البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا} (86)

وقرأ عبد الله وطلحة بن عبيد الله وعمرو بن العاصي وابن عمر وعبد الله بن عمرو ومعاوية والحسن وزيد بن عليّ وابن عامر وحمزة والكسائي حامية بالياء أي حارة .

وقرأ ابن عباس وباقي السبعة وشيبة وحميد وابن أبي ليلى ويعقوب وأبو حاتم وابن جبير الأنطاكي { حمئة } بهمزة مفتوحة والزهري يلينها ، يقال حمئت البئر تحمأ حمأً فهي حمئة ، وحمأتها نزعت حمأتها وأحمأتها أبقيت فيها الحمأة ، ولا تنافي بين الحامية والحمئة إذ تكون العين جامعة للوصفين .

وقال أبو حاتم : وقد تمكن أن تكون حامية مهموزة بمعنى ذات حمأة فتكون القراءتان بمعنى واحد يعني إنه سهلت الهمزة بإبدالها ياء لكسرة ما قبلها ، وفي التوراة تغرب في ماء وطين .

وقال تبع :

فرأى مغيب الشمس عند مآبها*** في عين ذي خلب وثاط حرمد

أي في عين ماء ذي طين وحم أسود .

وفي حديث أبي ذر " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال : «أتدري أين تغرب يا أبا ذر ؟ » فقلت : لا .

فقال : «إنها تغرب في عين حامية » " وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله { في عين } متعلق بقوله { تغرب } لا ما قاله بعض المتعسفين أن قوله في { عين حمئة } إنما المراد أن ذا القرنين كان فيها أي هي آخر الأرض ، ومعنى { تغرب في عين } أي فيما ترى العين لا أن ذلك حقيقة كما نشاهدها في الأرض الملساء كأنها تدخل في الأرض ، ويجوز أن تكون هذه العين من البحر ، ويجوز أن تكون الشمس تغيب وراءها ، وزعم بعض البغداديين أن { في } بمعنى عند أي { تغرب } عند عين .

{ ووجد عندها قوماً } أي عند تلك العين .

قال ابن السائب : مؤمنين وكافرين .

وقال غيره : كفرة لباسهم جلود السباع وطعامهم ما أحرقته الشمس من الدواب ، وما لفظته العين من الحوت إذا غربت .

وقال وهب : انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعاً لا يحصيهم إلاّ الله ، فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد ، ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله ، فمنهم من آمن ومنهم من صدّ عنه .

وقال أبو زيد السهيلي : هم أهل حابوس ويقال لها بالسريانية جرجيساً يسكنها قوم من نسل ثمود .

بقيتهم الذين آمنوا بصالح عليه السلام .

وظاهر قوله { قلنا } أنه أوحى الله إليه على لسان ملك .

وقيل : كلمه كفاحاً من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام ، وعلى هذين القولين يكون نبياً ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلاّ بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلاّ بالإعلام .

وقال عليّ بن عيسى : المعنى { قلنا } يا محمد قالوا { يا ذا القرنين } ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله ، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه .

وقوله { إما أن تعذب } بالقتل على الكفر { وإما أن تتخذ فيهم حسناً } أي بالحمل على الإيمان والهدى ، إما أن تكفر فتعذب ، وإما أن تؤمن فتحسن فعبر في التخيير بالمسبب عن السبب .

قال الطبري : اتخاذ الحسن هو أسرهم مع كفرهم يعني أنه خير مع كفرهم بين قتلهم وبين أسرهم ،