قوله تعالى :{ إذ تمشي أختك } واسمها مريم متعرفةً خبره { فتقول هل أدلكم على من يكفله } يعني : على امرأة ترضعه وتضمه إليها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة ، فلما قالت ذلك لهم أخته قالوا : نعم ، فجاءت بالأم ، فقبل ثديها فذلك قوله تعالى : { فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها } بلقائك { ولا تحزن } أي : لأن يذهب عنها الحزن { وقتلت نفساً } قال ابن عباس رضي الله عنهما : كان قتل قبطياً كافراً . قال كعب الأحبار : كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة { فنجيناك من الغم } أي : من غم القتل وكربه { وفتناك فتوناً } قال ابن عباس رضي الله عنه : اختبرناك اختباراً . وقال الضحاك ، ومقاتل : ابتليناك ابتلاءً . وقال مجاهد : أخلصناك إخلاصاً . وعن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير إن الفتون وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها أولها أن أمه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال ، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه ، ثم أخذه بلحية فرعون حتى هم بقتله ، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة ، ثم قتله القبطي وخروجه إلى مدين خائفاً . فكان ابن عباس يقص القصة على سعيد بن جبير فعلى هذا معنى فتناك : خلصناك من تلك المحن ، كما يفتن الذهب من النار ، فيخلص من كل خبث فيه ، والفتون : مصدر{ فلبثت } فمكثت . أي : فخرجت من أرض مصر إلى مدين فلبثت { سنين في أهل مدين } يعني : ترعى الأغنام عشر سنين ، ومدين : بلدة شعيب عليه السلام على ثمان مراحل من مصر هرب إليها موسى . وقال وهب : لبث عند شعيب عليه السلام ثمانياً وعشرين سنة . عشر سنين منها مهر زوجته صفوراء بنت شعيب وثمان عشرة سنة أقام عنده حتى ولد له { ثم جئت على قدر يا موسى } قال مقاتل : على موعد ولم يكن هذا الموعد مع موسى ، وإنما كان موعداً في تقدير الله ، قال محمد بن كعب : جئت على القدر الذي قدرت أنك تجيء إلي فيه . وقال عبد الرحمن بن كيسان : على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء ، وهذا معنى قول أكثر المفسرين أي : على الموعد الذي وعده الله وقدره أنه يوحي إليه بالرسالة ، وهو أربعون سنة .
فجاءت أخت موسى ، فقالت لهم : { هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون }
{ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا } وهو القبطي لما دخل المدينة وقت غفلة من أهلها ، وجد رجلين يقتتلان ، واحد من شيعة موسى ، والآخر من عدوه قبطي { فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فوكزه موسى فقضى عليه } فدعا الله وسأله المغفرة ، فغفر له ، ثم فر هاربا لما سمع أن الملأ طلبوه ، يريدون قتله .
فنجاه الله من الغم من عقوبة الذنب ، ومن القتل ، { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } أي : اختبرناك ، وبلوناك ، فوجدناك مستقيما في أحوالك أو نقلناك في أحوالك ، وأطوارك ، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه ، { فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ } حين فر هاربا من فرعون وملئه ، حين أرادوا قتله ، فتوجه إلى مدين ، ووصل إليها ، وتزوج هناك ، ومكث عشر سنين ، أو ثمان سنين ، { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } أي : جئت مجيئا قد مضى به القدر ، وعلمه الله وأراده في هذا الوقت وهذا الزمان وهذا المكان ، ليس مجيئك اتفاقا من غير قصد ولا تدبير منا ، وهذا يدل على كمال اعتناء الله بكليمه موسى عليه السلام ، ولهذا قال : { وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي } .
ولم أحطك في قصر فرعون ، بالرعاية والحماية وأدع أمك في بيتها للقلق والخوف . بل جمعتك بها وجمعتها بك :
( إذ تمشي أختك فتقول : هل أدلكم على من يكفله ? فرجعناك إلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن ) . .
وكان ذلك من تدبير الله إذ جعل الطفل لا يقبل ثدي المرضعات . وفرعون وزوجه وقد تبنيا الطفل الذي ألقاه اليم بالساحل - مما لا يفصله السياق كما يفصله في موضع آخر - يبحثان له عن مرضع . فيتسامع الناس وتروح أخت موسى بإيحاء من أمها تقول لهم : هل أدلكم على من يكفله ? وتجيء لهم بأمه فيلقم ثديها . وهكذا يتم تدبير الله للطفل وأمه التي سمعت الإلهام فقذفت بفلذة كبدها في التابوت ، وقذفت بالتابوت في اليم ، فألقاه اليم بالساحل . ليأخذه عدو لله وله ، فيكون الأمن بإلقائه بين هذه المخاوف ، وتكون النجاة من فرعون الذي كان يذبح أطفال بني إسرائيل . بإلقائه بين يدي فرعون بلا حارس ولا معين !
ومنة أخرى : ( وقتلت نفسا فنجيناك من الغم ، وفتناك فتونا فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى . واصطنعتك لنفسي ) . .
ذلك حين كبر وشب في قصر فرعون ، ثم نزل المدينة يوما فوجد فيها رجلين يقتتلان أحدهما إسرائيلي والآخر مصري ، فاستعانه الإسرائيلي فوكز المصري بيده فخر صريعا . ولم يكن ينوي قتله إنما كان ينوي دفعه . فامتلأت نفسه بالغم على هذه الفعلة - وهو المصنوع على عين الله منذ نشأته ؛ وتحرج ضميره وتأثم من اندفاعه . . فربه يذكره هنا بنعمته عليه ، إذ هداه إلى الاستغفار فشرح صدره بهذا ونجاه من الغم . ولم يتركه مع هذا بلا ابتلاء ليربيه ويعده لما أراد ؛ فامتحنه بالخوف والهرب من القصاص ? وامتحنه بالغربة ومفارقة الأهل والوطن ؛ وامتحنه بالخدمة ورعي الغنم ، وهو الذي تربى في قصر أعظم ملوك الأرض ، وأكثرهم نزفا ومتاعا وزينة . .
وفي الوقت المقدر . عندما نضج واستعد ، وابتلى فثبت وصبر ؛ وامتحن فجاز الامتحان . وتهيأت الظروف كذلك والأحوال في مصر ، وبلغ العذاب ببني إسرائيل مداه . .
في ذلك الوقت المقدر في علم الله جيء بموسى من أرض مدين ، وهو يظن أنه هو جاء : ( فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى ) .
وقوله : { إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون ، عرضوا عليه المراضع ، فأباها ، قال الله عز وجل : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ } فجات أخته وقالت{[19272]} { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [ القصص : 12 ] . تعني{[19273]} هل أدلكم على من ترضعه{[19274]} لكم بالأجرة ؟ فذهبت به وهم معها إلى أمه ، فعرضت عليه ثديها ، فقبله ، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا ، واستأجروها على إرضاعه فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا وفي الآخرة{[19275]} أغنم وأجزل ؛ ولهذا جاء في الحديث : " مثل الصانع الذي يحتسب{[19276]} في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ، ترضع ولدها وتأخذ أجرها " {[19277]} .
وقال تعالى هاهنا : { فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ } أي : عليك ، { وَقَتَلْتَ نَفْسًا } يعني : القبطي ، { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ } وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله{[19278]} ففر منهم هاربًا ، حتى ورد ماء مدين ، وقال له ذلك الرجل الصالح : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 25 ] .
وقوله : { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } قال الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي ، رحمه الله ، في كتاب التفسير من سننه ، قوله : { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } :
حدثنا عبد الله بن محمد ، حدثنا يزيد بن هارون ، أنبأنا أصبغ بن زيد ، حدثنا القاسم بن أبي أيوب ، أخبرني سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله ، عز وجل ، لموسى ، عليه السلام : { وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا } فسألته عن الفتون ما هو ؟ فقال : استأنف النهار يا بن جبير ، فإن لها حديثًا طويلا . فلما أصبحت غدوت إلى{[19279]} ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم ، عليه السلام{[19280]} أن يجعل في ذريته أنبياء وملوكًا ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك ، ما{[19281]} يشكون فيه وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم ، فقال فرعون : فكيف ترون ؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالا معهم الشفار ، يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولودًا ذكرًا إلا ذبحوه . ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : يوشك أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي{[19282]} كانوا يكفونكم ، فاقتلوا عامًا كل مولود ذكر ، فيقل أبناؤهم{[19283]} ودعوا عامًا فلا تقتلوا منهم أحدًا ، فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ؛ فإنهم لن يكثروا{[19284]} بمن تستحيون منهم فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك .
فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة . فلما كان من قابل حملت بموسى ، عليه السلام ، فوقع في قلبها الهَمّ والحزن ، وذلك من الفتون - يا بن جبير - ما دخل عليه في بطن أمه ، مما يراد به ، فأوحى الله [ جل ذكره ]{[19285]} إليها أن { لا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 7 ] فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه{[19286]} في اليم . فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنُها أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت با بني ، لو ذبح عندي فواريته وكفنته ، كان أحب إليّ من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه .
فانتهى الماء به حتى أوفى به عند فُرْضَة مستقى جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه فهممن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن{[19287]} إن في هذا مالا وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدناه فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئًا حتى رفعنه{[19288]} إليها . فلما فتحته رأت فيه غلامًا ، فألقى عليه منها{[19289]} محبة لم يلق منها على أحد قط . وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا من ذكر كل شيء ، إلا من ذكر موسى .
فلما سمع الذباحون بأمره ، أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا بن جبير ، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل حتى آتى فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم .
فأتت فرعون فقالت : { قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ } [ القصص : 9 ] فقال فرعون : يكون لك ، فأما لي فلا حاجة لي فيه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي يُحْلَف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له{[19290]} كما أقرت امرأته ، لهداه الله كما هداها ، ولكن{[19291]} حرمه ذلك " . فأرسلت إلى من حولها ، إلى كل امرأة لها لبن لتختار له ظئرًا ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك ، فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ، ترجو أن تجد له ظئرًا تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت أم موسى والهًا ، فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكرًا ، أحيّ ابني أم قد أكلته الدواب ؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون - والجُنُب : أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد{[19292]} وهو إلى جنبه{[19293]} وهو لا يشعر به - فقالت من الفرح حين أعياهم الظُّؤُرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون . فأخذوها فقالوا : ما يدريك ؟ ما نصحهم له ؟ هل يعرفونه{[19294]} ؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا بن جبير . فقالت : نصحهم{[19295]} له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظؤرة الملك ، ورجاء منفعة الملك . فأرسلوها فانطلقت إلى أمها{[19296]} فأخبرتها الخبر . فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها فمصَّه ، حتى امتلأ جنباه ريًا ، وانطلق البشراء إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابنك ظئرًا . فأرسلت إليها . فأتت بها وبه فلما رأت ما يصنع بها قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئًا حبه قط . قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيتي وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهب به إلى بيتي ، فيكون معي لا آلوه خيرًا [ فعلت ، وإلا ]{[19297]} فإني غير تاركة بيتي وولدي . وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز وعده{[19298]} فرجعت به إلى بيتها من يومها ، [ وأنبته ]{[19299]} الله نباتا حسنا وحفظه{[19300]} لما قد قضى فيه .
فلم يزل بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ، ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم ، فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أتريني{[19301]} ابني ؟ فَوَعَدَتْها يومًا{[19302]} تريها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظُؤُرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلا استقبل ابني اليوم بهدية وكرامة لأرى ذلك{[19303]} وأنا باعثة أمينا يحصي{[19304]} ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والنحل والكرامة{[19305]} تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها نحلته{[19306]} وأكرمته ، وفرحت به ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون فَلَيَنْحَلَنَّهُ{[19307]} وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون يمدها{[19308]} إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه ، إنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه . وذلك من الفتون يا بن جبير بعد كل بلاء ابتلي به ، وأريد به{[19309]} .
فجاءت امرأة فرعون فقالت{[19310]} ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي ؟ فقال{[19311]} ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ! فقالت : اجعل بيني وبينك أمرًا يعرف فيه الحق ، ائت بجمرتين ولؤلؤتين ، فَقَرِّبْهُنَّ إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين{[19312]} واجتنب الجمرتين فاعرف{[19313]} أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين ، علمت أن أحدا لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين وهو يعقل . فقرب إليه فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى ؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد همّ به ، وكان الله بالغا فيه أمره .
فلما بلغ أشده وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة ، حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى ، عليه السلام ، يمشي في ناحية المدينة ، إذا{[19314]} هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فغضب موسى غضبًا شديدًا ؛ لأنه تناوله وهو يعلم منزلته{[19315]} من بني إسرائيل وحفظه لهم ، لا يعلم الناس إلا أنما ذلك من الرضاع ، إلا أم موسى ، إلا أن يكون الله [ سبحانه ]{[19316]} أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره . فوكز{[19317]} موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلا الله عز وجل والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : { هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ } [ القصص : 15 ] . ثم قَالَ { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [ القصص : 16 ] فأصبح في المدينة خائفًا يترقب الأخبار ، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلا من آل فرعون فخذ لنا بحقنا{[19318]} ولا ترخص لهم . فقال : ابغوني قاتله ، ومن يشهد عليه ، فإن الملك وإن كان صَغْوه مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم . فبينما هم يطوفون ولا{[19319]} يجدون ثبتًا ، إذا بموسى{[19320]} من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلا من آل فرعون آخر . فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني ، فصادف موسى قد ندم على ما كان منه وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال : للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبان كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني فخاف أن يكون بعد ما قال له : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ } [ القصص : 18 ] أن يكون إياه أراد ، ولم يكن أراده ، وإنما أراد الفرعوني . فخاف الإسرائيلي وقال : { يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ } [ القصص : 19 ] وإنما قاله{[19321]} مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله ، فتتاركا ، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر حين يقول : { أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ } فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم يطلبون موسى ، وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقا حتى سبقهم إلى موسى ، فأخبره{[19322]} وذلك من الفتون يا بن جبير .
فخرج موسى متوجهًا نحو مدين ، لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلا حسن ظنه بربه عز وجل ، فإنه قال : { عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَان } [ القصص : 22 ، 23 ] .
يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس ؟ قالتا{[19323]} ليس لنا قوة نزاحم القوم ، إنما ننتظر فضول حياضهم . فسقى لهما ، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيرا ، حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا{[19324]} بغنمهما إلى أبيهما ، وانصرف موسى ، عليه السلام ، فاستظل بشجرة ، وقال : { رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] . واستنكر أبوهما سرعة صدورهما بغنمهما حُفَّلا بطانًا فقال : إن لكما اليوم لشأنا ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه قال : { لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } [ القصص : 25 ] . ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : { يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأمِينُ } [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته ؟ وما أمانته ؟ فقالت : أما قوته ، فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلا قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إليّ حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه ، حتى بلغته رسالتك . ثم قال لي : امشي خلفي ، وانعتي لي الطريق . فلم يفعل هذا إلا وهو أمين ، فسرى عن أبيها وصدقها ، وظن به الذي قالت .
فقال له : هل لك { أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } [ القصص : 27 ] ففعل فكانت على نبي الله موسى ثماني سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة منه ، فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرًا .
قال سعيد - وهو ابن جبير - : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم قال : هل تدري أيّ الأجلين قضى موسى ؟ قلت : لا . وأنا يومئذ لا أدري . فلقيت ابن عباس ، فذكرت له ذلك ، فقال : أما علمت أن ثمانيًا كانت على نبي الله واجبة ، لم يكن لنبي الله أن ينقص{[19325]} منها شيئًا ، ويعلم أن الله كان قاضيًا عن موسى عدته التي وعده فإنه قضى عشر سنين . فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك . قلت : أجل ، وأولى .
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى{[19326]} ما يتخوف من آل فرعون في القتيل وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ، يكون له ردءًا ، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه . فآتاه الله سؤله ، وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه . فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون ، عليهما{[19327]} السلام . فانطلقا جميعًا إلى فرعون ، فأقاما على بابه حينًا لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا { إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ } [ طه : 47 ] . قال : فمن ربكما ؟ فأخبره بالذي قص الله عليك في القرآن ؟ قال : فما تريدان ؟ وذكره القتيل ، فاعتذر بما قد سمعت . قال : أريد أن تؤمن بالله ، وترسل معي بنى إسرائيل ؟ فأبى عليه وقال : { فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ } [ الشعراء : 154 ] . فألقى عصاه [ فإذا هي ]{[19328]} حية تسعى عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون . فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها ، فاقتحم عن سريره واستغاث بموسى أن يكفها عنه . ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء - يعني من غير برص - ثم ردها فعادت إلى لونها الأول . فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا{[19329]} له : هذان ساحران { يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى } [ طه : 63 ] يعني : ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئًا مما طلب ، وقالوا له : اجمع السحرة{[19330]} فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما . فأرسل إلى{[19331]} المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر ؟ قالوا : يعمل بالحيات . قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل . فما أجرنا إن نحن غلبنا ؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة ، وأن يحشر الناس ضحى .
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة ، هو يوم عاشوراء .
فلما اجتمعوا في صعيد واحد قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر ، { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ } [ الشعراء : 40 ] يعنون موسى وهارون استهزاء بهما ، فقالوا : يا موسى - لقُدْرتهم بسحرهم - { إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ } [ الأعراف : 115 ] { قَالَ بَلْ أَلْقُوا } [ طه : 66 ] { فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ } [ الاشعراء : 44 ] فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعبانًا عظيمة فاغرة فاها ، فجعلت العصي تلتبس بالحبال حتى صارت جَزرًا إلى الثعبان ، تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبالا{[19332]} إلا ابتلعته ، فلما عرفت{[19333]} السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحرًا لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكنه أمر من الله عز وجل ، آمنا بالله{[19334]} وبما جاء به موسى ، ونتوب إلى الله مما كنا عليه . فكسر الله ظهر فرعون في ذلك{[19335]} الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون { فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] وامرأة فرعون بارزة متبذلة{[19336]} تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها إنما ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه ، وإنما كان حزنها وهمها لموسى .
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا ؟ . فأرسل الله على قومه الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ، ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك أخلف موعده ، ونكث عهده .
حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلا فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر : إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التق على من بقي بعد من فرعون وأشياعه . فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف ، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصيًا لله .
فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربك ، فإنه لم يكذب ولم تكذب . قال وعدني{[19337]} أن إذا أتيت البحر انفرق اثنتي عشرة فرقة ، حتى أجاوزه . ثم ذكر بعد ذلك العصا فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعد موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ، ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر ، فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف ألا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه . فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه .
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم : { قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 138 ، 139 ] . قد رأيتم من العِبَر وسمعتم ما يكفيكم ومضى . فأنزلهم موسى منزلا وقال{[19338]} أطيعوا هارون ، فإني قد استخلفته عليكم ، فإني ذاهب إلى ربي . وأجلهم ثلاثين يومًا أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه في ثلاثين يومًا وقد صامهن ، ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئًا فمضغه ، فقال له ربه حين أتاه : لم أفطرت ؟ وهو أعلم بالذي كان ، قال : يا رب ، إني كرهت أن أكلمك إلا وفمي طيب الريح . قال : أوما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب من ريح المسك ، ارجع فصم عشرًا ثم ائتني . ففعل موسى ، عليه السلام ، ما أمر{[19339]} به ، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم في الأجل ، ساءهم ذلك . وكان هارون قد خطبهم وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ، ولقوم فرعون عندكم عواري وودائع ، ولكم فيهم مثل ذلك وأنا{[19340]} أرى أنكم تحتسبون{[19341]} ما لكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ، ولسنا برادين إليهم شيئًا{[19342]} من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا ، فحفر حفيرا ، وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقه ، فقال{[19343]} لا يكون لنا ولا لهم .
وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا ، فقضي له أن رأى أثرًا فقبض{[19344]} منه قبضة ، فمر بهارون ، فقال له هارون ، عليه السلام : يا سامري ، ألا تلقي ما في يدك ؟ وهو قابض عليه ، لا يراه أحد طوال ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد . فألقاها ، ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلا . فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلا أجوف . ليس فيه روح ، وله خوار .
قال ابن عباس : لا والله ، ما كان له صوت قط ، إنما كانت الريح تدخل في{[19345]} دبره وتخرج من فيه ، فكان ذلك الصوت من ذلك .
فتفرق بنو إسرائيل فرقًا ، فقالت فرقة : يا سامري ما هذا ؟ وأنت أعلم به . قال : هذا ربكم ولكن موسى أضل الطريق . وقالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه ، وإن لم يكن ربنا فإنا نتبع قول موسى . وقالت فرقة : هذا عمل الشيطان ، وليس بربنا ولا نؤمن به ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم هارون : { يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ } [ طه : 90 ] . قالوا{[19346]} فما بال موسى وعدنا ثلاثين يومًا ثم أخلفنا ، هذه أربعون يومًا قد مضت ؟ وقال{[19347]} سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه ويتبعه .
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، { فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا } [ طه : 86 ] فقال لهم ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره ، واستغفر له وانصرف{[19348]} إلى السامري فقال له : ما حملك على ما صنعت ؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول ، وفطنت لها{[19349]} وعميت عليكم فقذفتها { وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا } [ طه : 96 ، 97 ] ولو كان إلها لم يخلص إلى ذلك منه . فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالوا لجماعتهم : يا موسى ، سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا . فاختار موسى قومه سبعين رجلا لذلك ، لا يألو الخير ، خيار بني إسرائيل ، ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض ، فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل فقال : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا } [ الأعراف : 155 ] وفيهم من كان اطلع الله منه{[19350]} على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيل } [ الأعراف : 156 ، 157 ] . فقال : يا رب ، سألتك التوبة لقومي ، فقلت : إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة ؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم{[19351]} من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ، ولا{[19352]} يبالي من قتل في ذلك الموطن ، وتاب أولئك الذين كان خفي على موسى وهارون واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها ، وفعلوا ما أمروا ، وغفر الله للقاتل والمقتول .
ثم سار بهم موسى ، عليه السلام{[19353]} متوجها نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف ، فثقل ذلك عليهم ، وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل ، والكتاب بأيديهم ، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم . ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خَلْقُهُم خَلْق منكر - وذكروا من ثمارهم أمرًا عجيبًا من عظمها - فقالوا : يا موسى إن فيها قومًا جبارين ، لا طاقة لنا بهم ، ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون . قال رجلان من الذين يُخَافُون - قيل ليزيد : هكذا قرأه ؟ قال : نعم من الجبارين ، آمنا بموسى ، وخرجا إليه ، فقالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم ، فإنهم لا قلوب لهم ولا مَنَعَة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون - ويقول أناس : إنهم{[19354]} من قوم موسى . فقال الذين يخافون ، بنو إسرائيل : { [ قَالُوا ] {[19355]} يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] فأغضبوا موسى ، فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك ، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم{[19356]} فاسقين ، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض ، يصبحون كل يوم فيسيرون ، ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المنّ والسلوى ، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم{[19357]} حجرًا مربعًا ، وأمر موسى فضربه بعصاه . فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا ، في كل ناحية ثلاث{[19358]} أعين ، وأعلم كل سِبْط عينهم{[19359]} التي يشربون منها ، فلا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس .
رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وصَدَّقَ ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث{[19360]} هذا الحديث ، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل ، فقال : كيف يُفْشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك ؟ . فغضب ابن عباس ، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري ، فقال له : يا أبا إسحاق ، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون ؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني ؟ قال : إنما أفشى عليه الفرعوني ، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره .
هكذا رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى ، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما{[19361]} كلهم من حديث يزيد بن هارون به{[19362]} وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه ، وكأنه تلقاه ابن عباس ، رضي الله عنه{[19363]} مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره ، والله أعلم . وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا .
يقول تعالى مخاطبًا لموسى ، عليه السلام : إنه لبث مقيمًا في أهل " مدين " فارًا من فرعون وملئه ، يرعى على صهره ، حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ، ثم جاء موافقًا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد ، والأمر كله لله{[19364]} تبارك وتعالى ، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ؛ ولهذا قال : { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا [ مُوسَى ] }{[19365]} قال مجاهد : أي على موعد .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عن قتادة في قوله : { ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى } قال : على قدر الرسالة والنبوّة .
{ إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله فجعناك غلى أمك كي تقر عينها ولا تحزن }
وأخت موسى : مريم ابنة عمران . وفي التّوراة : أنّها كانت نبيئة كما في الإصحاح الخامس عشر من سفر الخروج . وتوفيت مريم سنة ثلاث من خروج بني إسرائيل من مصر في برية صِين كما في الإصحاح التاسع عشر من سفر العدد . وذلك سنة 1417 قبل المسيح .
وقرأه الجمهور بكسر اللام على أنها لام كي وبنصب فعل تُصنَعَ . وقرأه أبو جعفر بسكون اللاّم على أنها لام الأمر وبجزم الفعل على أنّه أمر تكويني ، أي وقلنا : لتصنع .
وقوله على عيني } ( على ) منه للاستعلاء المجازي ، أي المصاحبة المتمكنة ، فعلى هنا بمعنى باء المصاحبة قال تعالى : { فإنك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
والعَين : مجاز في المراعاة والمراقبة كقوله تعالى : { واصنع الفلك بأعيننا } [ هود : 37 ] ، وقول النابغة :
عهدتك ترعاني بعينٍ بصيرة *** وتبعثُ حُراساً عليّ وناظِرا
وقع اختصار في حكاية قصة مشي أخته ، وفصّلت في سورة القصص .
والاستفهام في { هَلْ أدُلُكُمْ } للعَرْض . وأرادت ب { مَن يَكْفُلُهُ } أمّه . فلذلك قال { فرجعناك إلى أُمِّكَ } .
وهذه منّة عليه لإكمال نمائه ، وعلى أمّه بنجاته فلم تفارق ابنها إلاّ ساعات قلائل ، أكرمها الله بسبب ابنها .
وعطفُ نفي الحزن على قرّة العين لتوزيع المنّة ، لأنّ قرّة عينها برجوعه إليها . وانتفاءَ حزنها بتحقق سلامته من الهلاك ومن الغرق وبوصوله إلى أحسن مأوى . وتقديم قرّة العين على انتفاء الحزن مع أنها أخص فيغني ذكرها عن ذكر انتفاء الحزن ؛ روعي فيه مناسبة تعقيب { فرجعناك إلى أُمِّكَ } بما فيه من الحكمة ، ثم أكمل بذكر الحكمة في مشي أخته فتقول : { هل أدلكم على من يكفله في بيتها ، وكذلك كان شأن المراضع ذوات الأزواج كما جاء في حديث حليمة ، وكذلك ثبت في التّوراة في سفر الخروج .
{ وَقَتَلْتَ نَفْساً فنجيناك مِنَ الغم وفتناك فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى }
جملة { وقَتَلْتَ } عطف على جملة { ولقد منّنا عليك مرة أخرى } لأنّ المذكور في جملة { وقتلت نفساً } منّة أخرى ثالثة .
وقدم ذكر قتله النفس على ذكر الإنجاء من الغم لتعظيم المنّة ، حيث افتتحت القصّة بذكر جناية عظيمة التبعة ، وهي قتل النّفس ليكون لقوله { فنجيناك } موقع عظيم من المنّة ، إذ أنجاه من عقوبة لا ينجو من مثلها مثلُه .
وهذه النفس هي نفس القبطيّ من قوم فرعون الذي اختصم مع رجل من بني إسرائيل في المدينة فاستغاث الإسرائيلي بموسى لينصره فوكز موسى القبطيّ فقضى عليه كما قصّ ذلك في سورة القصص .
والغمّ : الحزن . والمعنيّ به ما خامر موسى من خوف الاقتصاص منه ، لأنّ فرعون لما بلغه الخبر أضمر الاقتصاص من موسى للقبطي إذ كان القبط سادة الإسرائيليين ، فليس اعتداء إسرائيلي على قبطي بهيّن بينهم . ويظهر أنّ فرعون الذي تبنى موسى كان قد هلك قبل ذلك .
والفُتون : مصدر فَتن ، كالخُروج ، والثُبور ، والشُكور ، وهو مفعول مطلق لتأكيد عامله وهو { فتنّاك } ، وتنكيرهُ للتعظيم ، أي فتوناً قويّاً عظيماً .
والفتون كالفتنة : هو اضطراب حال المرء في مدّة من حياته . وتقدّم عند قوله تعالى : { والفتنة أشدّ من القتل } في سورة البقرة ( 191 ) . ويظهر أن الفتون أصل مصدر فتن بمعنى اختبر ، فيكون في الشرّ وفي الخير . وأما الفتنة فلعلّها خاصة باختبار المضرّ . ويظهر أن التنوين في فتوناً للتقليل ، وتكون جملة { وفتناك فُتُوناً } كالاستدراك على قوله { فنجيناك مِنَ الغَمّ } ، أي نجيناك وحصل لك خوف ، كقوله { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب } [ القصص : 18 ] فذلك الفتون .
والمراد بهذا الفتون خوف موسى من عقاب فرعون وخروجه من البلد المذكور في قوله تعالى : { فأصبح في المدينة خائفاً يترقب إلى قوله : { وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إنّ الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين فخرج منها خائفاً يترقّب قال رب نجنّي من القوم الظالمين } [ القصص : 18 21 ] .
وذكر الفتون بين تعداد المن إدماج للإعلام بأن الله لم يهمل دم القبطيّ الذي قتله موسى ، فإنه نفس معصومة الدم إذ لم يحصل ما يوجب قتله لأنّهم لم تَرِد إليهم دعوة إلهية حينئذ . فحين أنجى الله موسى من المؤاخذة بدمه في شرع فرعون ابتلَى موسى بالخوف والغربة عتاباً له على إقدامه على قتل النفس ، كما قال في الآية الأخرى : { قال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين قال رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له } [ القصص : 15 16 ] . وعباد الله الذين أراد بهم خيراً ورعاهم بعنايته يجعل لهم من كلّ حالة كمالاً يكسبونه ، ويُسمى مثل ذلك بالابتلاء ، فكان من فتون موسى بقضيّة القبطيّ أن قدر له الخروج إلى أرض مدين ليكتسب رياضة نفس وتهيئةَ ضمير لتحمّل المصاعب ، ويتلقّى التهذيب من صهره الرسول شعيب عليه السلام . ولهذا المعنى عقب ذكر الفتون بالتفريع في قوله { فَلِبثْتَ سِنينَ في أهلِ مَديَنَ ثمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يامُوسى } فبين له كيف كانت عاقبة الفتون .
أو يكون الفتون مشتركاً بين محمود العاقبة وضدّه مثل الابتلاء في قوله : { وبلوناهم بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] ، أي واختبرناك اختباراً ، والاختبار : تمثيل لحال تكليفه بأمر التبليغ بحال من يختبر ، ولهذا اختير هنا دون الفتنة .
وأهل مدين : قوم شعيب . ومَدْيَن : اسم أحد أبناء إبراهيم عليه السلام سكنت ذريته في مواطن تسمى الأيْكة على شاطىء البحر الأحمر جنوب عقبة أيلة ، وغلب اسم القبيلة على الأرض وصار علماً للمكان فمن ثمّ أضيف إليه ( أهل ) . وقد تقدم في سورة الأعراف .
ومعنى { جئتَ } حضرتَ لدينا ، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي .
و ( على ) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن ؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه .
والقدَر : تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة ، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل ، قال النّابغة :
فريع قلبي وكانتْ نظرةً عرضت *** يوماً وتوفيق أقدار لأقدار
فقوله { ثم جئت على قدر يا موسى } يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً ، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله ، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير .
فهذا تقدير خاص ، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه .
وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات ، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام . وقد انتبَه إلى هذا المعنى جرير بذوقه السليم فقال في مدح عمر بن عبد العزيز :
أتى الخلافة إذْ كانت له قَدراً *** كما أتَى ربّه موسى على قَدَر
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ" يقول تعالى ذكره: حين تمشي أختك تتبعك حتى وجدتك، ثم تأتي من يطلب المراضع لك، فتقول: هل أدلكم على من يكلفه؟ وحذف من الكلام ما ذكرت بعد قوله "إذْ تَمْشِي أُخْتُكَ "استغناء بدلالة الكلام عليه...
عن ابن إسحاق، قال: قالت، يعني أمّ موسى لأخته: قصّيه فانظري ماذا يفعلون به، فخرجت في ذلك "فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ" وقد احتاج إلى الرضاع والتمس الثدي، وجمعوا له المراضع حين ألقى الله محبتهم عليه، فلا يؤتى بامرأة، فيقبل ثديها، فيرمضهم ذلك، فيؤتى بمرضع بعد مرضع، فلا يقبل شيئا منهم، فقالت لهم أخته حين رأت من وجدهم به وحرصهم عليه "هَلْ أدُلّكُمْ عَلى أهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لكُم وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ" أي لمنزلته عندكم وحرصكم على مسرّة الملك، وعنى بقوله: "هَلْ أدُلّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ" هل أدلكم على من يضمه إليه فيحفظه ويرضعه ويربيه...
وقوله: "فَرَجَعْناكَ إلى أُمّكَ كَيْ تَقَرّ عَيْنُها وَلا تَحْزَن" يقول تعالى ذكره: فرددناك إلى أمك بعد ما صرت في أيدي آل فرعون، كيما تقرّ عينها بسلامتك ونجاتك من القتل والغرق في اليم، وكيلا تحزن عليك من الخوف من فرعون عليك أن يقتلك... وقوله: "وَقَتَلْتَ نَفْسا" يعني جلّ ثناؤه بذلك: قتله القبطي الذي قتله حين استغاثه عليه الإسرائيلي، فوكزه موسى.
وقوله: "فَنَجّيْناكَ مِنَ الغَمّ" يقول تعالى ذكره: فنجيناك من غمك بقتلك النفس التي قتلت، إذ أرادوا أن يقتلوك بها فخلصناك منهم، حتى هربت إلى أهل مدين، فلم يصلوا إلى قتلك وقوَدك...
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله "وَفَتَنّاكَ فُتُونا"؛ فقال بعضهم: ابتليناك ابتلاء واختبرناك اختبارا... عن مجاهد، قوله: "فُتُونا" قال: بلاءً، إلقاؤه في التابوت، ثم في البحر، ثم التقاط آل فرعون إياه، ثم خروجه خائفا...
وقال آخرون: معنى ذلك: أخلصناك... عن مجاهد "وَفَتَنّاكَ فُتُونا" أخلصناك إخلاصا...
وقد بيّنا فيما مضى من كتابنا هذا معنى الفتنة، وأنها الابتلاء والاختبار بالأدلة المُغنية عن الإعادة في هذا الموضع.
وقوله: "فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أهْلِ مَدْيَنَ" وهذا الكلام قد حذف منه بعض ما به تمامه اكتفاء بدلالة ما ذكر عما حذف. ومعنى الكلام: وفتناك فتونا، فخرجت خائفا إلى أهل مدين، فلبثت سنين فيهم.
وقوله: "ثُمّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى" يقول جلّ ثناؤه: ثم جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون رسولاً ولمقداره... عن مجاهد، قال: "عَلى قَدَرٍ يا مُوسَى" قال: موعد.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وفتناك فتونا"... والمعنى إنا عاملناك معاملة المختبر حتى خلصت للاصطفاء بالرسالة...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
... البلاء على حَسَبِ قوة صاحبه وضعفه، فكلما كان المرء أقوى كان بلاؤه أوفى، وكلما كان أضعف كان بلاؤه أخف. وكانت أمُّ موسى ضعيفةً فَرَدَّ إليها وَلَدَها بعد أيام، وكان يعقوبُ أقوى في حاله فلم يُعِدْ إليه يوسفَ إلا بعد سنين طويلة...
{وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}: استخلصناكَ لنا حتى لا تكون لغيرنا...
{ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى}: أي عَدَدْنا أيامَ كونك في مدين شعيب، وكان أهل حضرتنا من الملائكة الذين عرفوا شرَفَكَ ومحبَّتَكَ منتظرين لك؛ فجئتَ على قَدَرٍ. ويقال إنَّ الأَجَل إذا جاء للأشياء فلا تأخيرَ فيه ولا تقديم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فُتُوناً}... أي فتناك ضروباً من الفتن...والفتنة: المحنة، وكل ما يشق على الإنسان وكل ما يبتلي الله به عباده فتنة...
{ثَمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ يا موسى} أي سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك وفي وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك القدر غير مستقدم ولا مستأخر.
الفتنة تشديد المحنة... ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب لا جرم عده الله تعالى من جملة النعم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم ذكر ظرف الصنع فقال: {إذ} أي حين {تمشي أختك} أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة {فتقول} بعد إذ رأتك، لآل فرعون: {هل أدلكم على من يكفله} أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة، ناصحاً له، فقالوا: نعم! فجاءت بأمك فقبلت ثديها {فرجعناك} أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك {إلى أمك} حين دلتهم عليها {كي تقر} أي تبرد وتسكن {عينها} وتربيك آمنة عليك غير خائفة، ظاهرة غير مستخفية {ولا تحزن} بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها الجهد في نفعك. {وقتلت نفساً} أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك {فنجيناك} بما لنا من العظمة {من الغم} الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من جريرته، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين {وفتناك فتوناً} أي خلصناك من محنة بعد محنة مرة بعد مرة، على أنه جمع فتن أو فتنة...
{فلبثت سنين} أي كثيرة {في أهل مدين} مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه، وصاهرته على ابنته {ثم جئت} أي الآن {على قدر} أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك، وهو بلوغ الأشد والاستواء، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر {يا موسى}.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {جئتَ} حضرتَ لدينا، وهو حضوره بالواد المقدّس لتلقي الوحي. و (على) للاستعلاء المجازي بمعنى التمكن؛ جعل مجيئه في الوقت الصالح للخير بمنزلة المستعلي على ذلك الوقت المتمكن منه. والقدَر: تقدير الشيء على مقدار مناسب لما يريد المقدّر بحيث لم يكن على سبيل المصادفة، فيكون غير ملائم أو في ملاءَمتِه خلَل...
فقوله {ثم جئت على قدر يا موسى} يفيد أنّ ما حصل لموسى من الأحوال كان مقدّراً من الله تقديراً مناسباً متدرجاً، بحيث تكون أعماله وأحواله قد قدّرها الله وحددها تحديداً منظماً لأجل اصطفائه وما أراد الله من إرساله، فالقدر هنا كناية عن العناية بتدبير إجراء أحواله على ما يسفر عن عاقبة الخير. فهذا تقدير خاص، وهو العناية بتدرج أحواله إلى أن بلغ الموضع الذي كلّمه الله منه. وليس المراد القَدر العام الذي قدّره الله لتكوين جميع الكائنات، فإن ذلك لا يُشعر بمزية لموسى عليه السلام.