فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

( إن مثل عيسى عند الله ) أي شأنه الغريب ، والجملة مستأنفة لا تعلق لها بما قبلها تعلقا صناعيا بل تعلقا معنويا ، وزعم بعضهم أنها جواب قسم ، وذلك القسم هو قوله ( والذكر الحكيم ) فالواو حرف جر لا حرف عطف وهذا بعيد أو ممتنع إذ فيه تفكيك لنظم القرآن وإذهاب لرونقه وفصاحته .

( كمثل آدم ) في الخلق والإنشاء تشبيه عيسى بآدم في كونه مخلوقا بغير أب كآدم ولا يقدح في التشبيه اشتمال المشبه به على زيادة وهو كونه لا أم له كما أنه لا أب له ، فذلك أمر خارج عن الأمر المراد بالتشبيه وإن كان المشبه به أشد غرابة من المشبه وأعظم عجبا وأغرب أسلوبا ، وعبارة الكرخي هو تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم وأوقع في النفس ، وبه قال السيوطي .

( خلقه من تراب ) جملة مفسرة لما أبهم في المثل وخبر مستأنف على جهة التفسير لحال خلق آدم أي أن آدم لم يكن له أب ولا أم بل خلقه الله من تراب ، وقدره جسدا من طين ، وفي ذلك دفع لإنكار من أنكر خلق عيسى من غير أب مع اعترافه بأن آدم خلق من غير أب وأم .

( ثم قال له كن ) بشرا أي أنشأه خلقا بالكلمة ، وكذلك عيسى أنشأه خلقا بالكلمة وقيل الضمير يرجع إلى عيسى ( فيكون ) أي فكان بشرا ، أريد بالمستقبل الماضي أي حكاية حال ماضية .

عن ابن عباس أن رهطا من أهل نجران قدموا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان فيهم السيد والعاقب فقالوا ما شأنك تذكر صاحبنا . قال من هو ؟ قالوا عيسى تزعم أنه عبد الله ، قالوا فهل رأيت مثل عيسى وأنبئت به ، فخرجوا من عنده ، فجاء جبريل فقال قل لهم إذا أتوك ( إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ) الآية{[328]} .

وقد رويت هذه القصة على وجوه عن جماعة من الصحابة والتابعين ، وأصلها عند البخاري ومسلم ، وحكي أن بعض العلماء أسر في بعض بلاد الروم فقال لهم لم تعبدون عيسى ؟ قالوا لأنه لا أب له ، قال فآدم أولى لأنه لا أب له ولا أم ، قالوا وكان يحيي الموتى فقال حزقيل أولى لأن عيسى أحيا أربعة نفر ، وأحيا حزقيل أربعة آلاف ، قالوا وكان يبرئ الأكمه والأبرص ، قال فجرجيس أولى لأنه طبخ وأحرق ثم قام سليما .


[328]:ابن كثير 1/368.