التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

ثم حكى - سبحانه - لونا من عصبيتهم وتعاونهم على الإثم والعدوان فقال تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } .

وقوله - سبحانه - حكاية عنهم { وَلاَ تؤمنوا } معطوف على قوله - تعالى - فى الآية السابقة { آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ } .

وقد فسر بعضهم { وَلاَ تؤمنوا } بمعنى ولا تقروا ، أو ولا تعترفوا ؛ فتكون اللام فى قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أصلية .

وعليه يكون المعنى : أن بعض اليهود قد قالوا لبعض : أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره ، لعل هذا العمل منكم يحمل بعض المسلمين على أن يتركوا دينهم الإسلام ، ويعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر ولم يكتفوا بهذا القول بل قالوا أيضا على سبيل المكر والخديعة ، ولا تقروا ولا تعترفوا بأن أحداً من المسلمين أو من غيرهم يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة والفضائل ، أو بأن أحدا فى قدرته أن يحاججكم أى يبادلكم الحجة عند ربكم يوم القيامة ، ولا تقروا ولا تعترفوا بشيء من ذلك " إلا لن تبع دينكم " أى إلا لمن كان على ملتكم اليهودية دون غيرها .

فالمستثنى منه على هذا التفسير محذوف ، والتقدير : ولا تؤمنوا أى تقروا وتعترفوا لأحد من الناس بأن أحداً يؤتى مثل ما أوتيتم أو بأن أحداً يحاججكم عند ربكم إلا لمن تبع دينكم ، لأن إقراركم بذلك أمام المسلمين أو غيرهم ممن هو على غير ملتكم سيؤدى إلى ضعفكم وإلى قوة المسلمين .

فهم على هذا التفسير يعلمون ويعتقدون بأن المؤمنين قد أوتوا مثلهم من الدين والفضائل عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم الذى أرسله الله رحمة للعالمين ، ولكنهم لشدة حسدهم وبغضهم للنبى صلى الله عليه وسلم ولأتباعه ، قد تواصوا فيما بينهم بأن يكتموا هذا العلم وتلك المعرفة ، ولا يظهروا ذلك إلا فيما بينهم ، وصدق الله إذ يقول فى شأنهم { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وقد صدر صاحب الكشاف تفسيره لللآية بهذا الوجه فقال : " قوله { وَلاَ تؤمنوا } بمعنى ولا تصدقوا أو ولا تعتقدوا ، فتكون اللام فى قوله { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } زائدة للتقوية .

فيصير المعنى على هذا الوجه : أن بعض اليهود قد قالوا لبعض : أظهروا الإسلام أول النهار واكفروا آخره لعل عملكم هذا يجعل بعض المسلمين يترك دينه ويعود إلى الكفر الذى كان عليه ، ولا تصدقوا أن أحدا من البشر يؤتى مثل ما أتيتم يا بنى إسرائيل من الكتاب والنبوة ، أو أن أحدا في قدرته أن يحاججكم عند ربكم فأنتم الأعلون فى الدنيا والآخرة وأنتم الذين لا تخرج النبوة من بينكم إلى العرب ، وما دام الأمر كذلك فلا تتبعوا إلا نبياً منكم يقرر شرائع التوراة ، أما من جاء بتغيير شىء من أحكامها أو كان من غير بنى إسرائيل كمحمد صلى الله عليه وسلم فلا تصدقوه .

فالمستثنى منه على هذا الوجه هو قوله " أحد " المذكور في الآية ، والمستثنى هو قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } .

والتقدير : ولا تصدقوا أن أحدا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم أو يمكنه أن يحاججكم عند ربكم { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أى إلا من كان على ملتكم اليهودية ، أما أن يكون من غيركم كهذا النبى العربى فلا يمكن أن يؤتى مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة ، لأنهما - فى زعمهم - حكر على بني إسرائيل .

فهم على هذا الوجه من التفسير يزعمون أنهم غير مصدقين ولا معتقدين بأن المسلمين قد أوتوا كتاباً وديناً وفضائل مثل ما أوتوا هم أى اليهود ، ويرون أنفسهم - لغرورهم وانطماس بصيرتهم - أنهم أهدى سبيلا من كل من سواهم من البشر .

وعلى كل من الوجهين يكون قوله - تعالى - { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } حكاية من الله - تعالى - لما تواصى به بعض اليهود فيما بينهم من أقوال خبيثة ، وأفكار ماكرة .

ويكون قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } كلاما معترضا بين أقوالهم ساقه الله - تعالى - للمسارعة بالرد على أقوالهم الذميمة حتى يزداد المؤمنون إيمانا على إيمانهم ، ويزدادوا هم رجسا إلى رجسهم ، وينكشف ما أضمروه وما بيتوه للمؤمنين من سوء وحقد .

أى قل لهم يا محمد إن هداية الله - تعالى - ملك له وحده ، وهو الذى يهبها لمن يشاء من عباده ، فهى ليست حكراً على أحد ، ولا أمرا مقصورا على قوم دون قوم ، وإذا كانت النبوة قد ظلت فترة من الزمان فى بنى إسرائيل ، فالله - تعالى - قادر على أن يسلبها منهم لأنهم لم يشكروه عليها وأن يجعلها فى محمد العربى صلى الله عليه وسلم لأنه أهل لها وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته .

هذا ، ويرى بعض المفسرين أن أقوال اليهود التى حكاها القرآن عنهم قد انتهت بنهاية قوله - تعالى - { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } وأما قوله - تعالى - { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } فهو من كلام الله - تعالى - وقد ساقه - سبحانه - للرد عليهم .

وعليه فيكون المعنى : أن بعض اليهود قد قال لبعض : أظهروا إسلامكم أول النهار واكفروا آخره لعل بعض المسلمين يرجع عن دينه بسبب فعلكم هذا ، ولا تعترفوا بفعلكم هذا إلا لأهل دينكم من اليهود حتى يبقى عملكم هذا سرا له أثره فى بلبلة أفكار المسلمين ورجوع بعضهم عن الإسلام .

وهنا يأمر الله - تعالى - نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالرد عليهم وبالكشف عن مكرهم فيقول : قل لهم يا محمد إن الهدى هدى الله ، أى إن هداية الله ملك له وحده فهو الذى يهدى من يشاء وهو الذى يضل من يشاء ، وقد هدانا - سبحانه - إلى الإسلام وارتضيناه دينا لنا ولن نرجع عنه .

وقل لهم كذلك على سبيل التوبيخ والتهكم بعقولهم : أمخافة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الكتاب والنبوة : أو مخافة أن يحاججكم المسلمون عند ربكم يوم القيامة حيث آمنوا بالحق وأنتم كفرتم به ، أمخافة ذلك دبرتم ما دبرتم من هذه الأقوال السيئة والأفعال الخبيثة ؟ لا شك أنه لم يحملكم على ذلك المنكر السىء إلا الحسد لمحمد صلى الله عليه وسلم ولقومه وزعمكم أنكم أفضل منهم لأنكم - كما تدعون - أبناء الله وأحباؤه فدفعكم ذلك كله إلى كراهية دينه والكيد لأتباعه .

قالوا : ويؤيد هذا الوجه من التفسير للآية قراءة ابن كثير " أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . . . " بهمزتين أولاهما للاستفهما الذى قصد به التوبيخ والإنكار ، والثانية هى همزة أن المصدرية .

وقد أشار إلى هذا الوجه الفخر الرازي فقال ما ملخصه : " واعمل أن هذه الآية من المشكلات الصعبة . . ويحتمل أن يكون قوله - تعالى - { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } من كلام الله - تعالى - فقد قرا ابن كثير { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } . والمعنى أمن أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم من الشرائع تنكرون اتباعه ، ثم حذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير .

يقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه . وبعد كثرة إحسانه إليه : أمن قلة إحسانى إليك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت " .

ثم أمر الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يرد عليهم مرة ثانية حتى يبطل مزاعمهم ويفضحهم على رؤس الأشهاد فقال : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أى قل لهم يا محمد : إن الفضل - الذى يتناول النبوة وغيرها من نعم الله على عباده - هذا الفضل وذلك العطاء بيد الله - تعالى- وحده ، وهو - سبحانه - المتفضل به على من يشاء التفضل عليه من عباده ، وإذا كان - سبحانه - قد جعل النبوة فى بنى إسرائيل لفترة من الزمان ، فذلك بفضل منه وبرحمته ، وإذا كان قد سلبها عنهم لأنهم لم يرعوها حق رعايتها وجعلها فى هذا النبى العربى فذلك - أيضا - بفضله ورحمته ، وهو - سبحانه - أعلم حيث يجعل رسالته ، وهو - سبحانه - صاحب الاختيار المطلق في أن يؤتى فضله لمن يشاء من عباده . وهو - سبحانه - { وَاسِعٌ } الرحمة والفضل { عَلِيمٌ } بمن يستحقها وبمن لا يستحقها .