قوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } فيما مضى .
قوله تعالى : { ولن تفعلوا } . أبداً فيما بقي ، وإنما قال ذلك لبيان الإعجاز وأن القرآن كان معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم حيث عجزوا عن الإتيان بمثله .
قوله تعالى : { فاتقوا النار } . أي فآمنوا واتقوا بالإيمان النار .
قوله تعالى : { التي وقودها الناس والحجارة } . قال ابن عباس وأكثر المفسرين : يعني حجارة الكبريت لأنها أكثر التهاباً ، وقيل جميع الحجارة ، وهو دليل على عظمة تلك النار ، وقيل : أراد بها الأصنام لأن أكثر أصنامهم كانت منحوتة من الحجارة كما قال ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم ) .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ }
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصحة ما جاء به ، فقال : { وإن كنتم } معشر المعاندين للرسول ، الرادين دعوته ، الزاعمين كذبه في شك واشتباه ، مما نزلنا على عبدنا ، هل هو حق أو غيره ؟ فهاهنا أمر نصف ، فيه الفيصلة بينكم وبينه ، وهو أنه بشر مثلكم ، ليس بأفصحكم ولا بأعلمكم{[67]} وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ، لا يكتب ولا يقرأ ، فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ، وقلتم أنتم أنه تقوَّله وافتراه ، فإن كان الأمر كما تقولون ، فأتوا بسورة من مثله ، واستعينوا بمن تقدرون عليه من أعوانكم وشهدائكم ، فإن هذا أمر يسير عليكم ، خصوصا وأنتم أهل الفصاحة والخطابة ، والعداوة العظيمة للرسول ، فإن جئتم بسورة من مثله ، فهو كما زعمتم ، وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز ، ولن تأتوا بسورة من مثله ، ولكن هذا التقييم{[68]} على وجه الإنصاف والتنزل معكم ، فهذا آية كبرى ، ودليل واضح [ جلي ] على صدقه وصدق ما جاء به ، فيتعين عليكم اتباعه ، واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة [ والشدة ] ، أن كانت وقودها الناس والحجارة ، ليست كنار الدنيا التي إنما تتقد بالحطب ، وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين بالله ورسله . فاحذروا الكفر برسوله ، بعد ما تبين لكم أنه رسول الله .
وهذه الآية ونحوها يسمونها آيات التحدي ، وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل هذا القرآن ، قال تعالى { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }
وكيف يقدر المخلوق من تراب ، أن يكون كلامه ككلام رب الأرباب ؟ أم كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ، أن يأتي بكلام ككلام الكامل ، الذي له الكمال المطلق ، والغنى الواسع من كل الوجوه ؟ هذا ليس في الإمكان ، ولا في قدرة الإنسان ، وكل من له أدنى ذوق ومعرفة [ بأنواع ] الكلام ، إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلام البلغاء ، ظهر له الفرق العظيم .
وفي قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } إلى آخره ، دليل على أن الذي يرجى له الهداية من الضلالة : [ هو ] الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلال ، فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق{[69]} إن كان صادقا في طلب الحق .
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ، فهذا لا يمكن رجوعه ، لأنه ترك الحق بعد ما تبين له ، لم يتركه عن جهل ، فلا حيلة فيه .
وكذلك الشاك غير الصادق{[70]} في طلب الحق ، بل هو معرض غير مجتهد في طلبه ، فهذا في الغالب أنه لا يوفق .
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ، دليل على أن أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ، قيامه بالعبودية ، التي لا يلحقه فيها أحد من الأولين والآخرين .
كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء ، فقال : { سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ } وفي مقام الإنزال ، فقال : { تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ }
وفي قوله : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } ونحوها من الآيات ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الجنة والنار مخلوقتان خلافا للمعتزلة ، وفيها أيضا ، أن الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر لا يخلدون في النار ، لأنه قال : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } فلو كان [ عصاة الموحدين ] يخلدون فيها ، لم تكن معدة للكافرين وحدهم ، خلافا للخوارج والمعتزلة .
وفيها دلالة على أن العذاب مستحق بأسبابه ، وهو الكفر ، وأنواع المعاصي على اختلافها .
وهذا التحدي ظل قائما في حياة الرسول [ ص ] وبعدها ، وما يزال قائما إلى يومنا هذا وهو حجة لا سبيل إلى المماحكة فيها . . وما يزال القرآن يتميز من كل كلام يقوله البشر تميزا واضحا قاطعا . وسيظل كذلك أبدا . سيظل كذلك تصديقا لقول الله تعالى في الآية التالية :
( فإن لم تفعلوا - ولن تفعلوا - فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافري ) والتحدي هنا عجيب ، والجزم بعدم إمكانه أعجب ، ولو كان في الطاقة تكذيبه ما توانوا عنه لحظة . وما من شك أن تقرير القرآن الكريم أنهم لن يفعلوا ، وتحقق هذا كما قرره هو بذاته معجزة لا سبيل إلى المماراة فيها . ولقد كان المجال أمامهم مفتوحا ، فلو أنهم جاءوا بما ينقض هذا التقرير القاطع لأنهارت حجية القرآن ولكن هذا لم يقع ولن يقع كذلك فالخطاب للناس جميعا ، ولو أنه كان في مواجهة جيل من أجيال الناس .
وهذه وحدها كلمة الفصل التاريخية .
على أن كل من له دراية بتذوق أساليب الأداء ؛ وكل من له خبرة بتصورات البشر للوجود وللأشياء ؛ وكل من له خبرة بالنظم والمناهج والنظريات النفسية أو الاجتماعية التي ينشئها البشر . . لا يخالجه شك في أن ما جاء به القرآن في هذه المجالات كلها شيء آخر ليس من مادة ما يصنعه البشر . والمراء في هذا لا ينشأ إلا عن جهالة لا تميز ، أو غرض يلبس الحق بالباطل . .
ومن ثم كان هذا التهديد المخيف لمن يعجزون عن هذا التحدي ثم لا يؤمنون بالحق الواضح :
( فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ) . .
ففيم هذا الجمع بين الناس والحجارة ، في هذه الصورة المفزعة الرعيبة ؟ لقد أعدت هذه النار للكافرين . الكافرين الذين سبق في أول السورة وصفهم بأنهم ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ، وعلى أبصارهم غشاوة ) . . والذين يتحداهم القرآن هنا فيعجزون ، ثم لا يستجيبون . . فهم إذن حجارة من الحجارة ! وإن تبدوا في صورة آدمية من الوجهة الشكلية ! فهذا الجمع بين الحجارة من الحجر والحجارة من الناس هو الأمر المنتظر !
على أن ذكر الحجارة هنا يوحي إلى النفس بسمة أخرى في المشهد المفزع : مشهد النار التي تأكل الأحجار . ومشهد الناس الذين تزحمهم هذه الأحجار . . في النار . .
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ( 24 )
وقوله تعالى : { فإن لم تفعلوا } ، دخلت «إن » على { لم } لأن { لم تفعلوا } معناه تركتم الفعل ، ف «إن » لا تؤثر كما لا تؤثر في الماضي من الأفعال ، و { تفعلوا } جزم ب { لم } ، وجزمت ب { لم } لأنها أشبهت «لا » في التبرية في أنهما ينفيان ، فكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة أو العلامة من الفعل . ( {[342]} )
وقوله : { ولن تفعلوا } نصبت { لن } ، ومن العرب من تجزم بها ، ذكره أبو عبيدة ، ومنه بيت النابغة على بعض الروايات : [ البسيط ]
فلن أعرّضْ أبيت اللعن بالصفد( {[343]} ) . . . وفي الحديث في منامة عبد الله بن عمر فقيل لي : «لن ترعْ »( {[344]} ) هذا على تلك اللغة ، وفي قوله : { لن تفعلوا } إثارة لهممهم وتحريك لنفوسهم ، ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع ، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن قبل وقوعها .
وقوله تعالى : { فاتقوا النار } ، أمر بالإيمان وطاعة الله خرج في هذه الألفاظ المحذرة . ( {[345]} )
وقرأ الجمهور : «وَقودها » بفتح الواو( {[346]} ) . وقرأ الحسن بن أبي الحسن ومجاهد وطلحة بن مصرف وأبو حيوة : «وقودها » بضم الواو في كل القرآن ، إلا أن طلحة استثنى الحرف الذي في البروج ، وبفتح الواو هو الحطب وبضمها هو المصدر ، وقد حكيا جميعاً في الحطب وقد حكيا في المصدر .
قال ابن جني : «من قرأ بضم الواو فهو على حذف مضاف تقديره ذو وقودها ، لأن الوقود بالضم مصدر ، وليس بالناس ، وقد جاء عنهم الوقود بالفتح في المصدر ، ومثله ولعت به » لوعاً «بفتح الواو ، وكله شاذ ، والباب هو الضم » .
وقوله : { الناس } عموم معناه الخصوص فيمن سبق عليه القضاء بدخولها .
وروي عن ابن مسعود في { الحجارة } أنها حجارة الكبريت( {[347]} ) وخصت بذلك لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب : سرعة الاتقاد ، ونتن الرائحة ، وكثرة الدخان ، وشدة الالتصاق بالأبدان ، وقوة حرها إذا حميت .
وفي قوله تعالى : { أعدت }( {[348]} ) رد على من قال : إن النار لم تخلق حتى الآن ، وهو القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد( {[349]} ) البلوطي الأندلسي ، وذهب بعض المتأولين إلى أن هذه النار المخصصة بالحجارة هي نار الكافرين خاصة ، وأن غيرها هي للعصاة . ( {[350]} )
وقال الجمهور : بل الإشارة إلى جميع النار لا إلى نار مخصوصة ، وإنما ذكر الكافرين ليحصل المخاطبون في الوعيد ، إذ فعلهم كفر ، فكأنه قال أعدت لمن فعل فعلكم ، ، وليس يقتضي ذلك أنه لا يدخلها غيرهم . ( {[351]} )