نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَأَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِمۡ رِيحٗا صَرۡصَرٗا فِيٓ أَيَّامٖ نَّحِسَاتٖ لِّنُذِيقَهُمۡ عَذَابَ ٱلۡخِزۡيِ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَاۖ وَلَعَذَابُ ٱلۡأٓخِرَةِ أَخۡزَىٰۖ وَهُمۡ لَا يُنصَرُونَ} (16)

{ فأرسلنا } بسبب ذلك على ما لنا من العظمة ، ودل على صغارهم وحقارتهم بأداة الاستعلاء فقال : { عليهم } وزاد في تحقيرهم بأن أخبر أنه أهلكهم لأجل ما تعززوا به من قوة أبدانهم ووثاقة خلقهم بما هو من ألطف الأشياء جسماً وهو الهواء فقال : { ريحاً } أي عظيمة { صرصراً } أي شديدة البرد والصوت والعصوف حتى كانت تجمد البدن ببردها فتكون كأنها تصره - أي تجمعه - في موضع واحد فتمنعه التصرف بقوته ، وتقطع القلب بصوتها ، فتقهر شجاعته ، وتحرق بشدة بردها كل ما مرت عليه .

ولما تقدم في هذا السياق استكبارهم على الوجه المذكور وادعاؤهم أنهم أشد الناس قوة اقتضى الحال تحقيرهم في إهلاكهم ، فذكر الأيام دون الليالي وإن تضمنتها فقال تعالى : { في أيام } ولما كان جمع القلة قد يستعار للكثرة حقق أن المراد القلة بوصفه بجمع السلامة فقال : { نحسات } وكان ذلك أدل على هذا المراد من إفراد اليوم كما في القمر لأنه قد يراد به زمان يتم فيه أمر ظاهر ولو طالت مدته ، ويصح للجنس فيشمل مع القليل ما يصلح له جمع الكثرة . وفيه - مع أنه نذارة - رمز للمنزل عليه هذا الوحي صلى الله عليه وسلم بأعظم بشارة لما أومأ إليه افتتاح السورة باسمي الرحمة ، وقوله تعالى : ( لقوم يعلمون ) من أنه يكون لقومه قوة وعلم ، ومن قرن النذارة بالبشارة في قوله { بشيراً ونذيراً } ومن جعل أيام هذا العذاب ثمانية ، أشار إلى الحلم والتأني كما أشار إليه ما تقدم من خلق هذا الوجود في ستة أيام ، وقد كان قادراً على كل من التعذيب والإيجاد في لحظة واحدة ، فأشار ذلك إلى أنه في السنة السادسة من الهجرة يكون الفتح السببي بعمرة الحديبية التي كانت سبب نزول سورة الفتح ، وفي السابعة يكون الاعتمار الذي كان عليهم أشد من وقوع الصارم البتار ، حتى ذهب عمرو بن العاص من أجل ذلك إلى الحبشة لئلا يرى من دخول النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ما لا صبر له عليه ، وفي الثامنة يكون الفتح الحقيقي بعشرة آلاف مقاتل أكثرهم دارع لا يُرى منهم إلا الحدق ، حتى خالوا بياض لأمهم السراب ، فظنوا بهم غاية العذاب ، فكانوا رحمة ، وعاد رأوا السحاب فظنوه رحمة فكان عذاباً ونقمة ، ووصفها بالنحس مبالغة مثل رجل عدل ليدل على أنها كانت قابلة لانفعال الجسد وما كان فيه من القوى بهذه الريح ، وهو مصدر جمع لاختلاف أنواع النحس فيها - هذا على قراءة الجماعة بسكون الحاء ، وأما قراءة ابن عامر والكوفيين بكسر الحاء فهي صفة من فعل بالكسر مثل : فرح فهو فرح ، وأول هذه الأيام الأربعاء في قول يحيى بن سلام ، وقال غيره : وما عذب قوم إلا يوم الأربعاء { لنذيقهم } وأضاف الموصوف إلى صفته على المبالغة من وادي رجل عدل فقال : { عذاب الخزي } أي الذي يهيئهم ويفضحهم ويذلهم بما تعظموا وافتخروا على كلمة الله التي أتتهم بها رسله ، وصف العذاب بالخزي الذي هو للمعذب به مبالغة في إخزائه له { في الحياة الدنيا } ليذلوا عند من تعظموا عليهم في الدار التي اغتروا بها فتعظموا فيها ، فإن ذلك أدل على القدرة عند من تقيد بالوهم { ولَعذاب الآخرة } الذي أعد للمتكبرين { أخزى } أي أشد إخزاء كما قالوا : هو أعطاهم للدراهم وأولادهم للمعروف ، وأكد لإنكارهم له .

ولما انتفت مدافعتهم عن أنفسهم ، نفى دفع غيرهم فقال : { وهم } أي أصابهم هذا العذاب وسيصيبهم عذاب الآخرة والحال أنهم { لا يُنصرون * } أي لا يوجد ولا يتجدد لهم نصر أبداً بوجه من الوجوه .