قوله تعالى : { ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } ، وحقها ما روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إيمانه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل نفساً بغير نفس فيقتل بها " . { ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً } ، أي : قوةً وولاية على القاتل بالقتل ، قال مجاهد . وقال الضحاك : سلطانه هو أنه بتخير ، فإن شاء استقاد منه ، وإن شاء أخذ الدية ، وإن شاء عفا . { فلا يسرف في القتل } ، قرأ حمزة و الكسائي : ولا تسرفوا بالتاء يخاطب ولي القتيل ، وقرأ الآخرون : بالياء على الغائب أي : لا يسرف الولي في القتل . واختلفوا في هذا الإسراف الذي منع منه ، فقال ابن عباس ، وأكثر المفسرين : معناه لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتلوا أشرف منه . قال سعيد بن جبير : إذا كان القاتل واحداً فلا يقتل جماعة بدل واحد ، وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً لا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه . وقال قتادة : معناه لا يمثل بالقاتل . { إنه كان منصوراً } ، فالهاء راجعة إلى المقتول في قوله : { ومن قتل مظلوماً } يعني : إن المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله ، وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله ، هذا قول مجاهد . وقال قتادة : الهاء راجعة إلى ولي المقتول ، معناه : إنه منصور على القاتل باستيفاء منه أو الدية . وقيل في قوله : { فلا يسرف في القتل } إنه أراد به القاتل المعتدي ، يقول : لا يتعدى بالقتل بغير الحق ، فإنه إن فعل ذلك فولي المقتول منصور من قبلي عليه باستيفاء القصاص منه .
{ 33 } { وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا }
وهذا شامل لكل نفس { حَرَّمَ اللَّهُ } قتلها من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد ومسلم وكافر له عهد .
{ إِلَّا بِالْحَقِّ } كالنفس بالنفس والزاني المحصن والتارك لدينه المفارق للجماعة والباغي في حال بغيه إذا لم يندفع إلا بالقتل .
{ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا } أي : بغير حق { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ } وهو أقرب عصباته وورثته إليه { سُلْطَانًا } أي : حجة ظاهرة على القصاص من القاتل ، وجعلنا له أيضا تسلطا قدريا على ذلك ، وذلك حين تجتمع الشروط الموجبة للقصاص كالعمد العدوان والمكافأة .
{ فَلَا يُسْرِفْ } الولي { فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا } والإسراف مجاوزة الحد إما أن يمثل بالقاتل أو يقتله بغير ما قتل به أو يقتل غير القاتل .
وفي هذه الآية دليل إلى أن الحق في القتل للولي فلا يقتص إلا بإذنه وإن عفا سقط القصاص .
وأن ولي المقتول يعينه الله على القاتل ومن أعانه حتى يتمكن من قتله .
ويختم النهي عن قتل الأولاد وعن الزنا بالنهي عن قتل النفس إلا بالحق :
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصورا ) . .
والإسلام دين الحياة ودين السلام ، فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله ، فالله واهب الحياة ، وليس لأحد غير الله أن يسلبها إلا بإذنه وفي الحدود التي يرسمها . وكل نفس هي حرم لا يمس ، وحرام إلا بالحق ، وهذا الحق الذي يبيح قتل النفس محدد لا غموض فيه ، وليس متروكا للرأي ولا متأثرا بالهوى . وقد جاء في الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال : " لا يحل دم امرى ء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة " .
فأما الأولى فهي القصاص العادل الذي إن قتل نفسا فقد ضمن الحياة لنفوس ( ولكم في القصاص حياة ) . حياة بكف يد الذين يهمون بالاعتداء على الأنفس والقصاص ينتظرهم فيردعهم قبل الإقدام على الفعلة النكراء . وحياة بكف يد أصحاب الدم أن تثور نفوسهم فيثأروا ولا يقفوا عند القاتل ، بل يمضوا في الثأر ، ويتبادلوا القتل فلا يقف هذا الفريق وذاك حتى تسيل دماء ودماء . وحياة بأمن كل فرد على شخصه واطمئنانه إلى عدالة القصاص ، فينطلق آمنا يعمل وينتج فإذا الأمة كلها في حياة .
وأما الثانية فهي دفع للفساد القاتل في انتشار الفاحشة ، وهي لون من القتل على النحو الذي بيناه .
وأما الثالثة فهي دفع للفساد الروحي الذي يشيع الفوضى في الجماعة ، ويهدد أمنها ونظامها الذي اختاره الله لها ، ويسلمها إلى الفرقة القاتلة . والتارك لدينه المفارق للجماعة إنما يقتل لأنه اختار الإسلام لم يجبر عليه ، ودخل في جسم الجماعة المسلمة ، واطلع على أسرارها ، فخروجه بعد ذلك عليها فيه تهديد لها . ولو بقي خارجها ما أكرهه أحد على الإسلام . بل لتكفل الإسلام بحمايته إن كان من أهل الكتاب وبإجارته وإبلاغه مأمنه إن كان من المشركين . وليس بعد ذلك سماحة للمخالفين في العقيدة .
( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل ، إنه كان منصورا ) . .
تلك الأسباب الثلاثة هي المبيحة للقتل ، فمن قتل مظلوما بغير واحد من تلك الأسباب ، فقد جعل الله لوليه - وهو أقرب عاصب إليه - سلطانا على القاتل ، إن شاء قتله وإن شاء عفا على الدية ، وإن شاء عفا عنه بلا دية . فهو صاحب الأمر في التصرف في القاتل ، لأن دمه له .
وفي مقابل هذا السلطان الكبير ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل استغلالا لهذا السلطان الذي منحه إياه . والإسراف في القتل يكون بتجاوز القاتل إلى سواه ممن لا ذنب لهم - كما يقع في الثأر الجاهلي الذي يؤخذ فيه الآباء والأخوة والأبناء والأقارب بغير ذنب إلا أنهم من أسرة القاتل - ويكون الإسراف كذلك بالتمثيل بالقاتل ، والولي مسلط على دمه بلا مثلة . فالله يكره المثلة والرسول قد نهى عنها .
( فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ) يقضي له الله ، ويؤيده الشرع ، وينصره الحاكم . فليكن عادلا في قصاصه ، وكل السلطات تناصره وتأخذ له بحقه .
وفي تولية صاحب الدم على القصاص من القاتل ، وتجنيد سلطان الشرع وسلطان الحاكم لنصرته تلبية للفطرة البشرية ، وتهدئة للغليان الذي تستشعره نفس الولي . الغليان الذي قد يجرفه ويدفعه إلى الضرب يمينا وشمالا في حمى الغضب والانفعال على غير هدى . فأما حين يحس أن الله قد ولاه على دم القاتل ، وأن الحاكم مجند لنصرته على القصاص ، فإن ثائرته تهدأ ونفسه تسكن ويقف عند حد القصاص العادل الهادى ء .
والإنسان إنسان فلا يطالب بغير ما ركب في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص . لذلك يعترف الإسلام بهذه الفطرة ويلبيها في الحدود المأمونة ، ولا يتجاهلها فيفرض التسامح فرضا . إنما هو يدعو إلى التسامح ويؤثره ويحبب فيه ، ويأجر عليه . ولكن بعد أن يعطي الحق . فلولي الدم أن يقتص أو يصفح . وشعور ولي الدم بأنه قادر على كليهما قد يجنح به إلى الصفح والتسامح ، أما شعوره بأنه مرغم على الصفح فقد يهيج نفسه ويدفع به إلى الغلو والجماح !
وقوله { ولا تقتلوا } وما قبله من الأفعال جزم بالنهي ، وذهب الطبري إلى أنها عطف على قوله { وقضى ربك ألا تعبدوا } [ الإسراء : 23 ] والأول أصوب وأبرع للمعنى ، والألف واللام التي في { النفس } هي للجنس ، و { الحق } الذي تقتل به النفس هو ما فسره النبي صلى الله عليه سلم في قوله : «لا يُحل دمَ المسلم إلا إحدى ثلاث خصال ، كفر بعد إيمان ، أو زنى بعد إحصان ، أو قتل نفس أخرى »{[7547]} .
قال القاضي أبو محمد : وتتصل بهذه الأشياء هي راجعة إليها ، فمنها قطع الطريق ، لأنه في معنى قتل النفس وهي الحرابة ، ومن ذلك الزندقة ، ومسألة ترك الصَّلاة لأنها في معنى الكفر بعد الإيمان ، ومنه قتل أبي بكر رضي الله عنه منعة الزكاة ، وقتل من امتنع في المدن من فروض الكفاية ، وقوله تعالى : { مظلوماً } نصب على الحال ، ومعناه بغير هذه الوجوه المذكورة ، و «الولي » القائم بالدم وهو من ولد الميت أو ولده الميت أو جمعه وأباه أب ، ولا مدخل للنساء في ولاية الدم عند جماعة من العلماء ، ولهن ذلك عند أخرى ، و «السلطان » الحجة والملك الذي جعل إليه من التخير في قبول الدية أو العفو ، قال ابن عباس والضحاك . وقال قتادة : «السلطان » القود ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وعاصم «فلا يسرف » بالياء ، وهي قراءة الجمهور ، أي الولي لا يتعدى أمر الله ، والتعدي هو أن يقتل غير قاتل وليه من سائر القبيل ، أو يقتل اثنين بواحد ، وغير وذلك من وجوه التعدي ، وهذا كله كانت العرب تفعله ، فلذلك وقع التحذير منه ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن من أعتى الناس على الله ثلاثة : رجل قتل غير قاتل وليه ، أو قتل بدخن الجاهلية ، أو قتل في حرم الله »{[7548]} ، وقالت فرقة : المراد بقوله { فلا يسرف } القاتل الذي يتضمنه الكلام ، والمعنى فلا يكن أحد من المسرفين بأن يقتل نفساً فإنه يحصل في ثقاف هذا الحكم ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «فلا تسرف في القتل » بالتاء من فوق ، وهو قراءة حذيفة ويحيى بن وثاب ومجاهد بخلاف والأعمش وجماعة ، قال الطبري : على معنى الخطاب للنبي عليه السلام والأئمة بعده ، أي فلا تقتلوا غير القاتل .
قال القاضي أبو محمد : ويصح أن يراد به الولي أي فلا تسرف أيها الولي في قتل أحد يتحصل في هذا الحكم ، وقرأ أبو مسلم السراج صاحب الدعوة العباسية{[7549]} ، «فلا يسرفُ » بالياء بضم الفاء على معنى الخبر لا على معنى النهي ، والمراد هذا التأويل فقط .
قال القاضي أبو محمد : وفي الاحتجاج بأبي مسلم في القراءة نظر ، وفي قراءة أبي بن كعب : «فلا تسرفوا في القتل إن ولي المقتول كان منصوراً{[7550]} ، والضمير في قوله { إنه } عائد على الولي ، وقيل على المقتول ، وهو عندي أرجح الأقوال ، لأنه المظلوم ، ولفظة النصر تقارن أبداً الظلم كقوله عليه السلام : » ونصر المظلوم وإبرار القسم{[7551]} « ، وكقوله » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً{[7552]} « ، إلى كثير من الأمثلة : وقيل على القتل ، وقال أبو عبيد على القاتل لأنه إذا قتل في الدنيا وخلص بذلك من عذاب الآخرة فقد نصر ، وهذا ضعيف بعيد المقصد ، وقال الضحاك هذه أول ما نزل من القرآن في شأن القتل وهي مكية .