الآية 19 وقوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام } قال قائلون : إن الدين الذي هو حق من بين الأديان ، وهو الإسلام ، لأن كل أحد منهم مما دان يدعي أنه دين الله الذي أمر به ، وقال قوم : إن الدين الذي أمر به من عند الله لأنهم كانوا مع اختلافهم مقرين بالإيمان ، لكن بعضهم لا يقرون بالإسلام ، فأخبر جل وعلا أن الدين الذي أمر به ، وفيه التوحيد ، هو الإسلام ، لا{[3658]} غيره . ألا ترى أنه قال : { ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن حنيفا مسلما } ؟ [ آل عمران : 67 ] أخبر جل وعلا أن إبراهيم ليس على دين سوى دين الإسلام ، والإسلام هو الإخلاص على ما ذكرنا في ما تقدم .
وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه ]{[3659]} قال : { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة } شهدوا { أولو العلم } أن { الدين عند الله الإسلام } وأنه قائم { بالقسط } . والقسط ، هو العدل في جميع القرآن .
وقوله تعالى : { وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } يحتمل وجهين : يحتمل الاختلاف التفرق ؛ أي تفرقوا في الكفر كقوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا } الآية [ آل عمران : 67 ] ، ويحتمل الاختلاف نفس الاختلاف في الدين كقوله : { ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر } [ البقرة : 253 ] ؛ أخبر أنهم{[3660]} لم يختلفوا عن جهل ولكن عن علم وبيان كقوله : { إلا من بعد ما جاءهم العلم } ثم يحتمل قوله : { إلا من بعد ما جاءهم العلم } وجهين{[3661]} : أي لم يختلفوا إلا من بعد ما علموا ، وعرفوا ، ويحتمل لم يختلفوا إلا من بعد ما أوتوا أسباب ما لو تفكروا ، وتدبروا ، ولرفع العلم لهم بذلك والبيان ، لكنهم [ تعنتوا ، و ]{[3662]} وكابروا ، فاختلفوا .
ثم في الآية دليل ألا يجوز أن يفسر{[3663]} قوله : { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] وقوله : { إلا أن يأتيهم الله } [ البقرة : 210 ] ونحوه بالانتقال{[3664]} من حال إلى حال ومن مكان إلى مكان لأنه ذكر مجيء العلم ، والعلم لا يوصف بالمجيء والذهاب{[3665]} ، وكذلك قوله : { وقل جاء الحق وزهق الباطل } [ الإسراء : 81 ] ؛ ذكر مجيء الحق ومزهق{[3666]} الباطل ، فهما لا يوصفان بمجيء الأجسام وذهابها{[3667]} بالانتقال والتحول من مكان إلى مكان ، ولا يعرف ذلك ، ولا يصرف إليه . فعلى ذلك لا جائز أن يصرف قوله : { وجاء ربك } [ الفجر : 22 ] و { ثم استوى على العرش } [ الأعراف : 54 و . . . ] ونحوه إلى المعروف من استواء الخلق ومجيئهم لتعاليه عن ذلك . وقال : والمجيء لا يكون بالانتقال{[3668]} خاصة ، بل يكون مرة ذاك وأخرى غيره ، وكذلك الإتيان ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { بغيا بينهم } قيل : حسدا بينهم ، لأنهم طمعوا أن يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم من بني إسرائيل على ما بعث سائر الرسل بعد إسرائيل منهم ، فلما بعث من غير إسرائيل حسدوه ، وخالفوا{[3669]} دينه الإسلام ، ويحتمل { بغيا } من البغي ، وهو الجور .
وقوله تعالى : { ومن يكفر بآيات الله } أي من المختلفين { فإن الله سريع الحساب } كأنه على الإضمار : أن قل يا محمد { ومن يكفر بآيات الله } من بعد ما جاءهم العلم والبيان { فإن الله سريع الحساب } ، وله ثلاثة أوجه : لأن ظاهر الجواب على غير إضمار أن يكون { ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب } أي العذاب ، والله أعلم ، سمي به لأن بعد الحساب عذابا{[3670]} لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نوقش العذاب عذب } [ مسلم 2876 ] ، فجعل الحساب عذابا . ثم أخبر جل وعلا أنه { سريع الحساب } لا كالحساب{[3671]} الذي بين الخلق يشغلهم أسباب ، ويمنعهم أشياء ، ويحتاجون إلى التفكير والتدبر ، والله تعالى عن أن يشغله شيء ، ويمنعه معنى ، جل الله عن ذلك .
وقيل غير التقريب : حسابه سريع كأن قد جاء لقربه ، والله أعلم .
[ وقوله تعالى ]{[3672]} : { شهد الله أنه لا إله إلا هو } شهادة ربوبية لا يتوهم له كيفية ، ولا يخطر على البال له الماهية ، ولا يحتمل الوصول إلى حقيقة ذلك بالتفكير ، ولا يحتمل بلوغ العقل الوقوف على ذلك ، إذ هو خلق قصر عن الإحاطة بماهية نفسه وعن إدراك وجه قيامه بالذي ركب ، أو تحديد{[3673]} من حيث نفسه ، وهو تحت جميع ما ذكرت ، إذ هو خلق جرى عليه التدبير ، ودخل /56-أ/ تحت التقدير .
فالربوبية أحق أن تتحير فيها الأوهام ، وتكل عن توهم إدراكها الأفهام . وعلى ذلك أمر تكوين الله الأشياء على ما شهدت الأشياء التي هي تحت التكوين في العبادة ، لا على توهم في التكوين معنى تحتمله الأفهام ، أو تبلغه العقول ، وإنما هو عبارة بها جعل لا يقف على العبارات عن المتعالي عن صفات الخلق المحقق له الجلال عن جهاتهم إلا من حيث المفهوم في الخلق للتقريب إلى الأفهام دون تحقيق المفهوم مما عن العبارة عنه قدرة العبارات في الإخبار عن الله جل وعلا .
وعلى هذا القول : الله وجميع ما يتعارف الخلق من الأسماء على ما يقرب من الأفهام المراد بها لا تحقيق الحروف أو إدخال تحت تركيب الكلام وتأليف العبارة . وهذا معنى معرفة وحدانيته من جهة ضرورات توجب المعرفة على الوصف بالسبحانية له عن معاني جميع المعروفين ، [ وبالله العصمة ]{[3674]} والمعرفة .
ثم قد يحتمل أن يؤذن في العبارة عن ذلك بما هو العطف ، وأدفع للتوهم ، توهم ما لعل للقلب عن ذكر الشهادة فضل حيرة ، ليس عند تلك العبارة ، وذلك يخرج على وجوه الاحتمال لما تسعه عقولنا دون القطع على شيء مما وقع عندنا ، يمكن الرجوع إليه ، والله ، سبحانه ، أعلم :
أحدهما{[3675]} : شهادة الخلائق كلهم ما فيها من آثار الصنعة ودلالة الربوبية وشهادة الألوهية ، لتكون شهادة بالذي ذكر بأن { لا إله إلا هو } إذ في كل شيء سواه هذه الشهادة بالصنعة التي جعلها هو فيه له ، والله أعلم .
والثاني : أن يكون بذاته متعال عن جميع معاني من سواه من المعاني التي أدخلها اسم مربوب ، وظهر كل شيء في الحقيق له عند توهم المعبود ، ولا يستحق غيره غير آثار الحدثية والجهات{[3676]} المدخلة تحت القدرة والتدبير ، وهو بذاته متعال عن كلية الجهات والمعاني التي كانت{[3677]} بعد أن لم تكن ، وبها صارت مربوبة عبدا ، وهو المتعال أيضا عن الوصف بالجهات والمعاني ، بل هو خالق للخلق ، ولا قوة إلا بالله .
والثالث : يحتمل شهد علم ، كذا من شهد الشيء فقد علم ، مخبر خليقته بأنه العالم ، وأنه واحد لا شريك له ، إله الكل وخالقهم ليعلموا أنما أعمالهم كما أخبروا ذلك في نقض قول كثير ممن ينفقون عن الله تعالى أنه عالم وشاهد كل شيء ، والله الموفق .
[ والرابع : ]{[3678]} يحتمل شهد على الخلائق أن يكون عليهم القول والاعتقاد أنه لا إله غيره بمعنى قضى ، وأمر ، والله الموفق .
وليس في ما جمعه الله بشهادة من ذكر توهم معنى لشهادة من ذكر مع ما قد يحتمل لما جمع لشهادته شهادة من ذكر وجهان :
أحدهما : فضل من ذكر شهادته عند ذكر شهادتهم على نحو قوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه } الآية [ الأنفال : 41 ] إنه ذكر ما له ، وإن كان له الخلق كله بوجهين :
أحدهما : بما جعل ذلك لوجوه العبادة كما أضاف إليه المساجد{[3679]} على أنها وغيرها له ، وذكر في الملائكة الذين عنده في أمر القيامة :
{ وإليه المصير } [ المائدة : 18 و . . ] ونحو ذلك إما مخصوص لما ذكر من الأوقات في فضل أو غير ما جعل له ، أو لما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنسب إليه ، وإما كان لكلية المعاني لعبادة . فمثله أمر شهادات من ذكر ، جرتها شهادة{[3680]} الله تفضيلا لأولئك وتخصيصا من بين الخلائق ، والله أعلم .
والثاني : على كون الشهادة من الإخبار بحق الأمر ، نسبة إليه كما نسب إليه كتابة الألواح{[3681]} ونفخ جبريل الروح{[3682]} بما كان منه أمر به ، فكذا فعله في الإضافة إليه ، والله أعلم .
ثم حق ذلك في ما على التحقيق أن يفهم ما عن ربوبية وعن العبد عبودية على جميع ما يضاف إلى الله أنه يفهم من غير الوجه الذي يضاف إلى الخلق ، فمثله أمر الشهادة ، والله أعلم .
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : { شهد الله } إلى قوله : { إن الدين عند الله الإسلام } على معنى جعل أنه صلة في الكلام . وحقيقته { شهد الله } الذي { لا إله إلا هو والملائكة } ومن ذكر { إن الدين عند الله الإسلام } ؛ في الحقيقة جعل ملكية الأشياء لله تعالى بأنه ربها وخالقها على ما هي عليها ، جل عن الشركاء .
وقد قيل : الإسلام خضوع ، وقيل : الإخلاص ، وهو يرجع إلى ما بينا ، وذلك قوله : { ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل } [ الزمر : 29 ] . والإيمان هو التصديق لله تعالى بما أخبر أنه رب كل شيء ، وأنه له الخلق والأمر ، وقيل : هو التصديق بما جاءت به الرسل ، وذلك يرجع إلى ما بينا أيضا ، والله أعلم .
وقوله : { قائما بالقسط } قيل : هو عادل ، لا يجوز ، لا إن للقيام معنى في ذلك كقوله : { كونوا قوامين بالقسط } [ النساء : 135 ] بمعنى كونوا عادلين مقسطين ، والله أعلم . وقيل : قيام قول وحفظ وكفاية وتدبير ، فلا{[3683]} يقال : فلان قائم بأمر كذا إلا [ على ]{[3684]} توهم انتصاب . وعلى ذلك قوله : { أفمن هو قائم على كل شيء بما كسبت } [ الرعد : 33 ] .