قوله تعالى { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله } ، قال مجاهد : نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك . وقال الكلبي : نزلت في قريظة والنضير من اليهود ، فصالحهم وكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين . قال الله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ، فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ؟ قيل : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ، فإنهم إذا قالوا عزير ابن الله والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيمانا بالله .
قوله تعالى : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق } ، أي : لا يدينون الدين الحق ، أضاف الاسم إلى الصفة . وقال قتادة : الحق هو الله ، أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام . وقال أبو عبيدة : معناه لا يطيعون الله تعالى طاعة أهل الحق .
قوله تعالى : { من الذين أوتوا الكتاب } ، يعنى : اليهود والنصارى .
قوله تعالى : { حتى يعطوا الجزية } ، وهى الخراج المضروب على رقابهم ،
قوله تعالى : { عن يد } ، عن قهر وذل . قال أبو عبيدة : يقال لكل من أعطى شيئا كرها من غير طيب نفس : أعطاه عن يد . وقال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم . وقيل : عن يد أي : عن نقد لا نسيئة . وقيل : عن إقرار بإنعام المسلمين عليهم بقبول الجزية منهم ، " وهم صاغرون " ، أذلاء مقهورون . قال عكرمة : يعطون الجزية عن قيام ، والقابض جالس . وعن ابن عباس قال : تؤخذ منه ويوطأ عنقه . وقال الكلبي : إذا أعطى صفع في قفاه . وقيل : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته . وقيل : يلبب ويجر إلى موضع الإعطاء بعنف . وقيل : إعطاؤه إياها هو الصغار . وقال الشافعي رحمه الله : الصغار هو جريان أحكام الإسلام عليهم . واتفقت الأمة على جواز أخذ الجزية من أهل الكتابين ، وهم اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربا . واختلفوا في الكتابي العربي وفى غير أهل الكتاب من كفار العجم ، فذهب الشافعي : إلى أن الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذ من أهل الكتاب عربا كانوا أو عجما ، ولا تؤخذ من أهل الأوثان بحال ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من أكيدر دومة ، وهو رجل من العرب يقال : إنه من غسان ، وأخذ من أهل ذمة اليمن ، وعامتهم عرب . وذهب مالك والأوزاعي : إلى أنها تؤخذ من جميع الكفار إلا المرتد . وقال أبو حنيفة تؤخذ من أهل الكتاب على العموم ، وتؤخذ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العرب . وقال أبو يوسف : لا تؤخذ من العربي ، كتابيا كان أو مشركا ، وتؤخذ من العجمي كتابيا كان أو مشركا . وأما المجوس : فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على أخذ الجزية منهم .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا سفيان عن عمرو بن دينار سمع بجالة يقول : لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن جعفر بن محمد ، عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال : ما أدري كيف أصنع في أمرهم ؟ فقال عبد الرحمن بن عوف : أشهد لسمعت رسول الله صلى عليه وسلم يقول : سنوا بهم سنة أهل الكتاب . وفى امتناع عمر رضي الله عنه عن أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، دليل على أن رأي الصحابة كان على أنها لا تؤخذ من كل مشرك ، وإنما تؤخذ من أهل الكتاب . واختلفوا في أن المجوس : هل هم من أهل الكتاب أم لا ؟ فروي عن علي رضي الله عنه قال : كان لهم كتاب يدرسونه فأصبحوا ، وقد أسري على كتابهم ، فرفع من بين أظهرهم . واتفقوا على تحريم ذبائح المجوس ومناكحتهم بخلاف أهل الكتابين . أما من دخل في دين اليهود والنصارى من غيرهم من المشركين نظر : إن دخلوا فيه قبل النسخ والتبديل يقرون بالجزية ، وتحل مناكحتهم وذبائحهم ، وإن دخلوا في دينهم بعد النسخ بمجيء محمد صلى الله عليه وسلم لا يقرون بالجزية ، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم ، ومن شككنا في أمرهم أنهم دخلوا فيه بعد النسخ أو قبله : يقرون بالجزية تغليبا لحقن الدم ، ولا تحل مناكحتهم وذبائحهم تغليبا للتحريم ، فمنهم نصارى العرب من تنوخ وبهراء بني تغلب ، أقرهم عمر رضي الله عنه على الجزية ، وقال : لا تحل لنا ذبائحهم . وأما قدر الجزية : فأقله دينار ، لا يجوز أن ينقص منه ، ويقبل الدينار من الفقير والغني والوسط لما أخبرنا أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الضبي ، أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجراحي ، حدنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي ، حدنا أبو عيسى الترمذي ، حدنا محمود بن غيلان ، ثنا عبد الرزاق أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر " . فالنبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ من كل حالم ، أي بالغ دينار أو لم يفصل بين الغني والفقير والوسط ، وفيه دليل على أنها لا تجب على الصبيان وكذلك لا تجب على النسوان ، إنما تؤخذ من الأحرار العاقلين البالغين من الرجال . وذهب قوم إلى أنه على كل موسر أربعة دنانير ، وعلى كل متوسط ديناران ، وعلى كل فقير دينار ، وهو قول أصحاب الرأي .
{ 29 } { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ }
هذه الآية أمر بقتال الكفار من اليهود والنصارى من { الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ } إيمانا صحيحا يصدقونه بأفعالهم وأعمالهم . ولا يحرمون ما حرم الله ، فلا يتبعون شرعه في تحريم المحرمات ، { وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ } أي : لا يدينون بالدين الصحيح ، وإن زعموا أنهم على دين ، فإنه دين غير الحق ، لأنه إما بين دين مبدل ، وهو الذي لم يشرعه اللّه أصلا ، وإما دين منسوخ قد شرعه اللّه ، ثم غيره بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فيبقى التمسك به بعد النسخ غير جائز .
فأمره بقتال هؤلاء وحث على ذلك ، لأنهم يدعون إلى ما هم عليه ، ويحصل الضرر الكثير منهم للناس ، بسبب أنهم أهل كتاب .
وغيَّى ذلك القتال { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي : المال الذي يكون جزاء لترك المسلمين قتالهم ، وإقامتهم آمنين على أنفسهم وأموالهم ، بين أظهر المسلمين ، يؤخذ منهم كل عام ، كلٌّ على حسب حاله ، من غني وفقير ومتوسط ، كما فعل ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وغيره ، من أمراء المؤمنين .
وقوله : { عَنْ يَدٍ } أي : حتى يبذلوها{[367]} في حال ذلهم ، وعدم اقتدارهم ، ويعطونها بأيديهم ، فلا يرسلون بها خادما ولا غيره ، بل لا تقبل إلا من أيديهم ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ }
فإذا كانوا بهذه الحال ، وسألوا المسلمين أن يقروهم بالجزية ، وهم تحت أحكام المسلمين وقهرهم ، وحال الأمن من شرهم وفتنتهم ، واستسلموا للشروط التي أجراها عليهم المسلمون مما ينفي عزهم وتكبرهم ، ويوجب ذلهم وصغارهم ، وجب على الإمام أو نائبه أن يعقدها لهم .
وإلا بأن لم يفوا ، ولم يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ، لم يجز إقرارهم بالجزية ، بل يقاتلون حتى يسلموا .
واستدل بهذه الآية الجمهور الذين يقولون : لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، لأن اللّه لم يذكر أخذ الجزية إلا منهم .
وأما غيرهم فلم يذكر إلا قتالهم حتى يسلموا ، وألحق بأهل الكتاب في أخد الجزية وإقرارهم في ديار المسلمين ، المجوس ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، أخذ الجزية من مجوس هجر ، ثم أخذها أمير المؤمنين عمر من الفرس المجوس .
وقيل : إن الجزية تؤخذ من سائر الكفار من أهل الكتاب وغيرهم ، لأن هذه الآية نزلت بعد الفراغ من قتال العرب المشركين ، والشروع في قتال أهل الكتاب ونحوهم ، فيكون هذا القيد إخبارا بالواقع ، لا مفهوما له .
ويدل على هذا أن المجوس أخذت منهم الجزية وليسوا أهل كتاب ، ولأنه قد تواتر عن المسلمين من الصحابة ومن بعدهم أنهم يدعون من يقاتلونهم إلى إحدى ثلاث : إما الإسلام ، أو أداء الجزية ، أو السيف ، من غير فرق بين كِتَابِيٍّ وغيره .
إن هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } . . والذي يقول ببنوة عزير لله أو بنوة المسيح لله لا يمكن أن يقال عنه : إنه يؤمن بالله . وكذلك الذي يقول : إن الله هو المسيح ابن مريم . أو إن الله ثالث ثلاثة . أن إن الله تجسد في المسيح . . . إلى آخر التصورات الكنسية التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينها من خلاف ! .
والذين يقولون : إنهم لن يدخلوا النار إلا أياماً معدودات مهما ارتكبوا من آثام بسبب أنهم أبناء الله وأحباؤه وشعب الله المختار ، والذين يقولون : إن كل معصية تغفر بالاتحاد بالمسيح وتناول العشاء المقدس ؛ وأنه لا مغفرة إلا عن هذا الطريق ! هؤلاء وهؤلاء لا يقال : إنهم يؤمنون باليوم الآخر . .
وهذه الآية تصف أهل الكتاب هؤلاء بأنهم { لا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . وسواء كان المقصود بكلمة { رسوله } هو رسولهم الذي أرسل إليهم ، أو هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فالفحوى واحدة . ذلك أن الآيات التالية فسرت هذا بأنهم يأكلون أموال الناس بالباطل . وأكل أموال الناس بالباطل محرم في كل رسالة وعلى يد كل رسول . . وأقرب النماذج لأكل أموال الناس بالباطل هو المعاملات الربوية . وهو ما يأخذه رجال الكنيسة مقابل " صك الغفران " ! وهو الصد عن دين الله والوقوف في وجهه بالقوة وفتنة المؤمنين عن دينهم . وهو تعبيد العباد لغير الله وإخضاعهم لأحكام وشرائع لم ينزلها الله . . فهذا كله ينطبق عليه : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً يومذاك !
كذلك تصفهم الآية بأنهم { لا يدينون دين الحق } . . وهذا واضح مما سبق بيانه . فليس بدين الحق أي اعتقاد بربوبية أحد مع الله . كما أنه ليس بدين الحق التعامل بشريعة غير شريعة الله ، وتلقي الأحكام من غير الله ، والدينونة لسلطان غير سلطان الله . وهذا كله قائم في أهل الكتاب ، كما كان قائماً فيهم يومذاك . .
والشرط الذي يشترطه النص للكف عن قتالهم ليس أن يسلموا . . فلا إكراه في الدين . ولكن أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون . . فما حكمة هذا الشرط ، ولماذا كانت هذه هي الغاية التي ينتهي عندها القتال ؟
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً ؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم - وفق ما تصوره هذه الآيات - كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم ؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين ؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً ، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية ( وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً ! ) .
والإسلام - بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض - لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه ؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق ؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار ، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك .
وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية ، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه ، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق ؛ حتى تستسلم ؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً .
وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً ، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع . فإن لم يقتنع بقي على عقيدته ، وأعطى الجزية . لتحقيق عدة أهداف :
أولها : أن يعلن بإعطائها استسلامه وعدم مقاومته بالقوة المادية للدعوة إلى دين الله الحق .
وثانيها : أن يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الإسلام لأهل الذمة ( الذين يؤدون الجزية فيصبحون في ذمة المسلمين وضمانتهم ) ويدفع عنها من يريد الاعتداء عليها من الداخل أو من الخارج بالمجاهدين من المسلمين .
وثالثها : المساهمة في بيت مال المسلمين الذي يضمن الكفالة والإعاشة لكل عاجز عن العمل ، بما في ذلك أهل الذمة ، بلا تفرقة بينهم وبين المسلمين دافعي الزكاة .
ولا نحب أن نستطرد هنا إلى الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم . ولا عن مقادير هذه الجزية . ولا عن طرق ربطها ومواضع هذا الربط . . ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علىعهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .
إنها قضية تعتبر اليوم " تاريخية " وليست " واقعية " . . إن المسلمين اليوم لا يجاهدون ! . . ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون ! . . إن قضية " وجود " الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلى علاج !
والمنهج الإسلامي - كما قلنا من قبل مراراً - منهج واقعي جاد ؛ يأبى أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ؛ ويرفض أن يتحول إلى مباحث فقهية لا تطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعاً مسلماً تحكمه شريعة الله ، ويصرّف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ؛ ويسميهم " الأرأيتيين " الذين يقولون : " أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم ؟ " .
إن نقطة البدء الآن هي نقطة البدء في أول عهد الناس برسالة الإسلام . . أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون دين الحق ؛ فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ؛ ويطبقون هذا في واقع الحياة . . ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان . . ويومئذ - ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات . . ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في عالم النظريات !
وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي . وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلى المباحث الفقهية الفرعية احتراماً لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه على هذا الهزال !
فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم{[13367]} لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع الأنبياء [ الأقدمين ]{[13368]} بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا{[13369]} به ، وهو أشرف الرسل ، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وهذه الآية الكريمة [ نزلت ]{[13370]} أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت{[13371]} جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فَأَوْعَبوا معه ، واجتمع من المقاتلة{[13372]} نحو [ من ]{[13373]} ثلاثين ألفا ، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جَدْب ، ووقت قَيْظ وحر ، وخرج ، عليه السلام ، يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها{[13374]} قريبًا من عشرين يومًا ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله .
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشباههم كالمجوس لما{[13375]} صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر{[13376]} وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا{[13377]} من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب .
وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ ، ومجوسي ، ووثني ، وغير ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم .
وقوله : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي : إن لم يسلموا ، { عَنْ يَدٍ } أي : عن قهر لهم وغلبة ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " {[13378]}
ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية{[13379]} عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين صالح نصارى من أهل الشام :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا{[13380]} وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط{[13381]} المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا ، ولا نكتم غشًا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدًا ؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكُنَاهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زِينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا{[13382]} في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم .
قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدًا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الاَخِرِ وَلاَ يُحَرّمُونَ مَا حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتّىَ يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم : قاتِلُوا أيها المؤمنون القوم الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ يقول : ولا يصدّقون بجنة ولا نار ، وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ يقول : ولا يطيعون الله طاعة الحقّ ، يعني : أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وهم اليهود والنصارى ، وكل مطيع ملكا أو ذا سلطان ، فهو دائن له ، يقال منه : دان فلان لفلان فهو يدين له دينا ، قال زهير :
لَئِنْ حَلَلْتَ بِجَوَ فِي بَنِي أسَدٍ *** فِي دِينَ عَمْروٍ وَحالَتْ بيْنَنا فَدَكُ
وقوله : مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ يعني : الذين أعطوا كتاب الله ، وهم أهل التوراة والإنجيل . حتى يُعُطُوا الجِزْيَةَ والجزية : الفعلة من جَزَى فلان فلانا ما عليه : إذا قضاه ، يجزيه . والجزية مثل القِعْدة والجِلْسة .
ومعنى الكلام : حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها .
وأما قوله : عَنْ يَدٍ فإنه يعني : من يده إلى يد من يدفعه إليه ، وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرا له شيئا طائعا له أو كارها : أعطاه عن يده وعن يد وذلك نظير قولهم : كلمته فما لفم ولقيته كفة لكفة ، وكذلك أعطيته عن يد ليد .
وأما قوله : وَهُمْ صَاغِرُونَ فإن معناه : وهم أذلاء مقهورون ، يقال للذليل الحقير : صاغر . وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم ، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عروة ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : قاتِلُوا الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَاليَوْمِ الاَخِرِ وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
واختلف أهل التأويل في معنى الصغار الذي عناه الله في هذا الموضع ، فقال بعضهم : أن يعطيها وهو قائم والاَخذ جالس . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن سعد ، عن عكرمة : حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ قال : أي تأخذها وأنت جالس وهو قائم .
وقال آخرون : معنى قوله : حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها وهم كارهون ، وذلك قول رُوي عن ابن عباس من وجه فيه نظر .
الظاهر أن هذه الآية استيناف ابتدائي لا تتفرّع على التي قبلها ، فالكلام انتقال من غرض نبْذِ العهد مع المشركين وأحوال المعاملة بينهم وبين المسلمين إلى غرض المعاملة بين المسلمين وأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، إذ كان الفريقان مسالمين المسلمين في أول بدء الإسلام ، وكانوا يحسبون أنّ في مدافعة المشركين للمسلمين ما يكفيهم أمر التصدّي للطعن في الإسلام وتلاشي أمره فلمّا أخذ الإسلام ينتشر في بلاد العرب يوماً فيوماً ، واستقلّ أمره بالمدينة ، ابتدأ بعض اليهود يظهر إحَنَه نحو المسلمين ، فنشأ النفاق بالمدينة وظاهرت قُريظة والنضير أهل الأحزاب لما غزوا المدينة فأذهبهم الله عنها .
ثم لمّا اكتمل نصر الإسلام بفتح مكّة والطائف وعمومه بلاد العرب بمجيء وفودهم مسلمين ، وامتد إلى تخوم البلاد الشامية ، أوجست نصارى العرب خيفة من تطرّقه إليهم ، ولم تغمض عين دولة الروم حامية نصارى العرب عن تداني بلاد الإسلام من بلادهم ، فأخذوا يستعدّون لحرب المسلمين بواسطة ملوك غسّان سادة بلاد الشام في ملك الروم . ففي « صحيح البخاري » عن عمر بن الخطاب أنّه قال : « كان لي صاحب من الأنصار إذا غبتُ أتاني بالخبر وإذا غاب كنت أنا آتيه بالخبر ونحن نتخوّف مَلِكاً من ملوك غسّان ذُكر لنا أنّه يريد أن يسير إلينا وأنّهم يُنْعِلون الخيلَ لغزونا فإذا صاحبي الأنصاري يدُقّ الباب فقال : افتح افتح . فقلت : أجَاء الغسّاني . قال : بل أشَدُّ من ذلك اعتزل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه إلى آخر الحديث .
فلا جرم لمّا أمِن المسلمون بأس المشركين وأصبحوا في مأمن منهم ، أن يأخذوا الأهبة ليأمنوا بأس أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، فابتدأ ذلك بغزو خيبر وقريظة والنضير وقد هُزموا وكفَى الله المسلمين بأسَهم وأورثَهم أرضهم فلم يقع قتال معهم بعد ثم ثنّى بغزوة تبوك التي هي من مشارف الشام .
وعن مجاهد : أنّ هذه الآية نزلت في الأمر بغزوة تبوك فالمراد من الذين أوتوا الكتاب خصوص النصارى ، وهذا لا يلاقي ما تظافرت عليه الأخبار من أنّ السورة نزلت بعد تبوك .
و { مِن } بيانية وهي تُبَيِّن الموصولَ الذي قبلها .
وظاهر الآية أنّ القوم المأمور بقتالهم ثبتت لهم معاني الأفعال الثلاثة المتعاطفة في صلة الموصول ، وأنّ البيان الواقع بعد الصلة بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } راجع إلى الموصول باعتبار كونه صاحبَ تلك الصلات ، فيقتضي أنّ الفريق المأمور بقتاله فريق واحد ، انتفى عنهم الإيمانُ بالله واليوم الآخر ، وتحريمُ ما حرم الله ، والتديُّنُ بدين الحقّ . ولم يُعرف أهل الكتاب بأنّهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر . فاليهود والنصارى مثبتون لوجود الله تعالى ومؤمنون بيوم الجزاء .
وبهذا الاعتبار تحيّر المفسرون في تفسير هذه الآية فلذلك تأوّلوها بأنّ اليهود والنصارى ، وإن أثبتوا وجود الله واليوم الآخر ، فقد وصفوا الله بصفات تنافي الإلهية فكأنّهم ما آمنوا به ، إذْ أثبتَ اليهود الجسمية لله تعالى وقالوا : { يد الله مغلولة } [ المائدة : 64 ] . وقال كثير منهم : { عزيز ابن الله } [ التوبة : 30 ] .
وأثبت النصارى تعدّد الإله بالتثليث فقاربوا قول المشركين فهم أبعد من اليهود عن الإيمان الحقّ ، وأنّ قول الفريقين بإثبات اليوم الآخر قد ألصقوا به تخيّلات وأكذوبات تنافي حقيقة الجزاء : كقولهم : { لن تمسّنا النار إلا أياماً معدودة } [ البقرة : 80 ] فكأنّهم لم يؤمنوا باليوم الآخر . وتكلّف المفسّرون لدفع ما يرد على تأويلهم هذا من المنوّع وذلك مَبسوط في تفسير الفخر وكلّه تعسّفات .
والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين .
فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة { ولا يدينون دين الحق } .
وأمّا قوله : { الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } إلى قوله { ورسوله } فإدماج . فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى ، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أممِ المعروفِ من العالم يومئذٍ ، فقد كانت الروم نصارى ، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر ، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين ، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم .
ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول ، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام ، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات ، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية ، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى : { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً ، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً ، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } [ الفرقان : 63 68 ] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى ، والتعويل في مثل هذا على القرائن .
وقوله : { من الذين أوتوا الكتاب } بيان لأقرب صلة منه وهي صلة { ولا يدينون دين الحق } والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه . وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم ، وإنّما دانوا بما حرفوا منه ، ومَا أنكروا منه ، وما ألصقوا به ، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام ، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد { وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون } [ آل عمران : 81 83 ] .
وقوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } . بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل ، فيفيد قوله : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً . والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى : { ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث } [ الأعراف : 157 ] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك .
والمراد ( برسوله ) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم .
وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية .
و { حتّى } غاية للقتال ، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية .
وضمير { يعطوا } عائِد إلى { الذين أوتوا الكتاب } .
والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض ، بنيتْ على وزن اسم الهيئة ، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا ، فلذلك كان الظاهر . هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة ( كِزْيَت ) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي ، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في « مفردات القرآن » . ولم يذكروها في « مُعَرَّب القرآن » لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية .
وقوله : { عن يد } تأكيد لمعنى { يعطوا } للتنصيص على الإعطاء و { عن } فيه للمجاوزة . أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها ، ومحلّ المجرور الحال من الجزية . والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب « أعطى بيده » إذا انقاد .
وجملة { وهم صاغرون } حال من ضمير يعطوا .
والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً . إذا ذلّ ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى : { سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله } في سورة الأنعام ( 124 ) ، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد : والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي ، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام . وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم ، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب . وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب ، دون مشركي العرب : لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله : { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم } [ التوبة : 5 ] وقوله { فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم } [ التوبة : 11 ] وقوله { ويتوب الله على من يشاء } [ التوبة : 15 ] . ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم .