الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ لِّنُذِيقَهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا يُنصَرُونَ} (16)

قوله تعالى : " فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا " هذا تفسير الصاعقة التي أرسلها عليهم ، أي ريحا باردة شديدة البرد وشديدة الصوت والهبوب . ويقال : أصلها صرر من الصر وهو البرد{[13426]} فأبدلوا مكان الراء الوسطى فاء الفعل ، كقولهم كبكبوا أصله كببوا ، وتَجَفْجَفَ الثوب أصله تجفف . أبو عبيدة : معنى صرصر : شديدة عاصفة . عكرمة وسعيد بن جبير : شديد البرد . وأنشد قطرب قول الحطيئة :

المطعمُون إذا هَبَّتْ بِصَرْصَرَةٍ *** والحاملُون إذا اسْتُودُوا على النَّاسِ

استودوا : إذا سئلوا الدية . مجاهد : الشديدة السموم . وروى معمر عن قتادة قال : باردة . وقاله عطاء ؛ لأن " صرصرا " مأخوذ من صر والصر في كلام العرب البرد{[13427]} كما قال :

لها عُذَرٌ كقرونِ النِّسَا *** ءِ رُكِّبْنَ في يومِ ريحٍ وصِرْ

وقال السدي : الشديدة الصوت . ومنه صر القلم والباب يصر صريرا أي صوت . ويقال : درهم صري ، وصري للذي له صوت إذا نقد . قال ابن السكيت : صرصر يجوز أن يكون من الصر وهو البرد ، ويجوز أن يكون من صرير الباب ، ومن الصرة وهي الصيحة . ومنه " فأقبلت امرأته في صرة " [ الذاريات : 29 ] . وصرصر : اسم نهر بالعراق . " في أيام نحسات " أي مشؤومات . قاله مجاهد وقتادة . كن آخر شوال من يوم الأربعاء إلى يوم الأربعاء وذلك " سبع ليال وثمانية أيام حسوما " [ الحاقة :7 ] قال ابن عباس : ما عذب قوم إلا في يوم الأربعاء . وقيل : " نحسات " باردات . حكاه النقاش . وقيل : متتابعات . عن ابن عباس وعطية . الضحاك : شداد . وقيل : ذات غبار . حكاه ابن عيسى . ومنه قول الراجز :

قدِ اغْتَدَى قبلَ طلوع الشمس *** للصيد في يوم قليلِ النَّحْسِ

قال الضحاك وغيره : أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين ، ودرت الرياح عليهم في غير مطر ، وخرج منهم قوم إلى مكة يستسقون بها للعباد ، وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء أو جهد طلبوا إلى الله تعالى الفرج منه ، وكانت طلبتهم ذلك من الله تعالى عند بيته الحرام مكة مسلمهم وكافرهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى ، مختلفة أديانهم ، وكلهم معظم لمكة ، عارف حرمتها ومكانها من الله تعالى . وقال جابر بن عبد الله والتيمي : إذا أراد الله بقوم خيرا أرسل عليهم المطر وحبس عنهم كثرة الرياح ، وإذا أراد الله بقوم شرا حبس عنهم المطر وسلط عليهم كثرة الرياح . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " نحسات " بإسكان الحاء على أنه جمع نحس الذي هو مصدر وصف به . الباقون : " نحسات " بكسر الحاء أي ذوات نحس . ومما يدل على أن النحس مصدر قوله : " في يوم نحس مستمر " [ القمر : 19 ] ولو كان صفة لم يضف اليوم إليه ، وبهذا كان يحتج أبو عمرو على قراءته ، واختاره أبو حاتم . واختار أبو عبيد القراءة الثانية وقال : لا تصح حجة أبي عمرو ؛ لأنه أضاف اليوم إلى النحس فأسكن ، وإنما كان يكون حجة لو نون اليوم ونعت وأسكن . فقال : " في يوم نحس " [ القمر : 19 ] وهذا لم يقرأ به أحد نعلمه . وقال المهدوي : ولم يسمع في " نحس " إلا الإسكان . قال الجوهري : وقرئ في قوله " في يوم نحس " [ القمر : 19 ] على الصفة ، والإضافة أكثر وأجود . وقد نحس الشيء بالكسر فهو نحس أيضا . قال الشاعر :

أبلِغ جذاما ولخما أنَّ إخوتهم *** طيا وبهراء قومٌ نصرُهُمُ نحِس

ومنه قيل : أيام نحسات . " لنذيقهم " أي لكي نذيقهم " عذاب الخزي في الحياة الدنيا " أي العذاب بالريح العقيم . " ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون " أي أعظم وأشد .


[13426]:الزيادة من اللسان عن ابن السكيت لأن هذا الكلام له.
[13427]:هو امرؤ القيس يصف فرسه.