اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{حَتَّىٰٓ إِذَا بَلَغَ مَغۡرِبَ ٱلشَّمۡسِ وَجَدَهَا تَغۡرُبُ فِي عَيۡنٍ حَمِئَةٖ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوۡمٗاۖ قُلۡنَا يَٰذَا ٱلۡقَرۡنَيۡنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمۡ حُسۡنٗا} (86)

عن أبي ذرٍّ قال : كنت رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم على جملٍ ، فرأى الشمس حين غابت ، فقال : أتدري يا أبا ذرٍّ ، أتدري أين تغربُ هذه ؟ قلت : الله ورسوله أعلم قال : " فإنَّها تغربُ في عينٍ حاميةٍ " وهي قراءة ابن مسعود ، وطلحة ، وابن عمر ، واختارها أبو عبيدة ، قال : لأنَّ عليها جماعة من الصحابة .

وأما القراءة الثانية ، فهي من الحمأةِ ، وهي الطِّين ، وهي قراءة ابن عبَّاس .

فصل

ثبت بالدَّليل أنَّ الأرض كرة ، وأنَّ السماء محيطة ، وأنَّ الشمس في الفلك الرابع ، وكيف يعقل دخولها في عينٍ ؟ وأيضاً قال : " وجد عِنْدهَا قوماً " ومعلومٌ أن جلوس القوم قرب الشَّمسِ غير موجودٍ ، وأيضاً فالشمس أكبر من الأرض بمراتٍ كثيرةٍ ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض ؟ وإذا ثبت هذا فنقول : تأويل قوله تعالى : { تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } من وجوه :

الأول : أنَّ ذا القرنين لما بلغ موضعاً من المغرب ، لم يبق بعدهُ شيءٌ من العماراتِ ، وجد الشَّمس كأنَّها تغربُ في عينٍ مظلمةٍ ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة كما أنَّ راكب البحر يرى الشمس كأنَّها تغيبُ في البحر إذا لم يرَ الشطَّ ، وهي في الحقيقة تغيبُ وراء البحر ، ذكر هذا التأويل الجبائيُّ في تفسيره .

الثاني : أنَّ للجانب الغربيّ من الأرض مساكنَ يحيطُ البحر بها ، فالناظرُ إلى الشَّمْسِ يتخيلُ كأنَّها تغيب في تلك البحار ، ولا شكَّ أنَّ البحار الغربية قويةٌ السخونة ، فهي حاميةٌ ، وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الماء ومن الحمأةِ السَّوداءِ ، فقوله : { تَغْربُ في عينٍ حمئةٍ } إشارةٌ إلى أن الجانب الغربي من الأرض قد أحاط البحر به ، وهو موضعٌ شديدُ السخونة ، قال أهل الأخبار : إنَّ الشمس تغيب في عينٍ كثيرة الماءِ والحمأةِ ، وهذا في غاية البعد ؛ وذلك لأنَّا إذا رصدنا كسوفاً قمريًّا ، فإذا اعتبرناه ، ورأينا أنَّ المغربيين قالوا : حصل هذا الكسوف في أوَّل الليل ، ورأينا المشرقيين ، قالوا : حصل في أوَّل النَّهار علمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق ، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا هو وقت العصر في بلد ، ووقت الظُّهر في بلدٍ آخر ، ووقت الضَّحوة في بلد ثالثٍ ، ووقت طلوع الشمس في بلدٍ رابع ، ونصف الليل في بلد خامسٍ ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بالاستقراء والأخبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال : إنَّها تغيبُ في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين ؛ وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة ، فلم يبق إلاَّ أن يصار إلى التَّأويل المذكور

ثم قال : " ووجد عندها قوماً " أي : عند العين أمة ، وقيل : الضمير [ عائد ] إلى الشمس .

قال ابن جريج : مدينة لها اثنا عشر ألف باب ، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجبُ .

قوله : { قُلْنَا ياذا القرنين } يدل على أنه تعالى كلمه من غير واسطة ، وذلك يدل على أنه كان نبيًّا ، فإن قيل : خوطب على ألسنة بعض الأنبياء ، فهو عدولٌ عن الظاهر .

وقال بعضهم : المراد منه الإلهام .

قوله : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ } .

يجوز فيه الرفع على الابتداء ، والخبر محذوف ، أي : إمَّا تعذيبك واقعٌ ، والرفع على خبر مضمرٍ ، أي : هو تعذيبك ، والنصب أي : إمَّا أن تفعل أن تعذِّب .

وهذا يدلُّ على أنَّ سكَّان آخر المغرب ، كانوا كفاراً ، فخيَّر الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب ، إن أقاموا على الكفر ، وبين المنِّ عليهم ، والعفو عنهم ، وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح الأمرين ، كما خيَّر نبيه - محمداً عليه الصلاة و السلام - بين المنِّ على المشركين ، وبين قتلهم .

وقال الأكثرون : هذا التعذيب هو القتل ، وأمَّا اتِّخاذ الحسنى فيهم ، فهو تركهم أحياء .