البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه » فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت .

وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله ! فنزلت .

وروى وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : « كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد » قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه .

فأنزل { إن مَثَل عيسى } وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً }

وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال .

وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : { مثل الجنة } وفي هذا إقرار الكاف في قوله : { كمثل آدم } على معناها التشبيهي .

وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل .

وكذلك { مثل الجنة } عبارة عن المتصوّر منها .

وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى .

والكاف في { كمثل آدم } اسم على ما ذكرناه من المعنى .

انتهى كلامه .

ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال .

أو بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه .

على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه .

والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . انتهى .

ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه .

قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره .

وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة .

وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال .

وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان .

وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات .

والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب .

وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا .

وفي العبودية ، وفي النبوّة .

وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله .

وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله .

وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال :

{ إني عبد الله } وفي العلم ، قال : { وعلم آدم الاسماء } وقال : { ويعلمه الكتاب والحكمة } وفي نفخ الروح فيهما { ونفخت فيه من روحي } { فنفخنا فيه من روحنا } وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو .

أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه .

والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقر واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له .

قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له .

قالوا : كان يحيي الموتى .

قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف .

فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص .

قال : فجرجيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . انتهى .

وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره .

وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ الله عليه بصره .

{ خلقه من تراب } هي من تسمية الشيء باسم أصله .

كقوله { الله الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة } كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم .

كما قال : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } وقال تعالى : { إني خالق بشراً من طين } وقال : { قال أأسجد لمن خلقت طيناً }

والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب .

وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه .

قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه .

قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل .

انتهى كلامه .

وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين { ثم قال له كن } أي أنشأه بشراً ، قاله الزمخشري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم .

قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء .

لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : { ثم قال له كن } لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى { ثم قال له كن } عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار .

فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره .

قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر .

و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك .

وقال الراغب : ومعنى : كن .

بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروح .

وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . انتهى .

والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي .