الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ وَمَا ٱخۡتَلَفَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡعِلۡمُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِـَٔايَٰتِ ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلۡحِسَابِ} (19)

قوله تعالى : " إن الدين عند الله الإسلام " الدين في هذه الآية الطاعة والملة ، والإسلام بمعنى الإيمان والطاعات ، قاله أبو العالية . وعليه جمهور المتكلمين . والأصل في مسمى الإيمان والإسلام التغاير ، لحديث جبريل{[2951]} . وقد يكون بمعنى المرادفة . فيسمى كل واحد منهما باسم الآخر ؛ كما في حديث وفد عبد القيس{[2952]} وأنه أمرهم بالإيمان بالله{[2953]} وحده وقال : ( هل تدرون ما الإيمان ) ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : ( شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وأن تؤدوا خمسا من المغنم ) الحديث . وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ( الإيمان بضع وسبعون بابا فأدناها إماطة الأذى وأرفعها قول لا إله إلا الله ) أخرجه الترمذي . وزاد مسلم ( والحياء شعبة من الإيمان ) . ويكون أيضا بمعنى التداخل وهو أن يطلق أحدهما ويراد به مسماه في الأصل ومسمى الآخر ، كما في هذه الآية إذ قد دخل فيها التصديق والأعمال ؛ ومنه قوله عليه السلام : ( الإيمان معرفة بالقلب وقول باللسان وعمل بالأركان ) . أخرجه ابن ماجه ، وقد تقدم والحقيقة هو الأول وضعا وشرعا وما عداه من باب التوسع ، والله أعلم .

قوله تعالى : " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب " الآية . أخبر تعالى عن اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائق ، وأنه كان بغيا وطلبا للدنيا . قاله ابن عمر وغيره . وفي الكلام تقديم وتأخير ، والمعنى : وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم ، قاله الأخفش . قال محمد بن جعفر بن الزبير : المراد بهذه الآية النصارى ، وهي توبيخ لنصارى نجران . وقال الربيع بن أنس : المراد بها اليهود . ولفظ الذين أوتوا الكتاب يعم اليهود والنصارى ، أي " وما اختلف الذين أوتوا الكتاب " يعني في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . " إلا من بعد ما جاءهم العلم " يعني بيان صفته ونبوته في كتبهم . وقيل : أي وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل{[2954]} في أمر عيسى وفرقوا فيه القول إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الله إله واحد ، وأن عيسى عبد الله ورسوله . و " بغيا " نصب على المفعول من أجله ، أو على الحال من ( الذين ) والله تعالى أعلم .


[2951]:- راجع هذا الحديث في صحيحي البخاري ومسلم في كتاب الإيمان الجزء الأول.
[2952]:- هو عبد القيس بن أقصى بن دعمي، أبو قبيلة، كانوا ينزلون البحرين وكان قدومهم عام الفتح وعلى رأسهم عبد الله بن عوف الأشج. (راجع كتاب الطبقات الكبير جـ ا قسم ثان ص 54 طبع أوربا، وشرح القسطلاني جـ1 ص 193 طبع بولاق).
[2953]:- في ب، و ز، و أ، و د.
[2954]:- في أ، ود: الكتاب.