قوله تعالى : { حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة } ، قرأ أبو جعفر ، و أبو عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر : { حامية } بالألف غير مهموزة أي : حارة ، وقرأ الآخرون : { حمئة } مهموزاً بغير الألف ، أي : ذات حمأة ، وهي الطينة السوداء . وسأل معاوية كعباً : كيف تجد في التوراة أن تغرب الشمس ؟ قال : نجد في التوراة أنها تغرب في ماء وطين . قال القتيبي : يجوز أن يكون معنى قوله في عين حمئة أي : عندها عين حمئة ، أو في رأي العين . { ووجد عندها قوماً } أي : عند العين أمة ، قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجب . { قلنا يا ذا القرنين } ، يستدل بهذا من زعم أنه كان نبياً ، فإن الله تعالى خاطبه ، والأصح : أنه لم يكن نبياً ، والمراد منه : الإلهام . { إما أن تعذب } يعني : إما أن تقتلهم إن لم يدخلوا في الإسلام ، { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } يعني : تعفو وتصفح وقيل : تأسرهم فتعلمهم الهدى . خيره الله بين الأمرين .
فأعطاه الله ، ما بلغ به مغرب الشمس ، حتى رأى الشمس في مرأى العين ، كأنها تغرب في عين حمئة ، أي : سوداء ، وهذا هو المعتاد لمن كان بينه وبين أفق الشمس الغربي ماء ، رآها تغرب في نفس الماء وإن كانت في غاية الارتفاع ، ووجد عندها ، أي : عند مغربها قوما . { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ْ } أي : إما أن تعذبهم بقتل ، أو ضرب ، أو أسر ونحوه ، وإما أن تحسن إليهم ، فخير بين الأمرين ، لأن الظاهر أنهم كفار أو فساق ، أو فيهم شيء من ذلك ، لأنهم لو كانوا مؤمنين غير فساق ، لم يرخص في تعذيبهم ، فكان عند ذي القرنين من السياسة الشرعية ما استحق به المدح والثناء ، لتوفيق الله له لذلك ، فقال : سأجعلهم قسمين .
وقوله : { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } أي : فسلك طريقًا حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب ، وهو مغرب الأرض . وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدّة والشمس تغرب من ورائه فشيء لا حقيقة له . وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب ، واختلاق{[18438]} زنادقتهم وكذبهم{[18439]}
وقوله : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي : رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط ، وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه ، وهي لا تفارق الفلك الرابع الذي هي مثبتة فيه لا تفارقه{[18440]} .
والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين{[18441]} من " الحمأة " وهو الطين ، كما قال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] أي : طين أملس{[18442]} . وقد تقدم بيانه .
وقال ابن جرير : حدثني يونس ، أخبرنا ابن وهب{[18443]} حدثنى نافع بن أبي نعيم ، سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول{[18444]} { فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ثم فسرها : ذات حمأة . قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء{[18445]} .
وكذا روى غير واحد عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وغير واحد .
وقال أبو داود الطيالسي : حدثنا محمد بن دينار ، عن سعد{[18446]} بن أوس ، عن مِصْدَع ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه { حَمِئَةٍ }{[18447]}
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " وجدها تغرب في عين حامية " يعني : حارة . وكذا قال الحسن البصري .
وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب{[18448]} .
قلت : ولا منافاة بين معنييهما ، إذ قد تكون حارة لمجاورتها وَهْج الشمس عند غروبها ، وملاقاتها الشعاع بلا حائل و{ حَمِئَةٍ } في ماء وطين أسود ، كما قال كعب الأحبار وغيره .
وقال ابن جرير : حدثنا محمد بن المثنى ، حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا{[18449]} العوام ، حدثني مولى لعبد الله بن عمرو ، عن عبد الله قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت ، فقال : " في نار الله الحامية [ في نار الله الحامية ]{[18450]} ، لولا ما يزعها من أمر الله ، لأحرقت ما على الأرض " .
قلت : ورواه الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون{[18451]} . وفي صحة رفع هذا الحديث نظر ، ولعله من كلام عبد الله بن عمرو ، من زاملتيه اللتين وجدهما يوم اليرموك ، والله أعلم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا حجاج بن حمزة ، حدثنا محمد - يعني ابن بشر - حدثنا عمرو بن ميمون ، أنبأنا ابن حاضر ، أن ابن عباس ذكر له أن معاوية بن أبي سفيان قرأ الآية التي في سورة الكهف " تغرب في عين حامية " قال ابن عباس لمعاوية ما نقرؤها{[18452]} إلا { حَمِئَةٍ } فسأل معاوية عبد الله بن عمرو كيف تقرؤها : فقال عبد الله : كما قرأتها . قال ابن عباس : فقلت لمعاوية : في بيتي نزل القرآن ؟ فأرسل إلى كعب فقال له : أين تجد الشمس تغرب في التوراة ؟ [ فقال له كعب : سل أهل العربية ، فإنهم أعلم بها ، وأما أنا فإني أجد الشمس تغرب في التوراة ]{[18453]} في ماء وطين . وأشار بيده إلى المغرب . قال ابن حاضر : لو أني عندكما أفدتك{[18454]} بكلام تزداد فيه بصيرة في حمئة . قال ابن عباس : وإذًا ما هو ؟ قلت : فيما يؤثر من قول تُبَّع ، فيما ذكر به ذا القرنين في تخلقه بالعلم واتباعه إياه :
بَلَغَ المشَارقَ والمغَارِبَ يَبْتَغِي *** أسْبَابَ أمْرٍ مِنْ{[18455]} حَكِيمٍ مُرْشِد
فَرَأى مَغِيبَ{[18456]} الشَّمْسِ عِنْدَ غُرُوبها *** فِي عَيْنِ ذِي خُلب وَثأط{[18457]} حَرْمَدِ{[18458]} {[18459]}
قال{[18460]} ابن عباس : ما الخُلَب ؟ قلت : الطين بكلامهم . [ يعنى بكلام حمير ]{[18461]} . قال : ما الثاط ؟
قلت : الحمأة . قال : فما الحرْمَد ؟ قلت : الأسود . قال : فدعا ابن عباس رجلا أو غلامًا فقال : اكتب ما يقول هذا الرجل .
وقال سعيد بن جبير : بينا ابن عباس يقرأ سورة الكهف فقرأ : { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } فقال كعب : والذي نفس كعب بيده ما سمعت أحدًا يقرؤها كما أنزلت في التوراة غير ابن عباس ، فإنا نجدها في التوراة : تغرب في مدرة سوداء .
وقال أبو يعلى الموصلي : حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا هشام بن يوسف قال : في تفسير ابن جريج { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } قال : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا أصوات أهلها لسمع الناس وُجُوب الشمس حين تجب .
وقوله : { وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا } أي : أمة من الأمم ، ذكروا أنها كانت أمة عظيمة من بني آدم .
وقوله : { قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا } معنى هذا : أن الله تعالى مكنه منهم{[18462]} وحكمه فيهم ، وأظفره بهم{[18463]} وخيره : إن شاء قتل وسبى ، وإن شاء منّ أو فدى{[18464]} . فعرف عدله وإيمانه فيما أبداه عدله وبيانه{[18465]}
القول في تأويل قوله تعالى : { حَتّىَ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَذَا الْقَرْنَيْنِ إِمّآ أَن تُعَذّبَ وَإِمّآ أَن تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } .
يقول تعالى ذكره : حتى إذَا بَلَغَ ذو القرنين مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ، فاختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة : في عَيْنٍ حَمِئَةٍ بمعنى : أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة ، وقرأته جماعة من قراء المدينة ، وعامّة قرّاء الكوفة : «في عَيْنٍ حَامِيَةٍ » يعني أنها تغرب في عين ماء حارّة .
واختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته . ذكر من قال ذلك : تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ :
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال : في طين أسود .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، أنه كان يقرأ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال : ذات حمأة .
حدثنا الحسين بن الجنيد ، قال : حدثنا سعيد بن مسلمة ، قال : حدثنا إسماعيل بن عُلَية ، عن عثمان بن حاضر ، قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : قرأ معاوية هذه الاَية ، فقال : «عَيْن حامِيَة » فقال ابن عباس : إنها عين حمئة ، قال : فجعلا كعبا بينهما ، قال : فأرسلا إلى كعب الأحبار ، فسألاه ، فقال كعب : أما الشمس فإنها تغيب في ثأط ، فكانت على ما قال ابن عباس ، والثأط : الطين .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : ثني نافع بن أبي نعيم ، قال : سمعت عبد الرحمن الأعرج يقول : كان ابن عباس يقول فِي عَيْنِ حَمِئَة ثم فسرها : ذات حمأة ، قال نافع : وسئل عنها كعب ، فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ، ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طينة سوداء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال : هي الحمأة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد فِي عَيْنِ حَمِئَة قال : ثأط .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد في قول الله عزّ ذكره تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ قال : ثأطة .
قال : وأخبرني عمرو بن دينار ، عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، قال : قرأت فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وقرأ عمرو بن العاص فِي عَيْنٍ حامِيَةٍ فأرسلنا إلى كعب ، فقال : إنها تغرب في حمأة طينة سوداء .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ والحمئة : الحمأة السوداء .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن ورقاء ، قال : سمعت سعيد بن جبير ، قال : كان ابن عباس يقرأ هذا الحرف في عَيْنٍ حَمِئَةٍ ويقول : حمأة سوداء تغرب فيها الشمس .
وقال آخرون : بل هي تغيب في عين حارّة . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس «وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَامِيَةٍ » يقول : في عين حارّة .
حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : سمعت الحسن يقول : «فِي عَيْنٍ حَامِيَةٍ » قال : حارّة .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن ، في قوله : «فِي عَيْنٍ حَامِيَةً » قال : حارّة ، وكذلك قرأها الحسن .
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال : إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار ، ولكلّ واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم ، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه ، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارّة ذات حمأة وطين ، فيكون القارىء في عين حامية بصفتها التي هي لها ، وهي الحرارة ، ويكون القارىء في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين . وقد رُوي بكلا صيغتيها اللتين قلت إنهما من صفتيها أخبار .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، قال : أخبرنا العوّام ، قال : ثني مولى لعبد الله بن عمرو ، عن عبد الله ، قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الشمس حين غابت ، فقال : «فِي نارِ اللّهِ الحامِيَةِ ، فِي نارِ اللّهِ الحامِيَةِ ، لَوْلا ما يَزَعُها مِنْ أمْرِ اللّهِ لأَحْرَقَتْ ما عَلى الأرْض » .
حدثني الفضل بن داود الواسطي ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا محمد بن دينار ، عن سعد بن أوس ، عن مصدع ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أقرأه : حَمِئَةٍ .
وقوله : وَوَجَدَ عَنْدَها قَوْما ذكر أن أولئك القوم يقال لهم : ناسك . وقوله : قُلْنا يا ذَا القَرْنَيْنِ إمّا أنْ تُعَذّبَ يقول : إما أن تقتلهم إن هم لم يدخلوا في الإقرار بتوحيد الله ، ويذعنوا لك بما تدعوهم إليه من طاعة ربهم وإمّا أنْ تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا يقول : وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد .
{ حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمِئةٍ } ذات حمأ من حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة . وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر " حامية " أي حارة ، ولا تنافي بينهما لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين أو " حمية " على أن ياءها مقلوبة عن الهمزة لكسر ما قبلها . ولعله بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء ولذلك قال { وجدها تغرب } ولم يقل كانت تغرب . وقيل إن ابن عباس سمع معاوية يقرأ " حامية " فقال " حمئة " فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب قال في ماء وطين كذلك نجده في التوراة { ووجد عندها } عند تلك العين . { قوماً } قيل كان لباسهم جلود الوحش وطعامهم ما لفظه البحر ، وكانوا كفارا فخيره الله بين أن يعذبهم أو يدعوهم إلى الإيمان كما حكى بقوله : { قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذّب } أي بالقتل على كفرهم . { وإما أن تتّخذ فيهم حُسنا } بالإرشاد وتعليم الشرائع . وقيل خيره الله بين القتل والأسر وسماه إحسانا في مقابلة القتل ويؤيده الأول .
القول في تركيب { حتى إذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ } كالقول في قوله : { حتى إذا ركبا في السفينة خرقها } .
وقرأ نافع ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وحفص { في عيننٍ حمئة مهموزاً مشتقاً من الحمأة ، وهو الطين الأسود . والمعنى : عين مختلط ماؤها بالحمأة فهو غير صاف .
وقرأ ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو بكر عن عاصم ، وأبو جعفر ، وخلف : في عين حامية بألف بعد الحاء وياء بعد الميم ، أي حارة من الحمو وهو الحرارة ، أي أن ماءها سخن .
ويظهر أن هذه العين من عيون النفْط الواقعة على ساحل بحر الخزر حيث مدينة ( باكو ) ، وفيها منابع النفط الآن ولم يكن معروفاً يومئذ . والمؤرخون المسلمون يسمونها البلاد المنتنة .
وتنكير { قَوْماً } يؤذن بأنهم أمّة غير معروفة ولا مألوفة حالة عقائدهم وسيرتهم .
فجملة { قُلْنا ياذا القَرْنَيْنِ } استئناف بياني لما أشعر به تنكير { قَوْماً } من إثارة سؤال عن حالهم وعما لاقاه بهم ذو القرنين .
وقد دل قوله : { إمَّا أن تُعَذّبَ وإمَّا أن تَتَّخِذَ فِيهمْ حُسْناً } على أنهم مستحقون للعذاب ، فدلّ على أن أحوالهم كانت في فساد من كفر وفساد عمل .
وإسناد القول إلى ضمير الجلالة يحتمل أنه قول إلهام ، أي ألقينا في نفسه تردداً بين أن يبادر استيصالهم وأن يمهلهم ويدعوهم إلى الإيمان وحسن العمل ، ويكون قوله { قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ } ، أي قال في نفسه معتمداً على حالة وسط بين صورتي التردد .
وقيل : إن ذا القرنين كان نبيئاً يوحى عليه فيكون القول كلاماً موحىً به إليه يخيّره فيه بين الأمرين ، مثل التخيير الذي في قوله تعالى : { فإما منا بعد وإما فداء } [ محمد : 4 ] ، ويكون قوله : { قَالَ أمَّا مَن ظَلَمَ } جواباً منه إلى ربّه . وقد أراد الله إظهار سداد اجتهاده كقوله : { ففهمناها سليمان } [ الأنبياء : 79 ] .
و { حُسْناً } مصدر . وعدل عن ( أن تحسن إليهم ) إلى { أن تَتَّخِذَ فِيهِم حُسناً } مبالغة في الإحسان إليهم حتى جعل كأنه اتّخذ فيهم نفس الحُسن ، مثل قوله تعالى : { وقولوا للناس حسناً } [ البقرة : 83 ] . وفي هذه المبالغة تلقين لاختيار أحد الأمرين المخير بينهما .
والظلم : الشرك ، بقرينة قسيمه في قوله { وأما من آمن وعمل صالحاً } .
واجتلاب حرف الاستقبال في قوله : { فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ } يشير إلى أنه سيدعوه إلى الإيمان فإن أصرّ على الكفر يعذبه . وقد صرح بهذا المفهوم في قوله { وأمَّا مَن ءَامَنَ وعَمِلَ صالحا } أي آمن بعد كفره . ولا يجوز أن يكون المراد من هو مؤمن الآن ، لأن التخيير بين تعذيبهم واتخاذ الإمهال معهم يمنع أن يكون فيهم مؤمنون حين التخيير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: حتى إذَا بَلَغَ ذو القرنين "مَغْرِبَ الشّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ"، فاختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأه بعض قرّاء المدينة والبصرة: في عَيْنٍ حَمِئَةٍ بمعنى: أنها تغرب في عين ماء ذات حمأة، وقرأته جماعة من قراء المدينة، وعامّة قرّاء الكوفة: «في عَيْنٍ حَامِيَةٍ» يعني أنها تغرب في عين ماء حارّة.
واختلف أهل التأويل في تأويلهم ذلك على نحو اختلاف القرّاء في قراءته... عن ابن عباس "وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ "قال: في طين أسود...
وقال آخرون: بل هي تغيب في عين حارّة...
والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، ولكلّ واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب في عين حارّة ذات حمأة وطين، فيكون القارئ في عين حامية بصفتها التي هي لها، وهي الحرارة، ويكون القارئ في عين حمئة واصفها بصفتها التي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا صيغتيها اللتين قلت إنهما من صفتيها أخبار...
وقوله: "وَوَجَدَ عَنْدَها قَوْما"... وقوله: "قُلْنا يا ذَا القَرْنَيْنِ إمّا أنْ تُعَذّبَ" يقول: إما أن تقتلهم إن هم لم يدخلوا في الإقرار بتوحيد الله، ويذعنوا لك بما تدعوهم إليه من طاعة ربهم. "وإمّا أنْ تَتّخِذَ فِيهِمْ حُسْنا" يقول: وإما أن تأسرهم فتعلمهم الهدى وتبصرهم الرشاد.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ}... فيها وجهان:
الثاني: أنه وجدها تَغرُب وراء العينِ حتى كأنها تَغيب في نفس الْعَيْن...
اعلم أن المعنى أنه أراد بلوغ المغرب فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه.
{وجدها تغرب في عين حمئة} ففيه مباحث:
البحث الثاني: أنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال: {ووجد عندها قوما} ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض، إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله: {تغرب في عين حمئة} من وجوه:
الأول: أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين وهدة مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر، هذا هو التأويل الذي ذكره أبو علي الجبائي في تفسيره.
الثاني: أن للجانب الغربي من الأرض مساكن يحيط البحر بها فالناظر إلى الشمس يتخيل كأنها تغيب في تلك البحار...
الثالث: قال أهل الأخبار: إن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفا قمريا فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أول الليل ورأينا المشرقيين قالوا: حصل في أول النهار فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث. ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار. وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاما على خلاف اليقين وكلام الله تعالى مبرأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلا أن يصار إلى التأويل الذي ذكرناه.
{ووجد عندها قوما} الضمير في قوله عندها إلى ماذا يعود؟ فيه قولان:
الأول: أنه عائد إلى الشمس ويكون التأنيث للشمس لأن الإنسان لما تخيل أن الشمس تغرب هناك كان سكان هذا الموضع كأنهم سكنوا بالقرب من الشمس.
والقول الثاني: أن يكون الضمير عائدا إلى العين الحامية، وعلى هذا القول فالتأويل ما ذكرناه،
{قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} وفيه مباحث:
الأول: أن قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} يدل على أنه تعالى تكلم معه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبيا، وحمل هذا اللفظ على أن المراد أنه خاطبه على ألسنة بعض الأنبياء فهو عدول عن الظاهر.
البحث الثالث: قوله تعالى: {قلنا يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا} يدل على أن سكان آخر المغرب كانوا كفارا فخير الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب لهم إن أقاموا على كفرهم وبين المن عليهم والعفو عنهم وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين كما خير نبيه عليه السلام بين المن على المشركين وبين قتلهم، وقال الأكثرون: هذا التعذيب هو القتل، وأما اتخاذ الحسنى فيهم فهو تركهم أحياء.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
رأى الشمسَ في مَنظَرِه تَغرُب في البحر المُحيط، وهذا شأنُ كلِّ مَن انتهى إلى ساحله، يراها كأنها تَغرُب فيه...
{قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} معنى هذا: أن الله تعالى مَكَّنَه منهم وحَكَّمَه فيهم، وأَظْفَرَه بهم وخَيّرَه: إنْ شاء َقَتَل وسَبَى، وإنْ شاء مَنَّ أو فَدَى. فعرف عدْله وإيمانه فيما أبداه عدْلُه وبيانُه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
... {و وَجَدَ عِنْدَها} أي على السّاحل المتّصِل بتلك العَيْنِ {قوماً} كفاراً لهم قوةٌ على ما يحاولونه ومَنَعَةٌ، فكأنه قيل: ماذا أُمِرَ فيهم؟ فأجيب بقوله: {قلنا} بمَظْهَر العظمة: {يا ذا القرنين} إعلاماً بقُرْبِه من الله وأنه لا يفعل إلا ما أَمَره به، إما بواسطة المَلَك إن كان نبياً وهو أظهر الاحتمالات،... أو باجتهاده في شريعته الاجتهادَ المُصيبَ، {إمّا أنْ تُعَذِّبَ}... {وإمّا أنْ تَتَّخِذَ} أي بغاية جُهْدِك {فيهم حُسْناً} أمراً له حُسْنٌ عظيمٌ، وذلك هو البَداءة بالدُّعاء، إشارةً إلى أن القتل وإن كان جائزاً فالأَوْلَى أن لا يُفعَل إلا بعد اليأس من الرجوع عن موجِبه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
والظاهر من النص أن ذا القرنين غرب حتى وصل إلى نقطة على شاطئ المحيط الأطلسي -وكان يسمى بحر الظلمات ويظن أن اليابسة تنتهي عنده- فرأى الشمس تغرب فيه...
ولكن يتعذر علينا تحديد المكان، لأن النص لا يحدده. وليس لنا مصدر آخر موثوق به نعتمد عليه في تحديده. وكل قول غير هذا ليس مأمونا لأنه لا يستند إلى مصدر صحيح...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
اِتَّجَه في سَيْره إلى غرب بلاده أوّلاً، لأنها الأقاليم التي تُصاقِبُه، وإن الحاكِم العادلَ يُؤَمِّن أرضَه من جيرانه أوّلاً، ثم يتّجِه إلى ما بعدها شيئا فشيئا حتى يصل إلى أقصاها، وكذلك فَعَلَ، ولذا قال تعالى عنه: {حتى إذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ}...
وما المراد من هذه العين؟ المراد منها الماءُ، ولكن أهو ماءُ المحيطِ، أم البحرِ، أم هو ماء نهرٍ؟ الظاهِر لدي أنه ماءُ النهر، لا ماءُ محيطٍ، لأنه ذَكَر أنه عين، وماء العيون في أكثر أحواله ليس ماء ملحا، وإن كان فهو معدني إلى العذوبة أمْيَل، ولأنه ذكر أنها عينٌ حَمِئَةٌ، أي التي اختَلط ماؤها بطين، وتلك تكون في الأنهار لا في البحار. ومهما يكن فقد كان اتجاهُه ونهايتُه إلى الغرب من آسيا وأصْقابِها كبلاد البلغار، ونحوها...
{وإمّا أنْ تَتَّخِذَ فيهم حُسْناً}... والحسن هو ضد القبيح، واتخاذ الحسن معناه اتخاذ ما ليس بقبيحٍ في ذاته ولا يَستنكِرُه عُرْفٌ ولا عقلٌ، وهذا هو معنى الإحسان وهو الإتقان وفَضْلُ العدلِ وزيادتُه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً} استطاع أن يسيطر عليهم بالقوة القاهرة التي كان يملكها، وأن يحكمها بالمنهج الذي يراه أساساً للحكم، ولكنه ليس المنهج الذي يتخذ السلطة وسيلةً للقهر أو لأخْذ المُحسِن بذنب المسيء، أو للعمل على خنق حريتهم ومُصادَرة إنسانيّتهم، كما يفعل الأقوياء. وهكذا واجه الخِيار الذي يقف أمامه في موقع الاختيار بين العذاب الذي يَسومُهم به، وبين العفو والتسامح والرحمة التي يعاملهم بها. وهذا هو ما يستوحيه من التعاليم الإلهية المُنزلة على الرسل الذين عاصَرهم، أو تَقدَّموا عليه، وذلك كما لو كان يستمع إلى كلام الله بشكلٍ مباشرٍ، لأن الإنسان الواعي المنفتح على الرسالة يواجِه كلام الله الذي يقرأه أو يسمعه، كما لو كان يَستمع إليه من ربه...