قوله تعالى : { فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً } عاصفة شديدة الصوت من الصرة ، وهي الصيحة . وقيل : هي الباردة من الصر وهو البرد ، { في أيام نحسات } قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب ( نحسات ) بسكون الحاء ، وقرأ الآخرون بكسرها أي : نكدات مشؤومات ذات نحوس . وقال الضحاك : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودامت الرياح عليهم من غير مطر ، { لنذيقهم عذاب الخزي } أي : عذاب الهون والذل ، { في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى } أشد إهانة . { وهم لا ينصرون }
{ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا } أي : ريحًا عظيمة ، من قوتها وشدتها ، لها صوت مزعج ، كالرعد القاصف . فسخرها اللّه عليهم { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } { نحسات } فدمرتهم وأهلكتهم ، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم . وقال هنا : { لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } الذي اختزوا به وافتضحوا بين الخليقة . { وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ } أي : لا يمنعون من عذاب اللّه ، ولا ينفعون أنفسهم .
وبينما هم في هذا المشهد يعرضون عضلاتهم ! ويتباهون بقوتهم . إذا المشهد التالي في الآية التالية هو المصرع المناسب لهذا العجب المرذول :
( فأرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في أيام نحسات . لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ) . .
إنها العاصفة الهوجاء المجتاحة الباردة في أيام نحس عليهم . وإنه الخزي في الحياة الدنيا . الخزي اللائق بالمستكبرين المتباهين المختالين على العباد . .
روي في الحديث أن الله تعالى أمر خزنة الريح ففتحوا على عاد منها مقدار حلقة الخاتم ، ولو فتحوا مقدار منخر الثور لهلكت الدنيا : وروي أن الريح كانت ترفع العير بأوقارها{[10049]} فتطيرها حتى تطرحها في البحر . وقال جابر بن عبد الله والتيمي{[10050]} : حبس عنهم المطر ثلاثة أعوام ، وإذا أراد الله بقوم شراً حبس عنهم المطر وأرسل عليهم الرياح .
واختلف الناس في الصرصر ، فقال قتادة والسدي والضحاك : هو مأخوذ من الصر ، وهو البرد ، والمعنى : ريحاً باردة لها صوت . وقال مجاهد : صرصر : شديدة السموم . وقال الطبري وجماعة من المفسرين : هو من صر يصر{[10051]} إذا صوت صوتاً يشبه الصاد والراء ، وكذلك يجيء صوت الريح في كثير من الأوقات بحسب ما تلقى .
وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو والأعرج وعيسى والنخعي : بسكون الحاء وهو جمع نحس ، يقال يوم نحس ، فهو مصدر يوصف به أحياناً وعلى الصفة به جمع في هذه الآية ، واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله : { يوم نحس مستمر }{[10052]} . وقال النخعي : { نحسات } وليست ب «نحِسات » بكسر . وقرأ الباقون وأبو جعفر وشيبة وأبو رجاء وقتادة والجحدري والأعمش : «نحِسات » بكسر الحاء ، وهي جمع لنحس على وزن حذر ، فهو صفة لليوم مأخوذ من النحس . وقال الطبري : نحس ونحس لغتان ، وليس كذلك ، بل اللغة الواحدة تجمعهما ، أحدهما مصدر ، والآخر من أمثلة اسم الفاعل ، وأنشد الفراء : [ البسيط ]
أبلغ جذاماً ولخماً أن إخوتهم . . . طيا وبهراء قوم نصرهم نحس{[10053]}
وقالت فرقة : إن «نحْسات » بالسكون مخفف من «نحِسات » بالكسر ، والمعنى في هذه اللفظة مشاييم من النحس المعروف ، قاله مجاهد وقتادة والسدي : وقال الضحاك معناه : شديدة ، أي شديدة البرد حتى كان البرد عذاباً لهم . قال أبو علي : وأنشد الأصمعي في النحس بمعنى البرد :
كأن سلافة عرضت بنحس . . . يحيل شفيفها الماء الزلالا{[10054]}
وقال ابن عباس : { نحسات } معناه : متتابعات ، وكانت آخر شوال من الأربعاء إلى الأربعاء وعذاب الخزي في الدنيا هو العذاب بسبب الكفر ومخالفة أمر الله ، ولا خزي أعظم من هذا إلا ما في الآخرة من الخلود في النار .
والريح : تموُّج في الهواء يحدث من تعاكس الحرارة والبرودة ، وتنتقل موجاته كما تنتقل أمواج البحر والريح الذي أصاب عاداً هو الريح الدَّبور ، وهو الذي يهبّ من جهة مغرب الشمس ، سميت دبوراً بفتح الدال وتخفيف الباء لأنها تهبّ من جهة دُبر الكعبة قال النبي صلى الله عليه وسلم { نُصِرتُ بالصبا وأهلكتْ عاد بالدبور } وإنما كانت الريح التي أصابت عاداً بهذه القوة بسبب قوة انضغاط في الهواء غير معتاد فإن الانضغاط يصير الشيء الضعيف قوياً ، كما شوهد في عصرنا أن الأجسام الدقيقة من أجزاء كيمياوية تسمى الذَّرة تصير بالانضغاط قادرة على نسف مدينة كاملة ، وتسمى الطاقة الذَّرية ، وقد نُسف بها جزء عظيم من بلاد اليابان في الحرب العامة .
والصرصر : الريح العاصفة التي يكون لها صرصرة ، أي دويّ في هبوبها من شدة سرعة تنقلها . وتضعيف عينه للمبالغة في شدتها بين أفراد نوعها كتضعيف كبكب للمبالغة في كَبّ . وأصله صَرَّ ، أي صاح ، وهو وصف لا يؤنث لفظه لأنه لا يجري إلا على الريح وهي مقدرة التأنيث .
والنحسات بفتح النون وسكون الحاء : جمع نَحس بدون تأنيث لأنه مصدر أو اسم مصدر لفعل نَحِس كَعَلِم ، كقوله تعالى : { في يوم نحس مستمر } [ القمر : 19 ] . H
وقرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بسكون الحاء . ويجوز كسر الحاء وبه قرأ البقية على أنه صفة مشبهة من ( نَحِس ) إذا أصابه النحْس إصابة سوء أو ضر شديد . وضده البخت في أوهام العامة ، ولا حقيقة للنحس ولا للبخت ولكنهما عارضان للإنسان ، فالنحس يَعرض له من سوء خِلقه مزاجه أو من تفريطه أو من فساد بيئته أو قومِه ، والبخت يعرض من جراء عكس ذلك . وبعض النوعين أمور اتفاقية وربما كان بعضها جزاءً من الله على عمل خيرٍ أو شر من عباده أو في دينه كما حل بعاد وأهل الجاهلية . وعامة الأمم يتوهمون النحس والبخت من نوع الطِّيرَة ومن التشاؤم والتيمّن ، ومنه الزجر والعيافة عند العرب في الجاهلية ومنه تَطَلُّع الحدثَان من طوالع الكواكب والأياممِ عند معظم الأمم الجاهلة أو المختلَّة العقيدة . وكل ذلك أبطله الإسلام ، أي كشف بطلانه ، بما لم يسبقه تعليم من الأديان التي ظهرت قبل الإِسلام .
فمعنى وصف الأيام بالنحسات : أنها أيام سوء شديد أصابهم وهو عذاب الريح ، وهي ثمانية أيام كما جاء في قوله تعالى : { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } [ الحاقة : 7 ] ، فالمراد : أن تلك الأيام بخصوصها كانت نحساً وأن نَحْسها عليهم دون غيرهم من أهل الأرض لأن عاداً هم المقصودون بالعذاب . وليس المراد أن تلك الأيام من كل عام هي أيام نحس على البشر لأن ذلك لا يستقيم لاقتضائه أن تكون جميع الأمم حلّ بها سوء في تلك الأيام .
ووُصفت تلك الأيام بأنها { نَّحِسَاتٍ } لأنها لم يحدث فيها إلا السوء لهم من إصابة آلام الهَشْم المحقققِ إفضاؤه إلى الموت ، ومشاهدة الأموات من ذويهم ، وموت أنعامهم ، واقتلاع نخيلهم .
وقد اخترع أهل القصص تسمية أيام ثمانية نصفُها آخر شهر ( شُباط ) ونصفها شهر ( آذار ) تكثر فيها الرياح غالباً دَعَوها أيام الحسوم ثم ركبوا على ذلك أنها الموصوفة بحسوم في قوله تعالى في سورة الحاقة ( 7 ) { سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً } فزعموا أنها الأيام الموافقة لأيام الريح التي أصابت عاداً ، ثم ركَّبوا على ذلك أنها أيام نحس من كل عام وكَذَبوا على بعض السلف مثل ابن عباس أكاذيب في ذلك وذلك ضغْث على إبالة ، وتفنن في أوهام الضلالة .
وجُمع { نّحِسَاتٍ } بالألف والتاء لأنه صفة لجمععِ غير العاقل وهو { أَيَّامٍ } .
واللام في { لنُذِيقَهُم } للتعليل وهي متعلقة ب ( أرسلنا ) . والإِذاقة تخييل لمكنية ، شُبه العذاب بطعام هُيِّىء لهم على وجه التهكم كما سمَّى عمرو بن كلثوم الغارة قِرَى في قوله :
قرينَاكُمْ فعجَّلْنَا قِراكم *** قُبيل الصُّبح مِردَاةً طَحُونا
والإِذاقة : تخييل من ملائمات الطعام المشبه به .
والخزي : الذلّ . وإضافة { عَذَابَ } إلى { الخِزْي } من إضافة الموصوف إلى الصفة بدليل مقابلته بقوله : { ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى } ، أي أشد إخزاء من إخزاء عذاب الدنيا ، وذلك باعتبار أن الخزي وصف للعذاب من باب الوصف بالمصدر أو اسم المصدر للمبالغة في كون ذلك العذاب مخزياً للذي يعذب به . ومعنى كون العذاب مخزياً : أنه سببُ خزي فوصْفُ العذاب بأنه خزي بمعنى مُخز من باب المجازِ العقلي ، ويُقدر قبل الإضافة : لنذيقهم عذاباً خزياً ، أي مُخْزياً ، فلما أريدت إضافة الموصوف إلى صفته قيل : { عذابَ الخزي } ، للمبالغة أيضاً لأن إضافة الموصوف إلى الصفة مبالغة في الاتصاف حتى جعلت الصفة بمنزلة شخص آخر يضاف إليه الموصوف وهو قريب من محسِّن التجريد فحصلت مبالغتان في قوله : { عَذَابَ الخِزْي } مبالغةُ الوصف بالمصدر ، ومبالغة إضافة الموصوف إلى الصفة .
وجملة { ولَعَذَابُ الآخِرَةِ أخزى } احتراس لئلا يحسِب السامعون أن حظ أولئك من العقاب هو عذاب الإِهلاك بالريح فعطف عليه الإِخبار بأن عذاب الآخرة أخزَى ، أي لهم ولكل من عذّب عذاباً في الدنيا لغضب الله عليه . وأخْزى : اسم تفضيل جرى على غير قياس ، وقياسه أن يقال : أشد إخزاء ، لأنه لا يقال : خَزاه ، بمعنى أخزاه ، أي أهانه ، ومثل هذا في صوغ اسم التفضيل كثير في الاستعمال .
وجملة { وَهُمْ لاَ يُنْصَرُونَ } تذييل ، أي لا ينصرهم من يدفع العذاب عنهم ، ولا من يشفع لهم ، ولا من يخرجهم منه بعد مهلة .