الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

قوله : ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الاِسْلاَمُ . . . ) الآية [ 19 ] .

( بَغْياً بَيْنَهُمْ( {[9615]} ) ) منصوب بفعل دل عليه ( اختلف ) كأنه : اختلفوا بغياً بينهم ،

وقال الأخفش : [ نصبه ]( {[9616]} ) باختلف( {[9617]} ) ، هذا الظاهر تقديره : ( وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم )( {[9618]} ) .

وهو حال عند الجميع( {[9619]} ) .

وقيل : مفعول من أجله( {[9620]} ) .

ومن كسر( {[9621]} ) إن فعلى الابتداء ، ومن فتح( {[9622]} ) رده على شهداء أي : ويشهد بأن الدين .

وقال ابن كيسان : إن الثانية بدل من الأولى ، لأن الإسلام تفسير بمعنى( {[9623]} ) [ الدين( {[9624]} ) ] الذي هو التوحيد( {[9625]} ) .

وعن ابن عباس : شهد الله إنه ، بالكسر فجعله خبراً وتفتح أن الدين برفع الشهادة عليها( {[9626]} ) .

وقد ألزم( {[9627]} ) من قرأ بالفتح في أن الدين( {[9628]} ) أن يقرأ : أن الدين عنده( {[9629]} ) الإسلام ، لأن الإظهار يستغنى عنه( {[9630]} ) ، وقد منع النحويون : شهدت أن زيداً عالم ، وأن زيداً بصير ، والثاني هو الأول( {[9631]} ) .

وقال المحتج للكسائي : وقع( {[9632]} ) الإظهار هنا للتعظيم والتفخيم كما قال : لا أرى الموت يسبق الموت ( شيء )( {[9633]} )( {[9634]} ) .

على التعظيم للموت .

والذي هو أحسن من هذا ، أن النحويين إنما منعوا الإظهار [ فيما يمكن أن يتوهم أن الثاني غير الأول فيخاف الالتباس عند الإظهار ]( {[9635]} ) ، والآية لا يمكن ذلك فيها ، لأن هذا الاسم ليس هو إلا لواحد لم يتسم به غيره ، لا إله إلا هو ، فإظهاره( {[9636]} ) مرة بعد مرة لا يوهم أن الثاني غير الأول ، وإظهار زيد مرة [ بعد مرة( {[9637]} ) ] يوهم أن الثاني غير الأول( {[9638]} ) .

فليست الآية تشبه ما يقع في الكلام من الإظهار بعد الإظهار ، إذ زيد وغيره يصلح لكل أحد ، وأما الموت فإنما( {[9639]} ) ظهر في الثاني لأنه لا لبس( {[9640]} ) فيه ، إذ ليس ثم غير موت واحد ، فليس يتوهم أن الثاني غير الأول وفي الإظهار مع( {[9641]} ) زوال الالتباس معنى التعظيم والتفخيم كما تقدم .

والدين : الطاعة( {[9642]} ) .

ومعنى الإسلام : شهادة( {[9643]} ) أن لا إله إلا الله ، والإقرار بما( {[9644]} ) جاء من عند الله .

وأصل الإسلام : الخشوع والانقياد( {[9645]} ) .

وروى ابن عمر عن النبي عليه السلام أنه قال : " بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وحج البيت ، وصوم رمضان " ( {[9646]} ) .

وفي هذه الآية دلالة على ضعف قول من يفرق بين الإسلام والإيمان ، ويجعل الإيمان أفضل من الإسلام ، إذ أخبر الله جل ذكره ( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ) فهو الإيمان بعينه ، إذ لا يرضى الله من خلقه بما هو أدون ، ويدل على ذلك قوله : ( وَمَن يَّبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُّقْبَلَ مِنْهُ )( {[9647]} ) .

فالإسلام : هو الإيمان إذا استوى الباطن والظاهر ، فإن خالف الظاهر الباطن فيهما فليسا بدين يتقبله الله ، نحو قوله : ( قُل لَّمْ تُومِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا )( {[9648]} ) ونحو قوله ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَّقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُومِنِينَ( {[9649]} ) ) لم يحصلوا على شيء لما خالف باطنهم ظاهرهم .

وقد قيل : " إن الإسلام أعم من الإيمان ، لأن الإيمان ما صدق به الباطن ، والإسلام ما صدق به الباطن ونطق به الظاهر( {[9650]} ) .

ومعنى ( الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ) أي : الإنجيل ، وهم النصارى الذين اختلفوا( {[9651]} ) في محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : في عيسى( {[9652]} ) للبغي( {[9653]} ) من بعدما جاءهم العلم ، فعلوا ذلك طلباً للرياسة والدنيا( {[9654]} ) ، قوله : ( سَرِيعُ الحِسَابِ ) أي : أحصى كل شيء بلا معاناة( {[9655]} ) ولا عدد .

وقال الربيع : ( الذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ) هم اليهود ، و( الكِتَابَ ) : التوراة ، وذلك أن موسى على نبينا وعليه السلام ، لما حضرته( {[9656]} ) الوفاة دعا( {[9657]} ) سبعين( {[9658]} ) حَبْراً من أحبار " بني إسرائيل ، فاستودعهم( {[9659]} ) التوراة ، واستخلف عليهم يوشع بن نون ، فلما مضت ثلاثة قرون بعد موسى صلى الله عليه وسلم وقعت الفرقة والاختلاف بين أبناء أولئك السبعين تنافساً في الدنيا ، وطلباً للملك والرياسة( {[9660]} ) .


[9615]:- هو اختيار الزجاج في معانيه 1/387، وحكاه النحاس عنه في إعراب القرآن 1/316، ونقله مكي ولم ينسبه.
[9616]:- ساقط من (أ).
[9617]:- (ج) اختلاف.
[9618]:- معاني الأخفش 1/401.
[9619]:- انظر: إعراب القرآن المنسوب للزجاج 2/719، والمشكل 1/152، والإملاء 1/76.
[9620]:- انظر: المصدر السابق.
[9621]:- هي قراءة الجمهور، انظر: السبعة 202، وحجة القراءات 157، والعنوان: 78.
[9622]:- هي قراءة الكسائي، انظر: توجيهها في الكشف 1/335.
[9623]:- (ب) (د): المعنى.
[9624]:- زيادة يقتضيها السياق وقد ورد النص بهذه الزيادة في الجامع للأحكام 4/43.
[9625]:- انظر: عن حجة القراءات 157-158.
[9626]:- هو وجه جيد عند الفراء. معاني الفراء 1/200، وذهب الطبري إلى أن رواية ابن عباس لم تثبت بوجه صحيح أو سقيم، انظر: جامع البيان 3/209، وأدرج قول ابن عباس في القراءات الشاذة في مختصر الشواذ 19 والجامع للأحكام 4/43.
[9627]:- (أ): أنزل.
[9628]:- (أ): الذين.
[9629]:- (أ): إن الدين عند الله الإسلام.
[9630]:- (د): فقد.
[9631]:- انظر: معاني الفراء 1/200، ومعاني الزجاج 1/386.
[9632]:- (ج): ورفع
[9633]:- ساقط من (د).
[9634]:- وتمامه: "لا أرى الموت يسبق الموت شيء نغص الموت ذا الغنى والفقير. وهو من الخفيف ينسب لعدي بن زيد العبادي في الديوان: 95. لكنه ورد منسوباً لابنه سودة في: الكتاب 1/62 وفي شرح أبيات سيبويه للسيرافي نسب لهما 1/87 وفي هامش الصفحة نسب لأمية ابن أبي الصلت، ولم أجده في ديوانه واستشهد به غير منسوب في جامع البيان 4/82 وإعراب النحاس 1/310. والشاهد في البيت هو إعادة الاسم الظاهر في موضع الضمير، وفيه قبح عند الكوفيين إذا كان تكراره في جملة واحدة ولا يجوز إلا لضرورة.
[9635]:- ساقط من (د).
[9636]:- (د): فإظهار.
[9637]:- ساقط من (أ).
[9638]:- انظر: جامع البيان 3/209، والكشاف1/338.
[9639]:- فلما.
[9640]:- (د): ليس.
[9641]:- (أ): معنى.
[9642]:- المفردات: 177، واللسان (دين) 13/169.
[9643]:- (أ): شهدن.
[9644]:- (د): لما.
[9645]:- انظر: تأويل المشكل: 479، والمفردات 249.
[9646]:- أخرجه البخاري في كتاب الإيمان باب قول النبي صلى الله عليه وسلم بُنِيَ الإسلام على خمس 1/7-8 ومسلم في كتاب الإيمان 1/23.
[9647]:- آل عمران آية 85.
[9648]:- الحجرات آية 14.
[9649]:- البقرة آية 8.
[9650]:- تأويل المشكل 479، والمفردات: 22-177-246، وكشف الأسرار لابن العماد: 176-183، وانظر: جامع البيان 13/141.
[9651]:- (ج): واختلفوا.
[9652]:- انظر: جامع البيان 3/212.
[9653]:- (ج): البغي، (د): ليبغي.
[9654]:- انظر: المصدر السابق.
[9655]:- كذا. معانات.
[9656]:- (أ) (ب) (د): حضره.
[9657]:- (ج): دعي.
[9658]:- (د): بسبعين.
[9659]:- (ب): استودعهم.
[9660]:- انظر: جامع البيان 3/213 والدر المنثور 2/167.