الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

قوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ } : قرأ الكسائي بفتحِ الهمزةِ والباقون بكسرِها . فأمَّا قراءةُ الجماعَةِ فعلى الاستئنافِ ، وهي مؤكدةٌ للجملة الأولى : قال الزمخشري : " فإنْ قلت : ما فائدةُ هذا التوكيدِ ؟ قلتْ : فائدتُهُ أنَّ قولَه : " لا إله إلا هو " توحيدٌ ، وقولَه : " قائماً بالقِسْطِ " تعديلٌ ، فإذا أَردْفه قولَه : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } فقد آذن أن الإِسلام هو العدلُ والتوحيد ، وهو الدينُ عند الله ، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده " .

وأمَّا قراءةُ الكسائي ففيها أوجهٌ ، أحدُها : أنها بدلٌ من " أنه لا إله إلا هو " على قراءةِ الجمهور في " أنه لا إله إلا هو " وفيه وجهان ، أحدهما : أنه من بدلِ الشيءِ من الشيء ، وذلك أنَّ الدين الذي هو الإِسلام يتضمَّنُ العدْلَ والتوحيدَ وهو هو في المعنى . والثاني : أنه بدلُ اشتمالٍ لأنَّ الإِسلامَ يشتمِلُ على التوحيدِ والعَدْلِ .

الثاني من الأوجه السابقة أن يكونَ " أنَّ الدين " بدلاً من قوله " قائماً بالقسط " ثم لك اعتباران ، أحدُهما : أَنْ تَجْعَله بدلاً من لفظِهِ فيكونُ محلُّ

" أنَّ الدين " الجرَّ . والثاني : أن تجعلَه بدلاً مِنْ مَوْضِعِه فيكونُ محلُّها نصباً . وهذا الثاني لا حاجةَ إليه وإن كان أبو البقاء ذكره ، وإنما صَحَّ البدلُ في المعنى ؛ لأنَّ الدينَ الذي هو الإِسلامُ قِسْطٌ وعَدْلٌ ، فيكونُ أيضاً من بدلِ الشيءِ من الشيء ، وهما لعينٍ واحدةٍ . ويجوزُ أَنْ يكونَ بدلَ اشتمال لأنَّ الدينَ مشتملٌ على القسطِ وهو العدلُ . وهذه التخاريجُ لأبي علي الفارسي ، وتَبِعَهُ الزمخشري في بَعْضِها . قال الشيخ : " وأبو علي معتزلي فلذلِكَ يشتمل كلامُه على لفظِ المعتزلةِ من العدلِ والتوحيد " قلت : ومَنْ يرغَبُ عن التوحيدِ والعدلِ من أهلِ السنةِ حتى يَخُصَّ به المعتزلَة ؟ وإنما رأى في كلامِ الزمخشري هذه الألفاظَ كثيراً ، وهو عنده معتزليٌّ ، فَمَن تَكَلَّم بالتوحيدِ والعَدْلِ كان عندَه معتزلياً .

ثم قال : " وعلى البدل من " أنه " خَرَّجه هو وغيرُه ، وليس بجيد لأنه يُؤَدِّي إلى تركيبٍ بعيدٍ أَنْ يأتيَ مثلُه في كلامِ العربِ وهو : " عَرَف زيدٌ أنه لا شجاعَ إلا هو وبنو دارم ملاقياً للحروب لا شجاع إلا هو البطل الحامي أنَّ الخَصْلَةَ الحميدةَ هي البسالةُ " وتقريبُ هذا المثال : " ضرب زيدٌ عائشةً والعُمَران حَنِقاً أختَك " فَحَنِقاً حالٌ من زيد ، وأختَك بدلٌ من عائشةً ، ففصل بين البدلِ والمبدلِ منه بالعطفِ ، وهو لا يجوزُ ، وبالحالِ لغيرِ المُبْدَلِ منه ، وهو لا يجوزُ ، لأنه فُصِلَ بأجنبي بين المُبْدَلِ منه والبدل " انتهى .

قوله : " عرف زيد " هو نظيرُ : " شهد الله " وقوله : " أنه لا شجاع إلا هو " نظير " أنه لا إله إلا هو " .

وقوله : " وبنو دارم " نظير قوله : " والملائكة " . وقوله : " ملاقياً للحروب " نظيرُ قوله : " قائما بالقسط ، وقوله " لا شجاع إلا هو " نظير قوله :

" لا إله إلا هو " فجاء به مكرراً كما في الآية ، وقوله : " البطل الحامي " نظيرُ قولهِ : " العزيز الحكيم " وقوله " أن الخصلة الحميدة هي البسالة " نظيرُ قوله : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ولا يَظْهَرُ لي مَنْعُ ذلك ولا عَدَمُ صحةِ تركيبه حتى يقول " ليس بجيد " وبعيد أن يأتي عن العرب مثله " . وما ادَّعاه بقولِهِ في المثال الثاني أنَّ فيه الفصلَ بأجنبي فيه نظرٌ ، إذ هذه الجملُ صارَتْ كلُّها كالجملة الواحدة لِمَا اشتملت عليه من تقويةِ كلماتٍ بعضِها ببعضٍ ، وأبو عليّ وأبو القاسم وغيرُهُما لم يكونوا في محلِّ مَنْ يَجْهَلُ صحةَ تركيبِ بعضِ الكلامِ وفسادِهِ .

ثم قال الشيخ : " قال الزمخشري : وقُرئا مفتوحين على أنَّ الثاني بدلٌ من الأول كأنه قيل : شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ عند الله الإِسلامُ ، والبدلُ هو المبدلُ منه في المعنى ، فكانَ بياناً صريحاً لأنَّ دينَ الإِسلام هو التوحيدُ والعدلُ " . قال : " فهذا نَقْلُ كلامِ أبي عليّ دونَ استيفاءٍ " .

الثالث من الأوجه : أَنْ يكونَ " أنَّ الدينَ " معطوفاً على " أنه لا إله إلا هو " ، حُذِفَ منه حرفُ العطفِ ، قاله ابن جرير ، وضَعَّفَهُ ابنُ عطيَّة ، ولم يبيِّن وجهَ ضَعْفِهِ .

قال الشيخ : " وَجْهُ ضَعفِهِ أنه متنافِرُ التركيب مع إضمارِ حرفِ العطفِ ، فَيُفْصَلُ بين المتعاطِفَيْنِ المرفوعَيْن بالمنصوبِ المفعولِ ، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوعِ وبجملتي الاعتراضِ ، وصار في التركيبِ نظيرَ قولِك : " أكل زيدٌ خبزاً وعمروُ سمكاً " يعني فَفَصْلتَ بين " زيد " وبين " عمر " ب " خبزاً " ، وفصلْتَ بين " خبزاً " وبين " سمكاً " بعمرٍو ، إذ الأصلُ قبل الفصل : " أكل زيدٌ وعمر خبزاً وسمكاً " .

الرابعُ : أَنْ يكونَ معمولاً لقولِهِ : " شهِدَ الله " أي : شَهِدَ الله بأنَّ الدينَ ، فلمَّا حُذِفَ الحرفُ جازَ أَنْ يَحْكُمَ على موضِعِه بالنصب أو بالجرِّ . فإنْ قلت : إنما يتجهُ هذا التخريجُ على قراءةِ ابن عباس ، وهي كسرُ إنَّ الأولى ، وتكون حينئذٍ الجملةُ اعتراضاً بين " شَهِدَ " وبين معمولِهِ كما قَدَّمْتُهُ ، وأمَّا على قراءةِ فَتْحِ " أنَّ " الأولى ، وهي قراءةُ العامة فلا يَتَجِهُ ما ذكرْتُهُ من التخريج ، لأن الأولى معمولةٌ له استَغْنَى بها . فالجوابُ : أنَّ ذلك متجهٌ أيضاً مع فتحِ الأولى وهو أَنْ تَجْعَلَ الأولى على حَذْفِ لامِ العلة ، تقديرُهُ : شهد الله أنَّ الدين عندَ اللهِ الإِسلامُ لأنه لا إله إلا هو ، وكان يَحِيك في نفسي هذا التخريجُ مدةً ، ولم أَرَهم ذكروه حتى رأيتُ الواحديَّ ذَكَرَه ، وقال : " وهذا معنى قول الفراء حيث يقولُ في الاحتجاجِ للكسائي :

" إنْ شِئْتَ جَعَلْتَ " أنه " على الشرطِ ، وجَعَلْتَ الشهادةَ واقعةً على قولِهِ : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } وتكونُ " أنَّ " الأولى يصلُح فيه الخَفْضُ كقولِك : " شهد اللهُ لوحدانيتِهِ أنَّ الدينَ عن اللهِ الإسلامُ " .

وهو كلامٌ مُشْكِلٌ في نفسِهِ ، ومعنى قولِهِ : " على الشرط " أي : العلة ، سَمَّى العلةَ شرطاً لأنَّ المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقُّفِ المعلولِ على علتِهِ ، فهو علَّةٌ ، إلا أنه خلافُ اصطلاحِ النحويين .

ثم اعترَضَ الواحديُّ على هذا التخريجِ بأنه لو كانَ كذلك لم يَحْسُنْ إعادةُ اسمِ الله ولكانَ التركيبُ { إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } ، لان الاسمَ قد سَبَقَ فالوجهُ الكنايةُ ، ثم أجاب بأنَّ العربَ ربما أعادت الاسمَ موضعَ الكناية وأنشد :

لا أَرَى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ *** نَغَّصَ الموتُ ذا الغِنى والفقيرا

يعني أنه من بابِ إيقاعِ الظاهِرِ موقعَ المضمرِ ، ويزيدُهُ هنا حُسْناً أنه في موضِعِ تعظيمٍ وتفخيمٍ .

الخامس : أَنْ تكونَ على حَذْفِ حرفِ الجر معمولةً لِلَفْظِ " الحكيم " كأنه قيل : الحكيم بأن ، أي : الحاكم بأن ، فحكيم مثالُ مبالغةُ مُحَوَّلٌ من فاعِل ، فهو كالعليم والخبير والبصير ، أي : المبالِغُ في هذه الأوصاف ، وإنما عَدَلَ عن لفظ " حاكم " إلى " حكيم " مع زيادةِ المبالغة لموافقةِ العزيز . ومعنى المبالغةِ تكرارُ حكمهِ بالنسبة إلى الشرائع أنَّ الدين عند الله هو الإِسلام ، أو حَكَمَ في كلِّ شريعة بذلك . وهذا الوجهُ ذكره الشيخ وكأنه من تخريجه ثم قال : " فإن قلت : لِمَ حَمَلْتَ الحكيم على أنه مُحَوَّلٌ من فاعل إلى فعيل للمبالغة ، وهلاَّ جَعَلْتَه فعيلاً بمعنى مُفْعِل ، فيكون بمعنى مُحْكِم ، كما قالوا : أليم بمعنى مُؤْلِم وسميع بمعنى مُسْمِع من قولِ الشاعر :

أَمِنْ ريحانَةَ الداعي السميعُ *** *** . . . . . . . . . . . . . . . . . .

فالجوابُ أَنَّا لا نُسَلِّمُ أَنَّ فعيلاً بمعنى مُفْعِل ، وقد يُؤَوَّل أليمِ وسميع علىغير مُفْعِل ، ولئن سَلَّمْنَا ذلك فهو من النُّدورِ والشذوذ بحيث لا يَنْقَاسُ ، بخلاف فَعيل مُحَوَّلٌ من فاعِل فإنه كثيرٌ جداً خارجٌ عن الحصرِ كعليم فإنَّ العربيَّ القُحَّ الباقي على سَجِيَّتِهِ لم يَفْهَمْ عن " حكيم " إلا أنه مُحَوَّلٌ من فاعل للمبالغةِ ، ألا ترى أنه لَمَّا سَمِعَ قارئاً يقرأ : " والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيدَيهما جزاءً بما كَسَبَا نكالاً من الله والله غفور رحيم " أنكر أن تكونَ فاصلةُ هذا التركيبِ السابقِ : " والله غفور رحيم " فقيل له : التلاوةُ : " والله عزيز حكيم " ، فقال : هكذا يكون : عَزَّ فحكم فقطع " فَفَهِمَ من حكيم أنه محولٌ للمبالغة السالفة من " حاكم " ، وفَهْمُ هذا العربي حجةٌ قاطعةٌ بما قلناه ، وهذا تخريجٌ سهل سائغٌ جداً ، يُزيل تلك التكلفاتِ والتركيباتِ العَقِدَةَ التي يُنَزَّه كتابُ الله عنها .

وأمَّا على قراءة ابنِ عباس فكذلك نقول ، ولا نجعل " أنَّ الدين " معمولاً ل " شهد " كما زَعَمُوا وأن " إنه لا إله إلا هو " اعتراضٌ يعني بين الحال وصاحبها وبين " شهد " ومعمولِهِ ، وسيأتي إيضاحُ ذلك بل نقولُ : معمولُ " شَهِدَ " هو " إنه " بالكسرِ على تخريجِ مَنْ خَرَّجَ أنَّ " شهد " لَمَّا كان بمعنى القولِ كُسِرَ ما بعدَه إجراءً له مُجْرَى القولِ ، أو نقول " إنه " معموله وعُلِّقَتْ ، ولم تَدْخُلِ اللامُ في الخبر لأنه منفيٌّ ، بخلافِ أَنْ لو كان مثبتاً فإنك تقول : " شهدت إنَّ زيداً لمنطلقٌ " فَتُعَلَّقُ بإنَّ مع وجودِ اللام لأنه لو لم تكن اللامُ لفَتَحْتَ " أنَّ " فقلت : شهدت أنَّ زيداً منطلق ، فَمَنْ قرأ بفتح " أنه " فإنه لم يَنْوِ التعليق ، ومَنْ كَسَرَ فإنَّه نوى التعليقَ ولم تدْخُل اللامُ في الخبرِ لأنه منفيٌّ كما ذكرنا " انتهى .

وكان الشيخ لَمَّا ذَكَرَ الفصلَ والاعتراضَ بين كلماتِ هذه الآيةِ قال ما نصه : " وأما قراءةُ ابنِ عباس فَخُرِّجَ على { أنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ } هو معمولُ شهد ، ويكونُ في الكلامِ اعتراضان أحدُهما : بين المعطوفِ عليه والمعطوفِ ، وهو " إنه لا إله إلا هو " ، والثاني : بين المعطوفِ والحالِ وبين المفعولِ لشَهِدَ وهو : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " وإذا أعْرَبنا " العزيز الحكيم " خبرَ مبتدأٍ محذوفٍ كان ذلك ثلاثةَ اعتراضات . فانظر إلى هذه التوجيهاتِ البعيدةِ التي لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِهِنَّ من كلامِ العرب ، وإنما حَمَل على ذلك العجمةُ وعدمُ الإِمعانِ في تراكيب كلام العرب وحفظِ أشعارها ، وكما أشرنا إليه في خطبة هذا الكتاب أنه لن يكفيَ النحوُ وحدَه في علم الفصيح من كلام العرب ، بل لا بُدَّ من الاطلاع على كلامِ العرب والتطبُّع بطبَاعها والاستكثارِ من ذلك " .

قلت : ونسبتُه كلامَ أعلامِ الأمة إلى العُجْمَةِ وعَدَمِ معرفتِهِم بكلام العرب وحَمْلُهم كلامَ الله على ما لا يجوز ، وأنَّ هذا الوجه الذي ذكره هو تخريجُ سهل واضح غير مقبولةٍ ولا مُسَلَّمةٍ ، بل المتبادرُ إلى الذهن ما نقله الناس ، وتلك الاعتراضاتُ بين أثناء كلماتِ الآية الكريمة موجودٌ نظيرُها في كلامِ العرب ، وكيف يَجْهل الفارسي والزمخشري والفراء وأضرابُهم ذلك ، وكيف يتبَجَّح باطِّلاعه على ما لم يَطَّلِعْ عليه مثلُ هؤلاء ، وكيف يَظُّنُّ بالزمخشري أنه لا يعرِفُ مواقعَ النَّظْم وهو المُسَلَّمُ له في علم المعاني والبيان والبديع ، ولا يشك أحد أنه لا بد لمَنْ يتعرَّض إلى علم التفسير أن يعرف جملةً صالحةً من هذه العلوم ، وانظر إلى ما حكى صاحب " الكشاف " في خطبته عن الجاحظ وما ذَكَرَهُ في حقِّ الجاهل بهذه العلومِ ، ولكن الشيخَ يُنْكِرُ ذلك ويَدَّعِي أنه لا يُحْتَاجُ إلى هذه العلومِ البتة ، فَمِنْ ثَمَّ صدر ما ذكرته عنه .

قوله : { عِندَ اللَّهِ } ظرفٌ ، العاملُ فيه لفظ " الدين " لِمَاك تَضمَّنه من معنى الفعل . قال أبو البقاء : " ولا يكونُ حالاً ، لأن " إنَّ " لا تعمل في الحال " قلت : قد جَوَّزُوا في " ليت " وفي " كأنَّ " وفي " ها " أن تعملَ في الحالِ . قالوا : لِما تَضَمَّنَتْه هذه الأحرفُ من معنى التمني والتشبيه والتنبيه ، فإنَّ للتأكيدِ فَلْتعمل في الحالِ أيضاً ، فليسَتْ تتباعَدُ عن " ها " التي للتنبيه ، بل هي أَوْلَى منها ، وذلك أنها عاملةٌ و " ها " لَيْسَتْ بعاملةٍ فهي أقربُ لشِبْهِ الفعلِ من " ها " .

قوله : { بَغْياً } فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ من أجلِهِ ، العامل فيه " اختلف " والاستثناءُ مفرغٌ . والتقدير : وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيرِهِ . والثاني : أنه مصدرٌ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من " الذين " كأنه قيل : " ما اختلفوا إلاَّ في هذه الحالِ ، وليس بقوي ، والاستثناءُ مفرَّغٌ أيضاً . [ الثالث : أنه منصوبٌ على المصدرِ والعامِلُ فيه مقدَّرٌ ] كأنه لَمَّا قيل : " وما اختلف " دَلَّ على معنَى : " وما بَغَى " فهو مصدرٌ مؤكِّدٌ ، وهذا قولُ الزجاج ، والأولُ قولُ الأخفش ، ورجَّحه أبو علي . ووقع بعد " إلا " مستثنيان وهما : " مِنْ بعدِ " و " بَغْياً " وقد تقدَّم تخريجُ ذلك وما ذَكَرَ الناسُ فيه .

قوله : { وَمَن يَكْفُرْ } " مَنْ " مبتدأٌ ، وفي خبره الأقوالُ الثلاثةُ ، أعني فعلَ الشرطِ وَحْدَهُ ، أو الجوابَ وحدَه ، أو كلاهما . وعلى القولِ بكونِهِ الجوابَ وحده لا بدَّ من ضمير مقدَّرٍ أي : سريعُ الحسابِ له ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك .