غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

72

ثم قال تعالى : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } اتفق المفسرون على أنه من بقية حكاية كلام أهل الكتاب . واتفقوا على أن قوله : { قل إن الهدى هدى الله } وكذا قوله : { قل إن الفضل بيد الله } إلى آخرها كلام الله إلا أنهم اختلفوا في أن قوله : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم } من جملة كلام الله ، أو من جملة كلام اليهود ، ومن تتمة قولهم : { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } فهذان احتمالان ذهب إلى كل منهما طائفة من المحققين ، وكل منهما يحتاج في تصحيح المعنى إلى تقدير وإضمار ، فلهذا عدت الآية من المواضع المشكلة .

أما الاحتمال الأول فوجهه على قراءة ابن كثير ظاهر ، وكذا في قراءة من قرأ بهمزة واحدة ويقدر همزة الاستفهام للتقرير والتوبيخ وكذا لام الجر . وهذا الوجه يروى عن مجاهد وعيسى بن عمر . والمعنى ألأن أي من أجل أن يؤتى أحد شرائع مثل ما أوتيتم تنكرون اتباعه ؟ فحذف الجواب للاختصار ، وهذا الحذف كثير . ويقول الرجل بعد طول العتاب لصاحبه وعد ذنوبه عليه وقد أحسن إليه : أمن قلة إحساني إليك أمن إهانتي لك ؟ والمعنى أمن أجل هذا فعلت ما فعلت أم من ذاك ؟ ونظيره قوله :{ أمن هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه }[ الزمر : 9 ] ومعنى قول حكاية عنهم { ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم } على هذا الوجه لا تصدقوا إلا نبياً يقرر شرائع التوراة ، فأما من جاء بتغيير شيء من أحكام التوراة فلا تصدقوه وهذا هو مذهب اليهود إلى اليوم . واللام زائدة مثل { ردف لكم }[ النمل : 72 ] فإنه يقال : صدقت فلاناً ولا يقال صدقت لفلان . فأمر الله نبيه أن يقول لهم في الجواب إن الدين دين الله ، فكل ما رضيه ديناً فهو الدين الذي يجب متابعته كقوله في جواب قولهم :{ ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب }[ البقرة : 142 ] ثم وبخهم بالاستفهام المذكور . ويحتمل أن يكون المعنى : ولا تؤمنوا هذا الإيمان الظاهر وهو إيمانهم وجه النهار إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم ، لأن رجوعهم كان أرجى عندهم من رجوع من سواهم ، ولأن إسلامهم كان أغيظ لهم . فقيل للنبي صلى الله عليه وسلم { قل إن الهدى هدى الله } وقد جئتكم به فلن ينفعكم هذا الكيد الضعيف . ثم استفهم فقال : ألأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبرتم لا لشيء آخر ؟ يعني أن ما بكم من الحسد والبغي أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قلتم ما قلتم ؟ ثم قال : { أو يحاجوكم } يعني دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لما يتصل بالإيتاء عند كفركم به من محاجتهم لكم عند ربكم لأن ما أوتوا مثل ما أوتيتم ، فحين لم تؤمنوا به ثبت لهم حجة عليكم . وأما إن لم تقدر همزة الاستفهام فالتقدير إما كما سبق . أو يقال : { الهدى } اسم " إن " و { هدى الله } بدل منه . والتقدير : قل إن هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم . ويكون " أو " بمعنى " حتى " ويتم الكلام بمحذوف أي حتى يحاجوكم عند ربكم فيقضي لهم عليكم ويدحض حجتكم ، أو يقال : { أن يؤتى } مفعول فعل محذوف هو لا تنكروا لأنه لما كان الهدى هدى الله كان له أن يؤتيه من يشاء من عباده ومتى كان كذلك لزم ترك الإنكار فصح أن يقال : لا تنكروا أن يؤتى أحد سواكم من الهدى ما أوتيتموه أو يحاجوكم - يعني هؤلاء المسلمين - بذلك عند ربكم إن لم تقبلوا ذلك منهم .

أو يقال { الهدى } اسم للبيان و { هدى الله } بدل ويضمر لا بعد " إن " مثل { أن تضلوا }[ النساء : 176 ] أي لا تضلوا . والتقدير : قل يا محمد لأمتك إن بيان الله هو أن لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وهو دين الإسلام الذي هو أفضل الأديان ، وأن لا يحاجوكم - يعني هؤلاء اليهود - عند ربكم في الآخرة لأنه يظهر لهم في الآخرة أنكم مهتدون وأنهم ضالون . وأما الاحتمال الثاني وهو أن يكون قوله : { أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم } من تتمة كلام اليهود ، وقوله : { قل إن الهدى هدى الله } جملة معترضة . فمعناه لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم ، أو لا تقروا بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم . فحذف حرف الجر من " أن " على القياس . قال في الكشاف : أراد أسروا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ولا تفشوه إلا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتاً ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام . وقوله : { أو يحاجوكم } عطف على { أن يؤتى } والضمير في { يحاجوكم } ل { أحد } لأنه في معنى الجمع بمعنى ولا تؤمنوا لغير أتباعكم أن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله بالحجة . قال : ومعنى الاعتراض ، أن الهدى هدى الله ، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام كان ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيكم أي ستركم تصديقكم عن المسلمين والمشركين . وكذلك قوله : { قل إن الفضل بيد الله } مؤكد للاعتراض الأول ، أو هو اعتراض آخر يجيء بعد تمام الكلام كقوله :{ وكذلك يفعلون }[ النمل : 34 ] بعد قوله :{ إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها }[ النمل : 34 ] فإن قيل : إن جد القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم كان أعظم من جدهم في حفظ غير أتباعهم عنه ، فكيف يليق أن يوصي بعضهم بعضاً بالإقرار ؟ ربما يدل على صحة دين محمد صلى الله عليه وسلم عند أتباعهم وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب . فالجواب : ليس المراد من هذا النهي الأمر بإفشاء هذا التصديق فيما بين أتباعهم ، بل المراد أنه إن اتفق منكم تكلم بهذا فلا يكن إلا عند خويصتكم وأصحاب أسراركم . على أنه يحتمل أن يكون شائعاً ولكن البغي والحسد كان يحملهم على الكتمان من غيرهم . فإن قيل : كيف وقع قوله : { قل إن الهدى هدى الله } فيما بين جزأي كلام واحد ؟ وهذا لا يليق بكلام الفصحاء ؟ قلت : قال القفال : يحتمل أن يكون هذا كلاماً أمر الله نبيه أن يقوله عندما وصل الكلام إلى هذا الحد .

كأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً لا جرم أدب رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقابله بقول حق ، ثم يعود إلى حكاية تمام كلامهم كما إذا حكى المسلم عن بعض الكفار قولاً فيه كفر فيقول عند بلوغه إلى تلك الكلمة : آمنت بالله أو لا إله إلا الله ، أو تعالى الله ، ثم يعود إلى تلك الحكاية . وقيل : في الكلام تقديم وتأخير والتقدير : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أو يحاجوكم عند ربكم قل إن الهدى هدى الله وأن الفضل بيد . واعلم أنه تعالى حكى عن اليهود أمرين : أحدهما أن يؤمنوا وجه النهار ويكفروا آخره ليصير ذلك شبهة للمسلمين في صحة الإسلام فأجاب بقوله : { قل إن الهدى هدى الله } . وذلك أن مع كمال هداية الله وقوة بيانه لا يكون لهذه الشبهة الركيكة عين ولا أثر . وثانيها أنهم استنكروا أن يؤتى أحد مثل ا أوتوا من الكتاب والحكمة والنبوة فأجاب عنه بقوله : { قل إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء } والمراد بالفضل الرسالة وهو في اللغة الزيادة ، وأكثر ما يستعمل في زيادة الإحسان . والفاضل الزائد على غيره في خصال الخير . ومعنى قوله { بيد الله } أنه مالك له غالب عليه يوضحه قوله { يؤتيه من يشاء } . وفيه دليل على النبوة تحصل بالتفضل لا بالاستحقاق لأنه جعلها من باب الفضل الذي لفاعله أن يفعله وأن لا يفعله ولا يصح ذلك في المستحق إلا على وجه المجاز { والله واسع } كامل القدرة { عليم } بالحكم والمصالح وبمواقع فضله فلهذا { يختص برحمته من يشاء } والحاصل أنه بين بقوله : { إن الفضل بيد الله } أنه قادر على أن يؤتى بعض عباده مثل ما آتاكم من المناصب العالية ويزيد عليها من جنسها ، فإن الزيادة من جنس المزيد عليه .