عامر : والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً حتى آخذك ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يأبى الله ذلك وأبناء قيلة »{[6938]} ؛ فخرجا من عنده ، فقال أحدهما لصاحبه : لو قتلناه ما انتطح فيه عنزان ، فتآمر في الرجوع لذلك ، فقال عامر لأربد : أنا أشغله لك بالحديث واضربه أنت بالسيف ؛ فجعل عامر يحدثه وأربد لا يصنع شيئاً ؛ فلما انصرفا قال له عامر : والله يا أربد لا خفتك أبداً ولقد كنت أخافك قبل هذا ، فقال له أربد : والله لقد أردت إخراج السيف فما قدرت على ذلك ، ولقد كنت أراك بيني وبينه أفأضربك ؟ فمضيا للحشد على النبي صلى الله عليه وسلم فأصابت أربد صاعقة فقتلته ، ففي ذلك يقول لبيد بن ربيعة أخوه :
أخشى على أربد الحتوف ولا***أرهب نوء السماك والأسد
فجعني الرعد والصواعق بال*** فارس يوم الكريهة النجد{[6935]}
وروي عن عبد الرحمن بن صحار العبدي أنه بلغه أن جباراً من جبابرة العرب بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليسلم فقال : أخبروني عن إله محمد أمن لؤلؤ هو أو من ذهب ؟ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه{[6936]} .
وقال مجاهد : إن بعض اليهود جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناظره ، فبينما هو كذلك إذ نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه فنزلت الآية فيه .
وقوله : { وهم يجادلون في الله } يجوز أن تكون إشارة إلى جدال اليهودي المذكور ، وتكون الواو واو حال ؛ أو إلى جدال الجبار المذكور . ويجوز - إن كانت الآية على غير سبب - أن يكون قوله : { وهم يجادلون في الله } إشارة إلى جميع الكفرة من العرب وغيرهم ، الذين جلبت لهم هذه التنبيهات .
و { المحال } : القوة والإهلاك ، ومنه قول الأعشى : [ الخفيف ]
فرع نبع يهتز في غصن المج *** د عظيم الندى شديد المحال{[6941]}
لا يغلبن صليبهم***ومحالهم عدواً محالك{[6942]}
وقرأ الأعرج والضحاك «المَحال » بفتح الميم بمعنى المحالة ، وهي الحيلة ، ومنه قول العرب في مثل : المرء يعجز لا المحالة ، وهذا كالاستدراج والمكر ونحوه وهذه استعارات في ذكر الله تعالى ، والميم إذا كسرت أصلية ، وإذا فتحت زائدة ، ويقال : محل الرجل بالرجل إذا مكر به وأخذه بسعاية شديدة{[6943]} .
عن عامر بن عبد الله بن الزبير، أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. ثم يقول: إن هذا لوعيد، لأهل الأرض شديد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
معنى قوله:"وَيُسَبّحُ الرّعْدُ بِحَمْدِهِ" ويعظم الله الرعدُ ويمجده، فيثنى عليه بصفاته، وينزّهه مما أضاف إليه أهل الشرك به ومما وصفوه به من اتخاذ الصاحبة والولد، تعالى ربنا وتقدّس.
وقوله: "مِنْ خِيفَتِهِ "يقول: وتسبح الملائكة من خيفة الله ورهبته.
وأما قوله: "وَيُرْسِلُ الصّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ" فقد بيّنا معنى الصاعقة فيما مضى بما أغنى عن إعادته...
وقوله: "وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللّهِ" يقول: وهؤلاء الذين أصابهم الله بالصواعق أصابهم في حال خصومتهم في الله عزّ وجلّ لرسوله صلى الله عليه وسلم. وقوله: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" يقول تعالى ذكره والله شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه وعَتَا وتمادى في كفره. والمِحال: مصدر من قول القائل: ماحَلتُ فلانا فأنا أماحله مماحلة ومحالاً، وفَعَلْتُ منه: مَحَلت أَمْحَل مَحْلاً: إذا عَرّض رجل رجلاً لما يهلكه... وفسّر ذلك معمر بن المثنى، وزعم أنه عنى به العقوبة والمكر والنكال... عن عليّ رضي الله عنه: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" قال: شديد الأخذ... عن مجاهد: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" قال: شديد القوّة... عن قتادة: "وَهُوَ شَدِيدُ المِحالِ" أي القوّة والحيلة...
والقول الذي ذكرناه عن قتادة في تأويل المحال أنه الحيلة، والقول الذي ذكره ابن جريج عن ابن عباس يدلان على أنهما كانا يقرآن: «وَهُوَ شَدِيدُ المَحَال» بفتح الميم، لأن الحيلة لا يأتي مصدرها مِحَالاً بكسر الميم، ولكن قد يأتي على تقدير المَفْعلة منها، فيكون مَحَالة، ومن ذلك قولهم: «المرء يعجز لا مَحالة»، والمحالة في هذا الموضع: المفعلة من الحيلة. فأما بكسر الميم، فلا تكون إلا مصدرا، من ما حلت فلانا أما حلهِ محالاً، والمماحلة بعيدة المعنى من الحيلة، ولا أعلم أحدا قرأه بفتح الميم. فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل ذلك ما قلنا من القول.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
"ويسبح الرعد بحمده" أي يذكِّرهم سلطانَه وعظمته، فيكون ذلك تسبيحه وما ذُكِّروا من سلطانه وعظمته.. "والملائكة من خيفته": الخوف يخرج على وجهين: أحدهما: خوف من عقوبته لأنه قد جاء فيهم الوعيد إذا زلوا كقوله: (ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم) [الأنبياء: 29]. والثاني: خوف رهبة وهيبة، لا خوف عقوبة، لأن الله تعالى وصفهم بالطاعة والاستسلام كقوله: (لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون) [التحريم: 6] وقوله: (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون) [الأنبياء: 19] ونحو ذلك...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
قوله:"ويسبح الرعد بحمده" فالتسبيح: تنزيه الله عز وجل عما لا يجوز عليه، والتنزيه له من كل صفة نقص تضاف إليه، وأصله البراءة من الشيء.
والرعد: اصطكاك أجرام السحاب بقدرة الله تعالى، وفيه أعظم العبرة وأوضح الدلالة، لأنه مع ثقله وهوله، وغلظ جرمه حتى يسمع مثل الرعد في عظمه معلق بقدرته تعالى لا يسقط إلى الأرض منه شيء ثم ينقشع كأنه لم يكن، ولا شيء منه... والحمد: الوصف بالجميل من الإحسان على وجه التعظيم...
وقوله: "ويرسل الصواعق "وهي جمع صاعقة وهي نار لطيفة تسقط من السماء بحال هائلة من شدة الرعد وعظم الأمر يقال: إنها قد تسقط على النخلة وكثير من الأشجار تحرقها، وعلى الحيوان فتقتله.
وقوله: "فيصيب بها" يعني بالصاعقة من يشاء من عباده.
وقوله "وهم يجادلون في الله" يعني هؤلاء الجهال مع مشاهدتهم لهذه الآيات يخاصمون أهل التوحيد، ويحاولون فتلهم عن مذهبهم بجدالهم. والجدال: فتل الخصم عن مذهبه بطريق الحجاج.
وقوله: "وهو شديد المحال" فالشدة: قوة العقدة... وشدة العقاب قوته يغلظ على النفس، كقوة العقدة. والمحال: الأخذ بالعقاب، يقال ماحلت فلانا... إذا فتلته إلى هلكه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَهُمْ} يعني الذين كفروا وكذّبوا رسول الله وأنكروا آياته {يجادلون فِي الله} حيث ينكرون على رسوله ما يصفه به من القدرة على البعث وإعادة الخلائق بقولهم {مِنْ يحيى العظام وَهِىَ رَمِيمٌ} [يس: 78] ويردّون الوحدانية باتخاذ الشركاء والأنداد، ويجعلونه بعض الأجسام المتوالدة بقولهم الملائكة بَنَات الله، فهذا جدالهم بالباطل، كقوله: {وجادلوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5]...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {وهو شديد المحال} لأن المحال -ككتاب: الكيد وروم الأمر بالحيل والتدبير والمكر والقدرة والجدال والعذاب والعقاب والعداوة والمعاداة والقوة والشدة والهلاك والإهلاك، يأتي أعداءه بما يريد من إنزال العذاب بهم من حيث لا يحتسبون، وكلها صالح هنا حقيقة أو مجازاً...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَهُمْ} أي الكفرةُ المخاطبون في قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} وقد التُفت إلى الغَيبة إيذاناً بإسقاطهم عن درجة الخِطاب وإعراضاً عنهم وتعديداً لجناياتهم لدى كلِّ من يستحق الخطابَ كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثالَ هذه الأفاعيلِ العجيبةِ من إراءة البرقِ وإنشاء السحابِ الثقالِ وإرسالِ الصواعقِ الدالةِ على كمال علمِه وقدرتِه ويعقِلُها مَنْ يعقِلها من المؤمنين...
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
{وهم يجادلون في الله} أي يجادلون في شأنه تعالى، وفيما وصفه به الرسول الكريم، من كمال العلم والقدرة والتفرد بالألوهية وإعادة الناس للجزاء على أعمالهم يوم العرض والحساب. وفي هذا تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لما نعى على كفار قريش عنادهم في اقتراحهم الآيات الحسية كآيات موسى وعيسى عليهما السلام، وإنكارهم كون الذي جاء به عليه السلام آية سلاّه بما ذكر كأنه قال له: إن هؤلاء لم يقصروا جحدهم وإنكارهم على النبوّة بل تخطّوه إلى الألوهية، ألا تراهم مع ظهور الآيات البينات على التوحيد يجادلون في الله باتخاذ الشركاء وإثبات الأولاد له، ومع إحاطة علمه وشمول قدرته ينكرون البعث والجزاء والعرض للحساب، ومع شديد بطشه وعظيم سلطانه يقدمون على المكايدة والعناد فهوّن عليك، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والعجيب أنه في هول البرق والرعد والصواعق، وفي زحمة تسبيح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وزمجرة العواصف بغضبه.. في هذا الهول ترتفع أصوات بشرية بالجدل في الله صاحب كل هذه القوى وباعث كل هذه الأصوات التي ترتفع على كل جدال وكل محال: (وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال)! وهكذا تضيع أصواتهم الضعيفة في غمرة هذا الهول المتجاوب بالدعاء والابتهال والرعد والقرقعة والصواعق، الناطقة كلها بوجود الله -الذي يجادلون فيه...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والباء في {بحمده} للملابسة، أي ينزه الله تنزيهاً ملابساً لحمده من حيث إنه دال على اقتراب نزول الغيث وهو نعمة تستوجبُ الحمد...
واقتصر في العبرة بالصواعق على الإنذار بها لأنها لا نعمة فيها لأن النعمة حاصلة بالسحاب وأما الرعد فآلة من آلات التخويف والإنذار...
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
{ويسبح الرعد بحمده} يشبه قوله تعالى في نفس السياق: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال}. والمراد التنبيه إلى أصوات الرعد الهائلة المماثلة للانفجار، وإلى ما يرافقها أحيانا من صواعق تحرق الأخضر واليابس، الأمر الذي يدل على قدرة الله، ويثير في النفوس الخوف من عذاب الله، مما يهز كيان الإنسان، ولو كان ضعيف الإيمان، ويضطره إلى تسبيح الله وتنزيهه ولو لم يكن ذلك باللسان...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} والتسبيح تعبيرٌ عن الإحساس بالعظمة وتنزيهه عن كل نقص. وبذلك أمكن لكل شيءٍ أن يسبّح بحمده بمختلف الوسائل، سواء كان بالكلمة، أو بالصورة، أو بمظهر العظمة، أو بروعة الإبداع، أو بسرّ المعنى الكبير الكامن فيه. إنه الفرق بين الكلمة التي تسبح بمدلولها ومعناها، وبين الوجود الذي يسبِّح بحضور الحقيقة فيه.. وهكذا يجد الإنسان في كل شيء تجسيداً لتسبيح الله، والثناء عليه، بما يدل عليه من معاني العظمة والتنزيه له. {وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} بما يتمثلونه من خشية الله وإحساسٍ بعظمته، فيسبحونه إعلاناً للطاعة، وابتعاداً عن المعصية، ورغبةً في ثوابه، وخوفاً من عقابه. إنه الخوف الذي يحرّك الإحساس بالمسؤولية في وعي المخلوق، انطلاقاً من الإحساس الواعي بالعظمة، وليس الخوف الذي يسحق الذات ويسقط إحساسها بالحياة، {وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يشاءُ} ويصرفها عمن يشاء، وهذا المعنى يوحي به جوّ الآية، ولعل الاقتصار على فقرة التخويف بإرسال الصواعق، سببه أنّ السياق هو سياق التخويف والترهيب. {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ} بين من يشك فيه وبين من يشرك به، من دون حجةٍ يستندون إليها، ولا برهان يعتمدون عليه. وبذلك يخبطون خبط عشواء في جدالهم، منطلقين من استبعادات لا أساس لها، أو موروثاتٍ لا حجة عليها. ولو انفتحوا على آيات الله في الكون، وتأملوا في مظاهر عظمته ومواقع نعمته، لما جادلوا بالباطل، بل لكانوا انطلقوا في طريق الحق بكل قوّةٍ وانفتاح، ولأدركوا كيف ينبغي لهم أن يخافوا الله ويحذروا عقابه، فلا يستهينوا بتوحيده.