{ إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم } قال ابن عباس ، وعكرمة ، وقتادة ، والسدي وغيرهم : جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى ، وقالوا : بلغنا أنك تشتم صاحبنا ، وتقول : هو ، عبد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « وما يضرّ ذلك عيسى ، أجل هو عبد الله ، وكلمته ألقاها إلى مريم ، وروح منه » فقالوا : فهل رأيت بشراً قط جاء من غير فحل أو سمعت به ؟ فخرجوا ، فنزلت .
وفي بعض الروايات أنهم قالوا : فإن كنت صدقاً فأرنا مثله ! فنزلت .
وروى وكيع عن مبارك عن الحسن قال : جاء راهباً نجران فعرض عليهما الإسلام فقال أحدهما : قد أسلمنا قبلك ، فقال : « كذبتما ، يمنعكما من الإسلام ثلاث : عبادتكما الصليب ، وأكلكما الخنزير ، وقولكما لله ولد » قالا : من أبو عيسى ؟ وكان لا يعجل حتى يأمره ربه .
فأنزل { إن مَثَل عيسى } وتقدم الكلام في تفسير نحو هذا التركيب في قولهم : { مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً }
وقال الزمخشري : إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدم ، فجعل المثل بمعنى الشأن والحال .
وهو راجع لقول من قال : المثل هنا الصفة : كقوله : { مثل الجنة } وفي هذا إقرار الكاف في قوله : { كمثل آدم } على معناها التشبيهي .
وقال ابن عطية : في قول من قال إن المثل هنا بمعنى الصفة ما نصه : وهذا عندي خطأ وضعف في فهم الكلام ، وإنما المعنى : أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول ، من عيسى فهو كالمتصور من آدم ، إذ الناس كلهم مجمعون على أن الله تعالى خلقه من تراب من غير فحل .
وكذلك { مثل الجنة } عبارة عن المتصوّر منها .
وفي هذه الآية صحة القياس أي إذا تصور أمر آدم قيس عليه جواز أمر عيسى .
والكاف في { كمثل آدم } اسم على ما ذكرناه من المعنى .
ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا ، وكلام من جعل المثل بمعنى الشأن والحال .
أو بمعنى الصفة ، وفي ( ري الظمآن ) قيل : المثل بمعنى الصفة ، وقولك صفة عيسى كصفة آدم كلام مطرد ، على هذا جل اللغويين والمفسرين ، وخالف أبو علي الفارسي الجميع ، وقال : المثل بمعنى الصفة لا يمكن تصحيحه في اللغة ، إنما المثل الشبه .
على هذا تدور تصاريف الكلمة ، ولا معنى للوصفية في التشابه .
والمثل كلمة يرسلها قائلها لحكمة يشبه بها الأمور ، ويقابل بها الأحوال . انتهى .
ومن جعل المثل هنا مرادفاً للمثل ، كالشبه : والشبه .
قال : جمع بين أداتي تشبيه على طريق التأكيد للشبه ، والتنبيه على عظم خطره وقدره .
وقال بعض هؤلاء : الكاف زائدة .
وقال بعضهم : مثل زائدة ، وجعل بعضهم المثل هنا من ضرب الأمثال .
وقال : العرب تضرب الأمثال لبيان ما خفي معناه ودق إيضاحه ، لما خفي سر ولادة عيسى من غير أب ، لأنه خالف المعروف ، ضرب الله المثل بآدم الذي استقرّ في الأذهان .
وعلم أنه أوجد من غير أب ولا أمّ ، كذلك خلق عيسى بلا أب ، ولا بد من مشاركة معنوية بين من ضرب به المثل ، وبين من ضرب له المثل ، من وجه واحد ، أو من وجوه لا يشترط الإشتراك في سائر الصفات .
والمعنى الذي وقعت فيه المشاركة بين آدم وعيسى كون كل واحد منهما خلق من غير أب .
وقال بعض أهل العلم : المشاركة بين آدم وعيسى في خمسة عشر وصفاً : في التكوين ، و : في الخلق من العناصر التي ركب الله منها الدنيا .
وفي المحنة : عيسى باليهود ، وآدم بابليس ، وفي : أكلهما الطعام والشراب ، وفي الفقر إلى الله .
وفي الصورة ، وفي الرفع إلى السماء والإنزال منها إلى الأرض ، وفي الإلهام ، عطس آدم فألهم ، فقال الحمد لله .
وألهم عيسى ، حين أخرج من بطن أمّة فقال :
{ إني عبد الله } وفي العلم ، قال : { وعلم آدم الاسماء } وقال : { ويعلمه الكتاب والحكمة } وفي نفخ الروح فيهما { ونفخت فيه من روحي } { فنفخنا فيه من روحنا } وفي الموت ، وفي فقد الأب ، ومعنى : عند الله أي عند من يعرف حقيقة الأمر ، وكيف هو .
أي : هكذا هو الأمر فيما غاب عنكم ولم تطلعوا على كنهه .
والعامل في : عند ، العامل في : كاف التشبيه ، وهذا التشبيه هو من أحد الطرفين كما تقدّم ، وهو الوجود من غير أب وهما نظيران في أن كلاًّ منهما أوجده الله خارجاً عما استقر واستمرّ في العادة من خلق الإنسان متولداً من ذكر وأنثى ، كما قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } والوجود من غير أب وأمّ أغرب في العادة من وجود من غير أب ، فشبه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأحسم لمادة شبهته إذا نظر فيما هو أغرب مما استغربه ، وأسر بعض العلماء بالروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا : لأنه لا أب له .
قال : فآدم أولى لأنه لا أبوين له .
قال : فخرقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل ثمانية آلاف .
فقالوا : كان يبريء الأكمه والأبرص .
قال : فجرجيس أولى لأنه طحن وأحرق ، ثم قام سالماً . انتهى .
وصح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ردّ عين قتادة بعد ما قلعت ، وردّ الله نورها ، وصح أن أعمى دعا له فردّ الله له بصره .
وفي حديث الشاب الذي أتي به ليتعلم من سحر الساحر ، فترك الساحر ودخل في دين عيسى وتعبد به ، فصار يبرىء الأكمه والأبرص ، وفيه انه دعا لجليس الملك وابن عمه ، وكان أعمى ، فردّ الله عليه بصره .
{ خلقه من تراب } هي من تسمية الشيء باسم أصله .
كقوله { الله الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة } كان تراباً ثم صار طيناً وخلق منه آدم .
كما قال : { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين } وقال تعالى : { إني خالق بشراً من طين } وقال : { قال أأسجد لمن خلقت طيناً }
والضمير المنصوب في : خلقه ، عائد على آدم ، وهذه الجملة تفسيرية لمثل آدم ، فلا موضع لها من الإعراب .
وقيل : هي في موضع الحال ، وقدر مع خلقه مقدرة ، والعامل فيها معنى التشبيه .
قال ابن عطية : ولا يجوز أن يكون خلقه صفة لآدم ولا حالاً منه .
قال الزجاج : إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيها ، بل هو كلام مقطوع منه مضمنه تفسير المثل .
وفيه نظر ، والمعنى : قدره جسداً من طين { ثم قال له كن } أي أنشأه بشراً ، قاله الزمخشري ، وسبقه إلى معناه أبو مسلم .
قلنا : ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء .
لا بمعنى التقدير ، لم يأت بقوله : { ثم قال له كن } لأن ما خلق لا يقال له : كن ، ولا ينشأ إلاَّ إن كان معنى { ثم قال له كن } عبارة عن نفخ الروح فيه ، وقاله عبد الجبار .
فيمكن أن يكون خلقه بمعنى أنشأه لا بمعنى قدّره .
قيل : أو يكون : كن ، عبارة عن كونه لحماً ودماً ، وقوله : فيكون ، حكاية حال ماضية ولا قول هناك حقيقة ، وإنما ذلك على سبيل التمثيل ، وكناية عن سرعة الخلق والتمكن من ايجاد ما يريد تعالى إيجاده ، إذ المعدوم لا يمكن أن يؤمر .
و : ثم ، قيل لترتيب الخبر ، لأن قوله : كن ، لم يتأخر عن خلقه ، وإنما هو في المعنى تفسير للخلق ، ويجوز أن يكون للترتيب الزماني أي : أنشأه أولاً من طين ، ثم بعد زمان أوجد فيه الروح أي صيره لحماً ودماً على من قال ذلك .
بعد : خلقه من تراب : كن إنساناً حياً ناطقاً ، وهو لم يكن كذلك ، بل كان دهراً ملقىً لا روح فيه ، ثم جعل له الروح .
وقوله : كن عبارة عن إيجاد الصورة التي صار بها الإنسان إنساناً . انتهى .
والضمير في : له ، عائد على آدم وأبعد من زعم أنه عائد على عيسى ، وأبعد من هذا قول من زعم أنه يجوز أن يعود على كل مخلوق خلق بكن ، وهو قول الحوفي .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.