قوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } أي : سل يا محمد هؤلاء اليهود الذي هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع عن القرية التي كانت حاضرة البحر ، أي : بقربه . قال ابن عباس : هي قرية يقال لها أيلة ، بين مدين والطور على شاطئ البحر . وقال الزهري : هي طبرية الشام .
قوله تعالى : { إذ يعدون في السبت } ، أي : يظلمون فيه ، ويجاوزون أمر الله تعالى بصيد السمك .
قوله تعالى : { إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً } ، أي : ظاهرة على الماء كثيرة ، جمع شارع ، وقال الضحاك : متتابعة . وفي القصة : أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض .
قوله تعالى : { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } قرأ الحسن : { يوم لا يسبتون } بضم الياء ، أي : لا يدخلون في السبت ، والقراءة المعروفة بنصب الياء ، ومعناه : لا يعظمون السبت .
قوله تعالى : { كذلك نبلوهم } ، نختبرهم .
قوله تعالى : { بما كانوا يفسقون } ، فوسوس إليهم الشيطان وقال : إن الله لم ينهكم عن الاصطياد إنما نهاكم عن الأكل ، فاصطادوا . أو قيل : وسوس إليهم أنكم إنما نهيتم عن الأخذ ، فاتخذوا حياضاً على شاطئ البحر ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت ، ثم تأخذونها يوم الأحد ، ففعلوا ذلك زماناً ، ثم تجرؤوا على السبت ، وقالوا : ما نرى السبت إلا قد أحل لنا ، فأخذوا وأكلوا وباعوا ، فصار أهل القرية أثلاثاً ، وكانوا نحوا من سبعين ألفاً ، ثلث نهوا ، وثلث لم ينهوا وسكتوا وقالوا : لم تعظون قوماً الله مهلكهم ؟ وثلث هم أصحاب الخطيئة ، فلما لم ينتهوا قال الناهون : لا نساكنكم في قرية واحدة ، فقسموا القرية بجدار ، للمسلمين باب وللمعتدين باب ، ولعنهم داود عليه السلام ، فأصبح الناهون ذات يوم ولم يخرج من المعتدين أحد ، فقالوا : إن لهم لشأناً ، لعل الخمر غلبتهم ، فتسوروا الجدار ، واسترقوا عليهم ، فإذا هم كلهم قردة وخنازير ، فعرفت القردة أنسابها من الإنس ، ولم تعرف الإنس أنسابها من القردة ، فجعلت القردة تأتي نسيبها من الإنس ، فتشم ثيابه وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم ؟ فتقول برأسها : نعم ، فما نجا إلا الدين نهوا وهلك سائرهم .
163 وَاسْأَلْهُمْ أي : اسأل بني إسرائيل عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ أي : على ساحله في حال تعديهم وعقاب اللّه إياهم .
إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ وكان اللّه تعالى قد أمرهم أن يعظموه ويحترموه ولا يصيدوا فيه صيدا ، فابتلاهم اللّه وامتحنهم ، فكانت الحيتان تأتيهم يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا أي : كثيرة طافية على وجه البحر .
وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ أي : إذا ذهب يوم السبت لا تَأْتِيهِمْ أي : تذهب في البحر فلا يرون منها شيئا كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم{[331]} اللّه ، وأن تكون لهم هذه المحنة ، وإلا فلو لم يفسقوا ، لعافاهم اللّه ، ولما عرضهم للبلاء والشر ، فتحيلوا على الصيد ، فكانوا يحفرون لها حفرا ، وينصبون لها الشباك ، فإذا جاء يوم السبت ووقعت في تلك الحفر والشباك ، لم يأخذوها في ذلك اليوم ، فإذا جاء يوم الأحد أخذوها ، وكثر فيهم ذلك ، وانقسموا ثلاث فرق :
هذا السياق هو بسط لقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ البقرة : 65 ] يقول [ الله ]{[12275]} تعالى ، لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : { وَاسْأَلْهُمْ } أي : واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ، ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم ؛ لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم . وهذه القرية هي " أيلة " وهي على شاطئ بحر القلزم .
قال محمد بن إسحاق : عن داود بن الحُصَين ، عن عكرمة عن ابن عباس في قوله : { وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ } قال : هي قرية يقال لها " أيلة " بين مدين والطور . وكذا قال عكرمة ، ومجاهد ، وقتادة ، والسُّدِّي .
وقال عبد الله بن كثير القارئ ، سمعنا أنها أيلة . وقيل : هي مدين ، وهو رواية عن ابن عباس وقال ابن زيد : هي قرية يقال لها . " مقنا " بين مدين وعَيدُوني .
وقوله : { إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ } أي : يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك . { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا } قال الضحاك ، عن ابن عباس : أي ظاهرة على الماء .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { شُرَّعًا } من كل مكان .
قال ابن جرير : وقوله : { وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } أي : نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده ، وإخفائه{[12276]} عنهم في اليوم المحلل لهم صيده { كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ } نختبرهم { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يقول : بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها .
وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله ، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام .
وقد قال الفقيه الإمام أبو عبد الله بن بطة ، رحمه الله : حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم ، حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا ترتكبوا ما ارتكبت{[12277]} اليهود ، فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل " {[12278]}
وهذا إسناد جيد ، فإن أحمد بن محمد بن مسلم هذا{[12279]} ذكره الخطيب في تاريخه{[12280]} ووثقه ، وباقي رجاله مشهورون ثقات ، ويصحح الترمذي بمثل هذا الإسناد كثيرًا .
{ واسئلهم } للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم ، والإعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم . { عن القرية } عن خبرها وما وقع بأهلها . { التي كانت حاضرة البحر } قريبة منه وهي أيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر ، وقيل مدين ، وقيل طبرية . { إذ يعدون في السبت } يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت ، و{ إذ } ظرف ل { كانت } أو { حاضرة } أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال . { إذ تأتيهم حيتانهم } ظرف ل { يعدون } أو بدل بعد بدل . وقرئ { يعدون } وأصله يعتدون ويعدون من الإعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت ، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة . { يوم سبتهم شرعا } يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة . وقيل اسم لليوم والإضافة لاختصاصهم بإحكام فيه ، ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم ، وقوله : { ويوم لا يسبتون لا تأتيهم } وقرئ { لا يسبتون } من أسبت و{ لا يسبتون } على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت ، و{ شرعا } حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف . { كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون } مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم . وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت ، والباء متعلق ب { يعدون } .
وقوله تعالى : { واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر } الآية ، قال بعض المتأولين : إن اليهود المعارضين لمحمد صلى الله عليه وسلم قالوا إن بني إسرائيل لم يكن فيهم عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت هذه الآية موبخة لهم ومقررة ما كان من فعل أهل هذه القرية ، فسؤالهم إنما كان على جهة التوبيخ و { القرية } هنا مدين قاله ابن عباس ، وقيل أيلة ، قاله ابن عباس وعبد الله بن كثير وعكرمة والسدي والثوري ، وقال قتادة هي مْقنا بالقاف ساكنة ، وقال ابن زيد هي مقناة ساحل مدين ، ويقال فيها مغنى بالغين مفتوحة ونون مشددة ، وقيل هي طبرية قاله الزهري ، و { حاضرة } يحتمل أن يريد معنى الحضور أي البحر فيها حاضر ، ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في مدن البحر ، و { إذ يعدون } معناه يخالفون الشرع من عدا يعدو ، وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك » يعَدُّون « ، قال أبو الفتح أراد يعتدون فأسكن التاء ليدغمها في الدال ونقل فتحها إلى العين فصار » يعَدُّون «بفتح العين وشد الدال المضمومة ، والاعتداء منهم في السبت هو نفس العمل والاشتغال كان صيداً أو غيره إلا أنه كان في هذه النازلة بالصيد وكان الله عز وجل ابتلاهم في أمر الحوت بأن يغيب عنهم سائر الجمعة فإذا كان يوم السبت جاءهم في الماء شارعاً أي مقبلاً إليهم مصطفاً كما تقول أشرعت الرماح إذا مدت مصطفة ، وهذا يمكن أن يقع من الحوت بإرسال من الله كإرسال السحاب أو بوحي وإلهام كالوحي إلى النحل أو بإشعار في ذلك اليوم على نحو ما يشعر الله الدواب يوم الجمعة بأمر الساعة حسبما يقتضيه قول النبي صلى الله عليه وسلم : » ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة حتى تطلع الشمس فرقاً من الساعة « ، ويحتمل أن يكون ذلك من الحوت شعوراً بالسلامة في ذلك اليوم على نحو شعور حمام الحرم بالسلامة .
قال رواة هذا القصص : فيقرب الحوت ويكثر حتى يمكن أخذه باليد فإذا كان ليلة الأحد غاب بجملته وقيل غابت كثرته ولم يبق منه إلا القليل الذي يتعب صيده ، قاله قتادة ففتنهم ذلك وأضر بهم فتطرقوا إلى المعصية بأن حفروا حفراً يخرج إليها ماء البحر على أخدود فإذا جاء الحوت يوم السبت وحصل في الحفرة ألقوا في الأخدود حجراً فمنعوه الخروج إلى البحر فإذا كان الأحد أخذوه فكان هذا أول التطرق .
وروى أشهب عن مالك قال : زعم ابن رومان أنهم كانوا يأخذ الرجل خيطاً ويصنع فيه وهقة وألقاها في ذنب الحوت ، وفي الطرف الآخر من الخيط وتد مضروب ، وتركه كذلك إلى الأحد ، ثم تطرق الناس حين رأوا من صنع هذا لا يبتلى كثر صيد الحوت ومشي به في الأسواق ، وأعلن الفسقة بصيده ، وقالوا : ذهبت حرمة السبت ، فقامت فرقة من بني إسرائيل ونهت وجاهرت بالنهي واعتزلت ، والعامل في قوله : { ويوم لا يسبتون } قوله : { لا تأتيهم } وهو ظرف مقدم ، وقرأ عمر بن عبد العزيز «حيتانهم يوم أسباتهم » ، وقرأ نافع وأبو عمرو والحسن وأبو جعفر والناس «يسبِتون » بكسر الباء ، وقرأ عيسى بن عمر وعاصم بخلاف «يسبتُون » بضمها ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وعاصم بخلاف «يُسبتون » من أسبت إذا دَخل في السبت ، ومعنى قوله : { كذلك } الإشارة إلى أمر الحوت وفتنتهم به ، هذا على من وقف على { تأتيهم } ومن وقف على { كذلك } فالإشارة إلى كثرة الحيتان شرعاً ، أي فما أتى منها فهو قليل ، و { نبلوهم } أي نمتحنهم لفسقهم وعصيانهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي قصص هذه الآية رواية وتطويل اختصرته واقتصرت منه على ما لا تفهم ألفاظ الآية إلا به .