معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } . يعني الدين المرضي الصحيح كما قال ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) . وقال ( ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه ) وفتح الكسائي الألف من " إن الدين " رداً على أن الأولى تقديره ، شهد الله انه لا إله إلا هو ، وشهد أن الدين عند الله الإسلام . أو شهد الله أن الدين عند الله الإسلام بأنه لا إله إلا هو ، وكسر الباقون الألف على الابتداء ، والإسلام : هو الدخول في السلم ، وهو الانقياد والطاعة ، يقال : أسلم أي دخل في السلم واستسلم .

قال قتادة في قوله تعالى : ( إن الدين عند الله الإسلام ) قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما جاء من عند الله تعالى . وهو دين الله الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، فلا يقبل غيره ، ولا يجزي إلا به .

أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنا أبو اسحق الثعلبي ، أنا أبو عمرو الفراوي ، أنا موسى عمران بن موسى ، أنا الحسن بن سفيان ، أنا عمار بن عمرو بن المختار ، حدثني أبي عن غالب القطان قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش وكنت أختلف إليه ، فلما كنت ذات ليلة أردت أن أنحدر إلى البصرة ، فإذا الأعمش قائم من الليل يتهجد فمر بهذه الآية ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به ، وأستودع الله هذه الشهادة ، وهي لي عند الله وديعة ( إن الدين عند الله الإسلام ) قالها مراراً ، قلت : لقد سمع فيها شيئاً ، فصليت الصبح معه وودعته ثم قال : إني سمعتك تقرأ آية ترددها فما بلغك فيها ؟ قال لي : أو ما بلغك ما فيها ؟قلت : أنا عند منذ سنتين لم تحدثني ، قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة ، فكتبت على بابه ذلك اليوم وأقمت سنة ، فلما مضت السنة قلت : يا أبا محمد ، قد مضت السنة . قال : حدثني أبو وائل ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يجاء بصاحبها يوم القيامة فيقول الله : إن لعبدي هذا عندي عهداً ، وأنا أحق من وفي بالعهد ، أدخلوا عبدي الجنة " .

قوله تعالى : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } . قال الكلبي : نزلت في اليهود والنصارى ، حين تركوا الإسلام ، أي وما اختلف الذين أوتوا الكتاب في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم .

قوله تعالى : { إلا من بعد ما جاءهم العلم } . يعني بيان نعته في كتبهم . وقال الربيع بن أنس : إن موسى عليه السلام لما حضره الموت دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، واستخلف يوشع بن نون ، فلما مضى القرن الأول والثاني والثالث وقعت الفرقة بينهم ، وهم الذين أوتوا الكتاب من أبناء أولئك السبعين ، حتى أهرقوا بينهم الدماء ، ووقع الشر والاختلاف ، وذلك من بعد ما جاءهم العلم يعني بيان ما في التوراة .

قوله تعالى : { بغياً بينهم } . أي طلباً للملك والرياسة فسلط الله عليهم الجبابرة . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : نزلت في نصارى نجران ومعناها : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب ( يعني الإنجيل ) في أمر عيسى عليه السلام ، وفرقوا القول فيه ( إلا من بعد ما جاءهم العلم ) . بأن الله واجد ، وأن عيسى عبده ورسوله ( بغياً بينهم ) أي للمعاداة والمخالفة ( ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب ) .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

ولما قرر أنه الإله الحق المعبود ، بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به ويدان له ، وهو الإسلام الذي هو الاستسلام لله بتوحيده وطاعته التي دعت إليها رسله ، وحثت عليها كتبه ، وهو الذي لا يقبل من أحد دينا سواه ، وهو متضمن للإخلاص له في الحب والخوف والرجاء والإنابة والدعاء ومتابعة رسوله في ذلك ، وهذا هو دين الرسل كلهم ، وكل من تابعهم فهو على طريقهم ، وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على الاجتماع على دين الله ، بغيا بينهم ، وظلما وعدوانا من أنفسهم ، وإلا فقد جاءهم السبب الأكبر الموجب أن يتبعوا الحق ويتركوا الاختلاف ، وهذا من كفرهم ، فلهذا قال تعالى { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } فيجازي كل عامل بعمله ، وخصوصا من ترك الحق بعد معرفته ، فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الأليم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

18

وقوله : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ } إخبار من الله تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثته محمدًا صلى الله عليه وسلم بدِين على غير شريعته ، فليس بمتقبل . كما قال تعالى : { وَمَنْ يَبْتَغِ{[4902]} غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ [ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ]{[4903]} } [ آل عمران : 85 ] وقال في هذه الآية مخبرًا بانحصار الدين المتقبل عنده في الإسلام : { إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ }

/خ19

ثم قال : { وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ } أي : من جحد بما أنزل{[4904]} الله في كتابه فإن الله سيجازيه على ذلك ، ويحاسبه على تكذيبه ، ويعاقبه على مخالفته كتابه{[4905]}


[4902]:في أ: "يتبع".
[4903]:زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".
[4904]:في أ، و: "أنزله".
[4905]:في أ، و: "بكتابه".
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ الدّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ إِلاّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللّهِ فَإِنّ اللّهِ سَرِيعُ الْحِسَابِ }

ومعنى الدين في هذا الموضع : الطاعة والذلة ، من قول الشاعر :

ويوْمُ الحَزْنِ إذْ حَشَدَتْ مَعَدّ *** وكانَ النّاسُ إلاّ نَحنُ دِينَا

يعني بذلك : مطيعين على وجه الذل¹ ومنه قول القطامي :

*** كانَتْ نَوَارُ تَدِينُكَ الأدْيانَا ***

يعني تذلّك . وقول الأعشى ميمون بن قيس :

هُوَ دَان الرّبابِ إذْ كَرِهُوا الدّ *** ينَ دِرَاكا بغَزْوَةٍ وَصيالِ

يعني بقوله «دان » : ذلل ، وبقوله «كرهوا الدين » : الطاعة . وكذلك الإسلام ، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع والفعل منه أسلم ، بمعنى : دخل في السلم ، كما يقال أقحط القوم : إذا دخلوا في القحط ، وأربعوا : إذا دخلوا في الربيع ، فكذلك أسلموا : إذا دخلوا في السلم ، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة . فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل قوله : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامُ } إن الطاعة التي هي الطاعة عنده الطاعة له ، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذلة ، وانقيادها له بالطاعة فيما أمر ونهى ، وتذللها له بذلك من غير استكبار عليه ولا انحراف عنه دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودية والألوهية .

وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام } والإسلام : شهادة أن لا إلَه إلا الله ، والإقرار بما جاء به من عند الله ، وهو دين الله الذي شرع لنفسه ، وبعث به رسله ، ودل عليه أولياءه ، لا يقبل غيره ولا يجزى إلا به .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : حدثنا أبو العالية في قوله : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلام } قال : الإسلام : الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وسائر الفرائض لهذا تبع .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { أسْلَمْنَا } قال : دخلنا في السلم وتركنا الحرب .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { إنّ الدينَ عندَ اللّهِ الإسلامَ } : أي ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ والتصديق للرسل .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ } .

يعني بذلك جل ثناؤه : وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل ، وهو الكتاب الذي ذكره الله في هذه الاَية في أمر عيسى ، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم وتشتت بها كلمتهم ، وباين بها بعضهم بعضا ، حتى استحلّ بها بعضهم دماء بعض ، { إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَينهم } يعني : إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفرية مبطلون . فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل وقالوا ما قالوا من القول الذي هو كفر بالله على علم منهم بخطإ ما قالوه ، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلاً منهم بخطئه ، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلاف الذي هم عليه ، تعدّيا من بعضهم على بعض ، وطلب الرياسات والملك والسلطان . كما :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ } قال : قال أبو العالية : إلا من بعدما جاءهم الكتاب والعلم بغيا بينهم ، يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وسلطانها ، فقتل بعضهم بعضا على الدنيا ، من بعد ما كانوا علماء الناس .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن ابن عمر : أنه كان يكثر تلاوة هذه الاَية : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام وَما اخْتَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ بَغْيا بَيْنَهُمْ } يقول : بغيا على الدنيا ، وطلب ملكها وسلطانها ، من قِبَلها واللّه أُتينا ! ما كان علينا من يكون ، بعد أن يأخذ فينا كتاب الله وسنة نبيه ، ولكنا أُتينا من قبلها .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : إن موسى لما حضره الموت دعا سبعين حبرا من أحبار بني إسرائيل ، فاستودعهم التوراة ، وجعلهم أمناء عليه ، كل حبر جزءا منه ، واستخلف موسى يوشع بن نون . فلما مضى القرن الأوّل ، ومضى الثاني ، ومضى الثالث ، وقعت الفرقة بينهم ، وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين ، حتى أهراقوا بينهم الدماء ، ووقع الشّر والاختلاف ، وكان ذلك كله من قبل الذين أوتوا العلم بغيا بينهم على الدنيا ، طلبا لسلطانها وملكها وخزائنَها وزخرفها ، فسلط الله عليهم جبابرتهم ، فقال الله : { إنّ الدّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسْلامِ } إلى قوله : { وَاللّهِ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ } .

فقول الربيع بن أنس هذا يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيّ بقوله : { وَما اختلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } اليهود من بني إسرائيل دون النصارى منهم ومن غيرهم . وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنيّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن محمد بن جعفر بن الزبير : { وَما اختَلَفَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ إلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ العِلْمُ } الذي جاءك ، أي أن الله الواحد الذي ليس له شريك ، { بَغْيا بَيْنَهُمْ } يعني بذلك : النصارى .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فإنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } .

يعني بذلك : ومن يجحد حجج الله وأعلامه التي نصبها ذكرى لمن عقل ، وأدلة لمن اعتبر وتذكر ، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا ، فمجازيه بها في الاَخرة ، فإنه جلّ ثناؤه سريع الحساب ، يعني : سريع الإحصاء . وإنما معنى ذلك : أنه حافظٌ على كل عامل عمله ، لا حاجة به إلى عقد ، كما يعقده خلقه بأكفهم ، أو يعونه بقلوبهم ، ولكنه يحفظ ذلك عليهم بغير كلفة ولا مؤونة ، ولا معاناة لما يعانيه غيره من الحساب .

وبنحو الذي قلنا في معنى { سَرِيعُ الحِسابِ } كان مجاهد يقول .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله عزّ وجلّ : { وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فإنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } قال : إحصاؤه عليهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَمَنْ يَكْفُرْ بآياتِ اللّهِ فَإنّ اللّهَ سَرِيعُ الحِسابِ } إحصاؤه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

قد تقدم ذكر اختلاف القراء في كسر الألف من { إن الدين } وفتحها ، و{ الدين } في هذه الآية الطاعة والملة ، والمعنى ، أن الدين المقبول أو النافع أو المقرر ، و{ الإسلام } في هذه الآية هو الإيمان والطاعة ، قاله أبو العالية وعليه جمهور المتكلمين ، وعبر عنه قتادة ومحمد بن جعفر بن الزبير بالإيمان .

قال أبو محمد رحمه الله : ومرادهما ، أنه من الأعمال ، و{ الإسلام } هو الذي سأل عنه جبريل النبي عليه السلام حين جاء يعلم الناس دينهم الحديث{[3032]} وجواب النبي له في الإيمان والإسلام يفسر ذلك ، وكذلك تفسيره قوله عليه السلام : بني الإسلام على خمس ، الحديث{[3033]} ، وكل مؤمن بنبيه ملتزم لطاعات شرعه فهو داخل تحت هذه الصفة ، وفي قراءة ابن مسعود «إن الدين عند الله للإسلام » باللام{[3034]} ثم أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب ، أنه كان على{[3035]} علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا ، قاله ابن عمر وغيره .

و { والذين أوتوا الكتاب } لفظ يعم اليهود والنصارى ، لكن الربيع بن أنس قال ، المراد بهذه الآية اليهود{[3036]} ، وذلك أن موسى عليه السلام ، لما حضرته الوفاة ، دعا سبعين حبراً من أحبار{[3037]} بني إسرائيل فاستودعهم التوراة ، عند كل حبر جزء ، واستخلف يوشع بن نون فلما مضت ثلاثة قرون ، وقعت الفرقة بينهم ، وقال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران ، و{ بغياً } نصب على المفعول من أجله أو على الحال من { الذين } ثم توعد عز وجل الكفار ، وسرعة الحساب يحتمل أن يراد بها سرعة مجيء القيامة والحساب إذ هي متيقنة الوقوع ، فكل آت قريب ويحتمل أن يراد بسرعة الحساب أن الله تعالى بإحاطته بكل شيء علماً لا يحتاج إلى عد ولا فكرة ، قاله مجاهد .


[3032]:- الحديث مشهور-أخرجه البخاري، ومسلم، والإمام أحمد، والبزار، والطبراني في الكبير بروايات مختلفة. "مجمع الزوائد 1/38" والحديث مروي عن عمر بن الخطاب- وقد جاء فيه عن الإسلام والإيمان بلفظ مسلم: "وقال: يا محمد. أخبرني عن الإسلام، قال: "الإسلام: أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا" قال. صدقت. فعجبنا له يسأله ويصدقه! قال: "فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره" (مشكاة المصابيح 1/9).
[3033]:- أخرجه الإمام أحمد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي-عن ابن عمر- حديث صحيح. الجامع الصغير 1/428- ونصه كما نقله في مشكاة المصابيح: (وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان). ثم قال: متفق عليه.
[3034]:- أي: المفتوحة.
[3035]:- في بعض الروايات: عن.
[3036]:- ما بين القوسين سقط في كثير من النسخ.
[3037]:-جاء في الصحاح: والحِبر والحَبر: واحد أحبار اليهود. قال أبو عبيد: والذي عندي أنه الحَبر. ومعناه: العالم بتحبير الكلام والعلم وتحسينه.