الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ لِّنُذِيقَهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا يُنصَرُونَ} (16)

قوله : { صَرْصَراً } : الصَّرْصَرُ : الريحُ الشديدة فقيل : هي الباردةُ مِن الصِّرِّ ، وهو البردُ . وقيل : هي الشديدةُ السَّمومِ . وقيل هي المُصَوِّتَةُ ، مِنْ صَرَّ البابُ أي : سُمِع صريرُه . والصَّرَّة : الصَّيْحَةُ . ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . قال ابن قتيبة : " صَرْصَر : يجوزُ أَنْ يكونَ من الصِّرِّ وهو البردُ ، وأَنْ يكونَ مِنْ صَرَّ البابُ ، وأَنْ تكونَ من الصَّرَّة ، وهي الصيحةُ ، ومنه : { فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ } [ الذاريات : 29 ] . وقال الراغب : " صَرْصَر لفظة من الصِّرِّ ، وذلك يرجِعُ إلى الشَّدِّ لِما في البرودة من التعقُّدِ " .

قوله : " نَحِساتٍ " قرأ الكوفيون وابن عامر بكسرِ الحاءِ ، والباقون بسكونِها . فأمَّا الكسرُ فهو صفةٌ على فَعِل ، وفعلُه فَعِل بكسرِ العين أيضاً كفِعْلِهِ يقال : نَحِس فهو نَحِسٌ كفَرِح فهو فَرِحٌ ، وأَشِرَ فهو أَشِرٌ . وأمال الليث/ عن الكسائي ألفَه لأجل الكسرةِ ، ولكنه غيرُ مشهورٍ عنه ، حتى نسبه الدانيُّ للوَهْم .

وأمَّا قراءةُ الإِسكانِ فتحتملُ ثلاثةَ أوجهٍ ، أحدُها : أَنْ يكونَ مخففاً مِنْ فَعِل في القراءةِ المتقدمةِ ، وفيه توافُقُ القراءتين . والثاني : أنَّه مصدرٌ وُصِفَ به كرجلٍ عَدْلٍ . إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه الجمعُ فإنَّ الفصيحَ في المصدرِ الموصوفِ أَنْ يُوَحَّدَ ، وكأنَّ المُسَوِّغَ للجمع اختلافُ أنواعِه في الأصل . والثالث : أنه صفةٌ مستقلةٌ على فَعْل بسكونِ العينِ . ولكن أهلَ التصريفِ لم يذكروا في الصفةِ الجائيةِ مِنْ فَعِلَ بكسرِ العين ، إلاَّ أوزاناً محصورةً ليس فيها فَعْل بالسكونِ فذكروا : فَرِحَ فهو فَرِحٌ ، وحَوِرَ فهو أحورُ ، وشَبعَ فهو شبعانُ ، وسَلِمَ فهو سالمٌ ، وبَلي فهو بالٍ .

وفي معنى " نَحِسات " قولان ، أحدهما : أنها مِن الشُّؤْم . قال السدِّي : أي : مشائيم مِن النَّحْسِ المعروف . والثاني : أنها شديدةُ البردِ . وأنشدوا على المعنى الأول قولَ الشاعرِ :

3954 يَوْمَيْنِ غَيْمَيْنِ ويوماً شَمْسا *** نَجْمَيْنِ سَعْدَيْنِ ونجماً نَحْسا

وعلى المعنى الثاني قولَ الآخرِ :

3955 كأنَّ سُلافَةً عُرِضَتْ لنَحْسٍ *** يُحِيْلُ شَفيفُها الماءَ الزُّلالا

ومنه :

3956 قد أَغْتدي قبلَ طُلوعِ الشمسِ *** للصيدِ في يومٍ قليلِ النَّحْسِ

وقيل : يُريدُ به في هذا البيت الغبارَ أي : قليلِ الغبار ، وقد قيل بذلك في الآيةِ أنها ذاتُ غُبارٍ . و " نَحِسات " نعتٌ لأيَّام ، والجمعُ بالألفِ والتاءِ مُطَّرِدٌ في صفةِ ما لا يَعْقِلُ كأيامٍ معدوداتٍ . وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة .

و " لِنُذِيْقَهُمْ " متعلِّقٌ ب " أَرْسَلْنا " . وقُرِئ " لِتُذِيقَهم " بالتاءِ مِنْ فوقُ . وفي الضمير قولان ، أحدهما : أنه الريحُ أي : لتذيقَهم الريحُ أو الأيَّامُ على سبيل المجاز . وعذاب الخِزْيِ من إضافةِ الموصوفِ لصفتِه ، ولذلك قال : { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى } فإنه يَقْتضِي المشاركةَ وزيادةً . وإسنادُ الخِزْيِ إلى العذابِ مجازٌ لأنه سَبُبه .