قوله تعالى : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } . هذا متصل بالأول من قول اليهود بعضهم لبعض ( ولا تؤمنوا ) أي لا تصدقوا ( إلا لمن تبع دينكم ) أي وافق ملتكم ، واللام في لمن صلة ، أي لا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، اليهودية كقوله تعالى ( قل عسى أن يكون ردف لكم ) أي ردفكم .
قوله تعالى : { قل إن الهدى هدى الله } . هذا خبر من الله تعالى أن البيان بيانه ، ثم اختلفوا فيه ، فمنهم من قال : هذا كلام معترض بين كلامين وما بعده متصل بالكلام الأول ، إخبار عن قول اليهود بعضهم لبعض ، ومعناه ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا إن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من العلم والكتاب والحكمة ، والآيات من المن والسلوى وفلق البحر ، وغيرها من الكرامات ، ولا تؤمنوا أن يحاجوكم عند ربكم لأنكم أصح ديناً منهم ، وهذا معنى قول مجاهد . وقيل : أن اليهود قالت لسفلتهم : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم .
قوله تعالى : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } من العلم أي لئلا يؤتى أحد ، ولا فيه مضمرة ، كقوله تعالى ( يبين الله لكم أن تضلوا ) أي لئلا تضلوا ، يقولون : لا تصدقوهم لئلا يعلموا مثل ما علمتم فيكون لكم الفضل عليهم في العلم ، أولئلا يحاجوكم عند ربكم فيقولوا : عرفتم أن ديننا حق ، وهذا معنى قول ابن جريح . وقرأ الحسن والأعمش " إن يؤتى " بكسر الألف ، فيكون قول اليهود تاماً عند قوله " إلا لمن تبع دينكم " وما بعد من قول الله تعالى يقول : قل يا محمد إن الهدى هدى الله إن يؤتى " إن " بمعنى الجحد ، أي ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد .
قوله تعالى : { أو يحاجوكم عند ربكم } . يعني : إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولوا : نحن أفضل منكم ، فقوله عز وجل ( عند ربكم ) أي : عند فعل ربكم بكم ، وهذا معنى قول سعيد بن جبير ، والحسن ، والكلبي ، ومقاتل ، وقال الفراء : ويجوز أن يكون " أو " بمعنى " حتى " كما يقال تعلق به أو يعطيك حقك ، ومعنى الآية : ما أعطي أحد مثل ما أعطيتم يا أمة محمد من الدين والحجة حتى يحاجوكم عند ربكم ، وقرأ ابن كثير : آن يؤتى بالمد على الاستفهام ، وحينئذ يكون فيه اختصار تقديره آن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونه ولا تؤمنون به ، هذا قول قتادة والربيع قالا : هذا من قول الله تعالى يقول : قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم وبعث نبياً حسدتموه وكفرتم به .
قوله تعالى : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } . قوله أو يحاجوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ، وتكون أو بمعنى إن لأنهما حرفاً شرط وجزاء يوضح أحدهما موضع الآخر ، أي وإن يحاجوكم يا معشر المؤمنين عند ربكم فقل يا محمد إن الهدى هدى الله ونحن عليه ، ويجوز أن يكون الجميع خطاباً للمؤمنين ، ويكون نظم الآية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين حسدوكم ، فقل إن الفضل بيد الله وإن حاجوكم فقل : إن الهدى هدى الله ، ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله ( لعلهم يرجعون ) ، وقوله تعالى ( ولا تؤمنوا ) من كلام الله يثبت به قلوب المؤمنين لئلا يشكوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم ، يقول : لا تصدقوا يا معشر المؤمنين إلا من اتبع دينكم ، ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ، ولا تصدقوا أن يحاجوكم في دينكم عند ربكم ، أي يقدروا على ذلك فإن الهدى هدى الله ، وإن الفضل بيد الله ، يؤتيه من يشاء والله واسع عليم ، فتكون الآية كلها خطاب الله للمؤمنين عند تلبيس اليهود لئلا يرتابوا .
{ و } قال بعضهم لبعض { لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } أي : لا تثقوا ولا تطمئنوا ولا تصدقوا إلا من تبع دينكم ، واكتموا{[159]} أمركم ، فإنكم إذا أخبرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم فصاروا مثلكم ، أو حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه ، فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار المؤمنين بما معهم من العلم قاطعا عنهم العلم ، لأن العلم بزعمهم لا يكون إلا عندهم وموجبا للحجة عليهم ، فرد الله عليهم بأن { الهدى هدى الله } فمادة الهدى من الله تعالى لكل من اهتدى ، فإن الهدى إما علم الحق ، أو إيثارة ، ولا علم إلا ما جاءت به رسل الله ، ولا موفق إلا من وفقه الله ، وأهل الكتاب لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ، وأما التوفيق فقد انقطع حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم ، وأما هذه الأمة فقد حصل لهم ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا به وبرزوا على كل أحد ، فكانوا هم الهداة الذين يهدون بأمر الله ، وهذا من فضل الله عليها وإحسانه العظيم ، فلهذا قال تعالى { قل إن الفضل بيد الله } أي : الله هو الذي يحسن على عباده بأنواع الإحسان { يؤتيه من يشاء } ممن أتى بأسبابه { والله واسع } الفضل كثير الإحسان { عليم } بمن يصلح للإحسان فيعطيه ، ومن لا يستحقه فيحرمه إياه .
وقوله : { وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ } أي : لا تطمئنوا وتظهروا سركم وما عندكم إلا لمن اتبع دينكم ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين ، فيؤمنوا به ويحتجوا{[5172]} به عليكم ؛ قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات ، والحجج الواضحات ، وَإنْ كتمتم{[5173]} - أيها اليهود - ما بأيديكم من صفة محمد في{[5174]} كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين .
وقوله { أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ } يقولون : لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين ، فيتعلموه منكم ، ويساووكم{[5175]} فيه ، ويمتازوا{[5176]} به عليكم لشدة الإيمان{[5177]} به ، أو يحاجوكم{[5178]} به عند الله ، أي : يتخذوه حجة عليكم مما بأيديكم ، فتقوم{[5179]} به عليكم الدلالة وتَتَركَّب الحجةُ في الدنيا والآخرة .
قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ } أي : الأمورُ كلها تحت تصريفه ، وهو المعطي المانع ، يَمُنّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصور التام ، ويضل من يشاء ويُعمي بصره وبصيرته ، ويختم على سمعه وقلبه ، ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة والحكمة{[5180]} .
{ ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } ولا تقروا عن تصديق قلب إلا لأهل دينكم ، أو لا تظهروا إيمانكم وجه النهار لمن كان على دينكم فإن رجوعهم أرجى وأهم . { قل إن الهدى هدى الله } هو يهدي من يشاء إلى الإيمان ويثبته عليه . { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } متعلق بمحذوف أي دبرتم ذلك وقلتم لأن يؤتى أحد ، المعنى أن الحسد حملكم على ذلك أو بلا تؤمنوا أي ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأشياعكم ، ولا تفشوه إلى المسلمين لئلا يزيد ثباتهم ولا إلى المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } اعتراض يدل على أن كيدهم لا يجدي بطائل ، أو خبر إن على أن هدى الله بدل من الهدى . وقراءة ابن كثير { أن يؤتى } على الاستفهام للتقريع ، تؤيد الوجه الأول أي إلا أن يؤتى أحد دبرتم . وقرئ { إن } على أنها نافية فيكون من كلام الطائفة أي ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . { أو يحاجوكم عند ربكم } عطف على { أن يؤتى } على الوجهين الأولين وعلى الثالث معناه : حتى يحاجوكم عند ربكم فيدحضوا حجتكم عند ربكم ، والواو ضمير أحد لأنه في معنى الجمع إذ المراد به غير أتباعهم . { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم } .