نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَۖ خَلَقَهُۥ مِن تُرَابٖ ثُمَّ قَالَ لَهُۥ كُن فَيَكُونُ} (59)

ثم أكد ظلمهم وصور حكمته بمثل هذا الفرقان في أمر عيسى عليه الصلاة والسلام الكاشف لما في ذلك مما ألبس عليهم فقال : { إن مثل عيسى } أي في كونه من أنثى فقط { عند الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً في إخراجه من غير سبب حكمي عادي { كمثل آدم } في أن كلاًّ منهما أبدع من غير أب ، بل أمر آدم أعجب فإنه{[17460]} أوجده من غير أب ولا أم ، ولذلك فسر مثله بأنه { خلقه } أي {[17461]}قدره وصوره{[17462]} جسداً{[17463]} من غير جنس البشر ، بل { من تراب } {[17464]}فعلمنا أن تفسير مثل عيسى كونه خلقه من جنس البشر من أم{[17465]} فقط بغير أب ، فمثل عيسى أقل غرابة{[17466]} من هذه الجهة وإن كان أغرب من حيث إنهم لم يعهدوا مثله ، فلذلك كان مثل آدم مثلاً له موضحاً لأنه مع كونه أغرب أشهر{[17467]} ( وعبر بالتراب دون الماء والطين والحمأ وغيره كما في غير هذا الموطن ، لأن التراب أغلب{[17468]} أجزائه ولأن المقام لإظهار العجب ، وإبداع ما أسكنه أنواع الأنوار{[17469]} بالهداية والعلوم الباهرة من التراب الذي هو {[17470]}أكثف{[17471]} الأشياء أغرب كما أن تغليب ظلام الضلال على الشياطين من كونهم من عنصر نير{[17472]} أعجب ) .

ولما شبه المثل بالمثل علمنا أن مثل عيسى كل ولد نشاهده تولد{[17473]} من أنثى ، ومثل آدم كل حيوان نشاهده تولد{[17474]} من تراب ، وما شاهده بنو إسرائيل من خلق عيسى عليه الصلاة والسلام الطير{[17475]} من الطين فهذا المثل الذي هو كل ما تولد من أنثى مثل ذلك المثل الذي هو كل ما تولد{[17476]} من تراب في أن كلاًّ منهما لم يكن إلا بتكوين الله سبحانه وتعالى ، وإلا لكان كل جماع موجباً للولد وكل تراب موجباً لتولد الحيوان منه ، فلما كان أكثر الجماع لا يكون منه{[17477]} ولد علمنا أن الإيجاد بين الذكر والأنثى إنما هو{[17478]} بقدرة الله سبحانه وتعالى وإرادته{[17479]} ، ومن إرادته وقدرته كونه من ذكر وأنثى ، فلا فرق في ذلك بين أن يريد كونه من أنثى بتسبيب جماع من ذكر يخرق{[17480]} به عادة الجماع فيجعله موجباً للحبل{[17481]} وبين أن يريد كونه من أنثى فقط فيخرق به عادة ما نشاهده الآن{[17482]} من التوليد بين الذكر والأنثى ، كما أنا لما{[17483]} علمنا أنه ليس كل تراب يكون منه حيوان علمنا قطعاً أن هذا المتولد من تراب إنما هو بإرادة القادر واختياره لا بشيء آخر ، وإلى ذلك أشار يحيى عليه الصلاة والسلام بقوله فيما سلف قريباً : إن الله قادر على أن يقيم من الحجارة أولاداً لإبراهيم ، أي لأنه سبحانه وتعالى هو الذي يخلق المسببات فلا فرق حينئذ بين مسبب{[17484]} وسبب ، بل كلها في قدرته سواء ، وإلى ذلك أشار قوله : { ثم قال له كن } أي بشراً كاملاً روحاً وجسداً ، وعبر بصيغة المضارع المقترن بالفاء في

{ فيكون * } دون الماضي وإن كان المتبادر إلى الذهب أن المعنى عليه حكاية للحال وتصويراً لها إشارة إلى أنه كان مع{[17485]} الأمر من غير تخلف وتنبيهاً على أن هذا هو الشأن دائماً ، يتجدد{[17486]} مع كل مراد ، لا يتخلف عن مراد{[17487]} الآمر أصلاً - كما تقدم التصريح به في آية إذا قضى أمراً{[17488]} }[ البقرة : 117 ] وذلك أغرب مما كان سبب ضلال النصارى الذين{[17489]} يجادل عن معتقدهم وفد نجران ، قال سبحانه وتعالى ذلك إشارة إلى أنهم ظلموا في القياس ، وكان العدل أن يقاس في خرقه للعادة بأبي أمه{[17490]} الذي كان يعلم الأسماء كلها وسجد له الملائكة ، لا بخالقه{[17491]} و{[17492]}مكونه تعالى عما{[17493]} يقول الظالمون علواً كبيراً .

قال الحرالي : جعل سبحانه وتعالى آدم عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه{[17494]} السلالة الطينية ، وغايته النفخة الأمرية{[17495]} ، وكان عيسى عليه الصلاة والسلام مثلاً مبدؤه الروحية والكلمة{[17496]} ، وغايته التكمل بملابسة{[17497]} السلالة الطينية ، حتى قال صلى الله عليه وسلم : إنه عند نزوله في خاتمة اليوم المحمدي يتزوج امرأة{[17498]} من بني أسد ويولد له غلام لتكمل{[17499]} به{[17500]} الآدمية في العيسوية كما كملت العيسوية في الآدمية وليكون مثلاً واحداً أعلى جامعاً { وله المثل الأعلى في السماوات والأرض{[17501]} }[ الروم : 27 ] - انتهى .


[17460]:سقط من ظ.
[17461]:في ظ: قدرة وصورة.
[17462]:في ظ: قدرة وصورة.
[17463]:من ظ ومد، وفي الأصل: حسيدا.
[17464]:العبارة من هنا إلى "أغرب أشهر" تأخرت في ظ عن "نير أعجب".
[17465]:من مد وظ، وفي الأصل: آدم.
[17466]:زيد من ظ: جهة.
[17467]:زيد في ظ: أي بشرا كاملا روحا جسدا، وسيأتي بعد قوله تعالى "ثم قال له كن".
[17468]:في مد: أغلى.
[17469]:في ظ: الابرار.
[17470]:سقط من مد.
[17471]:من ظ، وفي الأصل ومد: اكتف ـ كذا النون.
[17472]:زيد في ظ: من.
[17473]:في ظ: يولد.
[17474]:زيد من ظ ومد.
[17475]:زيد من ظ ومد.
[17476]:زيد من ظ ومد.
[17477]:زيد من ظ ومد.
[17478]:في ظ ومد: بإرادة الله وقدرته.
[17479]:في ظ ومد، بإرادة الله وقدرته.
[17480]:في ظ: بحرق.
[17481]:من ظ ومد، وفي الأصل: للحل.
[17482]:في ظ: إلا ـ كذا.
[17483]:سقط من ظ.
[17484]:في ظ: إلا ـ كذا.
[17485]:سقط من ظ.
[17486]:في مد: سبب ـ كذا.
[17487]:في ظ: يتجدد.
[17488]:من ظ، وفي الأصل وظ: حال.
[17489]:سورة 2 آية 117.
[17490]:في ظ: الذي.
[17491]:من ظ ومد، وفي الأصل: أنه.
[17492]:من ظ، وفي الأصل: لا يخالفه، وفي مد: لا لحالقه.
[17493]:في ظ: ولا. من ظ ومد، وفي الأصل: مما.
[17494]:في ظ: مبداة.
[17495]:في ظ: الامر به ـ كذا.
[17496]:تكرر في الأصل.
[17497]:تكرر في الأصل.
[17498]:تكرر في الأصل.
[17499]:من مد، وفي الأصل وظ: امرأته.
[17500]:في ظ: ليكمل.
[17501]:سورة 30 آية 27.