الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَلَا تُؤۡمِنُوٓاْ إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمۡ قُلۡ إِنَّ ٱلۡهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤۡتَىٰٓ أَحَدٞ مِّثۡلَ مَآ أُوتِيتُمۡ أَوۡ يُحَآجُّوكُمۡ عِندَ رَبِّكُمۡۗ قُلۡ إِنَّ ٱلۡفَضۡلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤۡتِيهِ مَن يَشَآءُۗ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٞ} (73)

{ وَلاَ تُؤْمِنُواْ } : ولا تصّدقوا .

{ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } : هذا من كلام اليهود أيضاً بعضهم لبعض ولا تؤمنوا ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم أي وافق ملّتكم وصلّى إلى قبلتكم واللام في قوله { لِمَن } : صلة يعني ولا تؤمنوا إلا من تبع دينكم اليهوديّة كقول اللّه تعالى

{ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ } [ النمل : 72 ] { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } الآية : اختلف القرّاء والعلماء فيه ، فقرأت العامّة : أن يؤتى بالفتح من الألف وقصرها ووجه هذه القراءة إنّ هذا الكلام معترض بين كلامين وهو خبر عن اللّه تعالى أنّ البيان وما يدلّ قوله { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } متصل بالكلام الأوّل إخباراً عن قول اليهود بعضهم لبعض ، ومعنى الآية : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم ، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحد مثل ما أُؤتيتم من العلم والحكمة والحجّة في المنّ والسلوى ، وفلق البحر وغيرها من الفضائل والكرامات .

ولا تؤمنوا أن يُحاجّوكم عند ربّكم لأنّكم أصحّ ديناً منه ، وهذا معنى قول مجاهد و الأخفش .

وقال ابن جريج وابن زيّات : قالت اليهود لسفلتهم : لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهية أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم وأيّ فضل يكون لكم عليهم حيث علموا ما علمتم وحينئذ { يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } : يقولون عرفتم أنّ ديننا حقّ فلا تصدّقوهم لئلاّ يعلموا مثل ما عُلّمتم ولا يُحاجّوكم عند ربكم ، ويجوز أن يكون على هذا القول لا مضمراً كقوله تعالى

{ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] يكون تقديره ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم لئلاّ يؤتى أحد من العلم مثل ما أوتيتم وألا يحاجّوكم عند ربكم .

وقرأ الحسن والأعمش : إن يؤتى بكسر الألف ووجه هذه القراءة إنّ هذا كلّه من قول اللّه بلا اعتراض وأن يكون كلام اليهود تاماً عند قوله

{ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ومعنى الآية : قل يا محمد إنّ الهدى هدى اللّه أن يؤتى ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أُمّة محمد أو يحاجّوكم ، يعني إلا أن يجادلكم اليهود بالباطل فيقولون نحن أفضل منكم وقوله : { عِندَ رَبِّكُمْ } أي عند فضل ربّكم لكم ذلك ويكون ( أنّ ) على هذا القول بمعنى الجحد والنفي .

وهذا معنى قول سعيد بن جبير والحسن وأبي مالك ومقاتل والكلبي . وقال الفرّاء : ويجوز أن يكون ( أو ) بمعنى حتّى كما يقال : تعلّق به أو يعطيك حقّك أي حتى يعطيك حقّك .

وقال امرؤ القيس :

فقلت له لا تبك عينك إنّما *** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا

أي حتى نموت .

والمعنى لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، ما أعطى أحداً مثل ما أُعطيتم يا أُمة محمد من الدّين والحجّة حتّى يحاجّوكم عند ربّكم .

وقرأ ابن كثير : أن يؤتى بالمدّ وحينئذ يكون في الكلام إختيار تقديرها : أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم يا معشر اليهود من الكتاب والحكمة تحسدونهم ولا تؤمنون بهم وهذا قول قتادة والربيع .

و إلاّ هذا من قول اللّه عز وجّل : قل لهم يا محمد إنّ الهدى هدى اللّه لما أنزل كتاباً مثل كتابكم وبعث نبيّاً مثل نبيّكم حسدتموه وكفرتم به .

{ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ } الآية .

قال أبو حاتم : إنّ معناه الآن فحذف لام الجزاء استخفافاً وأُبدلت مدّه كقراءة من قرأ :

{ أَن كَانَ ذَا مَالٍ } [ القلم : 14 ] أي الآن كان .

وقوله : أو يحاجّوكم على هذه القراءة رجوع إلى خطاب المؤمنين ويكون أو بمعنى أن لأنّهما حرفا شك وجزاء ويوضع أحدهما موضع الآخر وتقدير الآية : وإن يحاجّوكم يا معشر المؤمنين عند ربّكم فقل يا محمد : إنّ الهدى هدى اللّه ونحن عليه .

ويحتمل أن يكون الجميع خطاباً للمؤمنين ويكون نظم الآية : أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشر المؤمنين [ فلا تشكّو عند تلبيس اليهود ] فقل إنّ الفضل بيد اللّه .

وإن حاجّوكم فقل إنّ الهدى هدى اللّه .

فهذه وجوه الآيات باختلاف القرآن . ويحتمل أن يكون تمام الخبر عن اليهود عند قوله { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } فيكون قوله { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلى آخر الآية من كلام اللّه عزّ وجّل . وذلك إنّ اللّه تعالى مثبّتٌ لقلوب المؤمنين ومشحذٌ لبصائرهم لئلاّ يشكّوا عند تلبيس اليهود وتزويرهم في دينهم أي : ولا تصدّقوا يا معشر المؤمنين إلا لمن تبع دينكم ولا تصدّقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الدين والفضل ، ولا تصدّقوا أن يحاجّوكم في دينكم عند ربّكم فيقدرون على ذلك فإنّ الهدى هدى اللّه وأنّ الفضل بيد اللّه .

{ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } : فتكون الآية كلّها خطاب اللّه عز وجّل للمؤمنين عند تلبيس اليهود عليهم لئلاّ يزلّوا ولا يرتابوا واللّه أعلم . يدل عليه قول الضحّاك قال : إنّ اليهود قالوا : إنّا نحاجّ عند ربنا من خالفنا في ديننا فبيّن اللّه تعالى أنّهم هم المدحضون أي المغلوبون ، وإنّ المؤمنين هم الغالبون .

وقال أهل الإشارة في هذه الآية : لا تعاشروا إلا من يوافقكم على أحوالكم وطريقتكم فإنّ من لا يوافقكم لا يرافقكم .