قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } . الآية نزلت في وفد نجران ، وذلك أنهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم مالك تشتم صاحبنا ؟ قال : وما أقول ، قالوا : تقول إنه عبد الله قال : أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول ، فغضبوا وقالوا : هل رأيت إنساناً قط من غير أب ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية ( إن مثل عيسى عند الله ) " في كونه خلقه من غير أب ( كمثل آدم ) للأنه خلق من غير أب وأم .
قوله تعالى : { خلقه من تراب ثم قال له } يعني لعيسى عليه السلام .
قوله تعالى : { كن فيكون } يعني فكان ، فإن قيل ما معنى قوله ( خلقه من تراب ) ؟ ثم قال له : ( كن فيكون ) خلقا ، ولا تكوين بعد الخلق ، قيل معناه خلقه ، ثم أخبركم أني قلت له : كن فكان ، من غير ترتيب في الخلق كما يكون في الولادة ، وهو مثل قول الرجل : أعطيتك اليوم درهماً ثم أعطيتك أمس درهماً ، أي ثم أخبرك أني أعطيتك أمس درهماً . وفيما سبق من التمثيل دليل على جواز القياس ، لأن القياس هو رد فرع إلى أصل بنوع شبه ، وقد رد الله تعالى خلق عيسى إلى آدم عليهما السلام بنوع شبه .
ثم قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ }
يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلام ما ليس له بحق ، بغير برهان ولا شبهة ، بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية ، وهذا ليس بشبهة فضلا أن يكون حجة ، لأن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير وأن جميع الأسباب طوع مشيئته وتبع لإرادته ، فهو على نقيض قولهم أدل ، وعلى أن أحدا لا يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى ، ومع هذا فآدم عليه السلام خلقه الله من تراب لا من أب ولا أم ، فإذا كان ذلك لا يوجب لآدم ما زعمه النصارى في المسيح ، فالمسيح المخلوق من أم بلا أب من باب أولى وأحرى ، فإن صح ادعاء البنوة والإلهية في المسيح ، فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى ، فلهذا قال تعالى { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون .
ثم يحسم التعقيب في حقيقة عيسى عليه السلام ، وفي طبيعة الخلق والإرادة التي تنشىء كل شيء كما أنشأت عيسى عليه السلام :
( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم . خلقه من تراب . ثم قال له : كن فيكون ) . .
إن ولادة عيسى عجيبة حقا بالقياس إلى مألوف البشر . ولكن أية غرابة فيها حين تقاس إلى خلق آدم أبي البشر ؟ وأهل الكتاب الذين كانوا يناظرون ويجادلون حول عيسى - بسبب مولده - ويصوغون حوله الأوهام والأساطير بسبب أنه نشأ من غير أب . . أهل الكتاب هؤلاء كانوا يقرون بنشأة آدم من التراب . وأن النفخة من روح الله هي التي جعلت منه هذا الكائن الإنساني . . دون أن يصوغوا حول آدم الأساطير التي صاغوها حول عيسى . ودون أن يقولوا عن آدم : إن له طبيعة لاهوتية . على حين أن العنصر الذي به صار آدم إنسانا هو ذاته العنصر الذي به ولد عيسى من غير أب : عنصر النفخة الإلهية في هذا وذاك ! وإن هي إلا الكلمة : ( كن )تنشىء ما تراد له النشأة( فيكون ) !
وهكذا تتجلى بساطة هذه الحقيقة . . حقيقة عيسى ، وحقيقة آدم ، وحقيقة الخلق كله . وتدخل إلى النفس في يسر وفي وضوح ، حتى ليعجب الإنسان : كيف ثار الجدل حول هذا الحادث ، وهو جار وفق السنة الكبرى . سنة الخلق والنشأة جميعا !
وهذه هي طريقة " الذكر الحكيم " في مخاطبة الفطرة بالمنطق الفطري الواقعي البسيط ، في اعقد القضايا ، التي تبدو بعد هذا الخطاب وهي اليسر الميسور !
وذكر ابن عباس وقتادة وعكرمة والسدي وغيرهم ، قالوا سبب نزول قوله تعالى : { إن مثل عيسى } الآية أن وفد نصارى نجران جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا بلغنا أنك تشتم صاحبنا وتقول هو عبد ، فقال النبي عليه السلام ، وما يضر ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فقالوا فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ وخرجوا من عند النبي فأنزل الله عليه هذه الآية{[3209]} . قوله تعالى { إن مثل } عبر عنه بعض الناس ، بأن صفة عيسى وقرنوا ذلك بقوله تعالى : { مثل الجنة }{[3210]} قالوا : معناه صفة الجنة .
قال الإمام أبو محمد : وهذا عندي ضعف في فهم معنى الكلام وإنما المعنى : «أن المثل » الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمتصور من آدم إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل ، وكذلك مثل الجنة عبارة عن المتصور منها ، وفي هذه الآية صحة القياس ، أي إذا تصوروا أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى عليه السلام والكاف في قوله : { كمثل } اسم على ما ذكرناه من المعنى وقوله { عند الله } عبارة عن الحق في نفسه ، أي هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ، وقوله : { خلقه من تراب } تفسير لمثل آدم ، الذي ينبغي أن يتصور ، والمثل والمثال بمعنى واحد ، ولا يجوز أن يكون { خلقه } صلة لآدم ولا حالاً منه ، قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها بل هو كلام مقطوع منه ، مضمنه تفسير المثل ، قوله عز وجل : { ثم قال } ترتيب للأخبار لمحمد عليه السلام ، المعنى خلقه من تراب ثم كان من أمره في الأزل أن قال له { كن } وقت كذا ، وعلى مذهب أبي علي الفارسي ، في أن القول مجازي ، مثل } وقال قطني{ {[3211]} ، وأن هذه الآية عبارة عن التكوين ، ف { ثم } على بابها في ترتيب الأمرين المذكورين ، وقراءة الجمهور «فيكونُ » ، بالرفع على معنى فهو يكون ، وقرأ ابن عامر «فيكونَ » بالنصب ، وهي قراءة ضعيفة الوجه ، وقد تقدم توجيهها آنفاً في مخاطبة مريم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.