تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر}، يعنى الذين لا يصدقون بتوحيد الله، ولا بالبعث الذي فيه جزاء الأعمال، {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} يعني الخمر، ولحم الخنزير، وقد بين أمرهما في القرآن، {ولا يدينون دين الحق} الإسلام؛ لأن غير دين الإسلام باطل، {من الذين أوتوا الكتاب} يعني اليهود والنصارى، {حتى يعطوا الجزية عن يد} يعني عن أنفسهم، {وهم صاغرون} يعني مذلون إن أعطوا عفوا لم يؤجروا، وإن أخذوا منهم كرها لم يثابوا...
يحيى: قال مالك: مضت السنة أن لا جزية على نساء أهل الكتاب، ولا على صبيانهم. وأن الجزية لا تؤخذ إلا من الرجال الذين قد بلغوا الحلم. وليس على أهل الذمة، ولا على المجوس في نخيلهم، ولا كرومهم، ولا زروعهم، ولا مواشيهم صدقة، لأن الصدقة إنما وضعت على المسلمين تطهيرا لهم وردا على فقرائهم. ووضعت الجزية على أهل الكتاب صغارا لهم، فهم، ما كانوا ببلدهم الذين صالحوا عليه، ليس عليهم شيء سوى الجزية. في شيء من أموالهم إلا أن يتجروا في بلاد المسلمين ويختلفوا فيها. فيؤخذ منهم العشر فيما يديرون من التجارات. وذلك أنهم، إنما وضعت عليهم الجزية، وصالحوا عليها، على أن يقروا ببلادهم، ويقاتلوا عنهم عدوهم. فمن خرج منهم من بلاده إلى غيرها يتجر إليها، فعليه العشر. يحيى: عن مالك، أنه بلغه أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عماله: أن يضعوا الجزية عمن أسلم من أهل الجزية حين يسلمون. ابن كثير: قال مالك: يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابي ومجوسي ووثني وغير ذلك.
... فكان بينا في الآية -والله تعالى أعلم- أن الذين فرض الله عز وجل قتالهم حتى يعطوا الجزية الذين قامت عليهم الحجة بالبلوغ، فتركوا دين الله عز وجل، وأقاموا على ما وجدوا عليه آباءهم من أهل الكتاب. وكان بينا أن الذين أمر الله بقتالهم الذين فيهم القتال وهم الرجال البالغون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: قاتِلُوا أيها المؤمنون القوم "الّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ باللّهِ وَلا بالْيَوْمِ الاَخِرِ "يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار، "وَلا يُحَرّمُونَ ما حَرّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينونَ دِينَ الحَقّ" يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقّ، يعني: أنهم لا يطيعون طاعة أهل الإسلام "مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ" وهم اليهود والنصارى، وكل مطيع ملكا أو ذا سلطان، فهو دائن له...
وقوله: "مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ" يعني: الذين أعطوا كتاب الله، وهم أهل التوراة والإنجيل. "حتى يُعُطُوا الجِزْيَةَ" والجزية: الفعلة من جَزَى فلان فلانا ما عليه: إذا قضاه، يجزيه. والجزية مثل القِعْدة والجِلْسة.
ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها.
وأما قوله: "عَنْ يَدٍ" فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه، وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرا له شيئا طائعا له أو كارها: أعطاه عن يده وعن يد...
وأما قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون، يقال للذليل الحقير: صاغر. وذُكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك...
واختلف أهل التأويل في معنى الصغار الذي عناه الله في هذا الموضع؛ فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائم والاَخذ جالس...
وقال آخرون: معنى قوله: "حتى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" عن أنفسهم بأيديهم يمشون بها وهم كارهون، وذلك قول رُوي عن ابن عباس من وجه فيه نظر.
وقال آخرون: إعطاؤهم إياها هو الصغار.
أخبر تعالى عن أهل الكتاب أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر مع إظهارهم الإيمان بالنشور والبعث؛ وذلك يحتمل وجوهاً، أحدها: أن يكون مراده لا يؤمنون باليوم الآخر على الوجه الذي يجري حكم الله فيه من تخليد أهل الكتاب في النار وتخليد المؤمنين في الجنة، فلما كانوا غير مؤمنين بذلك أطلق القول فيهم بأنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ومراده حكم يوم الآخر وقضاؤه فيه، كما تقوله: أهل الكتاب غير مؤمنين بالنبي، والمراد بنبوة النبيّ صلى الله عليه وسلم. وقيل فيه إنه أطلق ذلك فيهم على طريق الذمّ لأنهم بمنزلة من لا يقر به في عظم الجرم،كما أنهم بمنزلة المشركين في عبادة الله تعالى بكفرهم الذي اعتقدوه...
ودين اليهود والنصارى غير دين الحق؛ لأنهم غير منقادين لأمر الله ولا طائعين له لجحودهم نبوَّة نبينا صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: فهم يدينون بدين التوراة والإنجيل ويعترفون به منقادين له. قيل له: في التوراة والإنجيل ذِكْرُ نبينا وأمْرُنا بالإيمان واتّباع شرائعه، وهم غير عاملين بذلك بل تاركون له، فهم غير متبعين دين الحق.وأيضاً فإن شريعة التوراة والإنجيل قد نُسخت والعملُ بها بعد النسخ ضلالٌ فليس هو إذاً دين الحق. وأيضاً فهم قد غيّروا المعاني وحرَّفوها عن مواضعها وأزالوها إلى ما تهواه أنفسهم دون ما أوجبته عليهم كتب الله تعالى، فهم غير دائنين دين الحق...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أمر من الله تعالى لنبيه وللمؤمنين بأن يقاتلوا الذين لا يعترفون بتوحيد الله، ولا يقرون باليوم الآخر والبعث والنشور. وذلك يدل على صحة مذهبنا في اليهود والنصارى وأمثالهم أنه لا يجوز أن يكونوا عارفين بالله وإن أقروا بذلك بلسانهم. وإنما يجوز أن يكونوا معتقدين لذلك اعتقادا ليس بعلم. والآية صريحة بأن هؤلاء الذين هم أهل الكتاب الذين تؤخذ منهم الجزية لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنه يجب قتالهم "حتى يعطوا الجزية عن يد".
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{ولا يدينون دين الحق} لا يتدينون بدين الإسلام {حتى يعطوا الجزية} وهي ما يعطي المعاهد على عهده {عن يد} يعطونها بأيديهم يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانا ولا يرسلون بها
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيان للذين مع ما في حيزه. نفى عنهم الإيمان بالله لأنّ اليهود مثنية والنصارى مثلثة. وإيمانهم باليوم الآخر لأنهم فيه على خلاف ما يجب وتحريم ما حرّم الله ورسوله؛ لأنهم لا يحرمون ما حرم في الكتاب والسنة. وعن أبي روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، وأن يدينوا دين الحق، وأن يعتقدوا دين الإسلام الذي هو الحق وما سواه الباطل...
... سميت جزية؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه، أو لأنّهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل {عَن يَدٍ} إما أن يراد يد المعطي أو الآخذ فمعناه على إرادة يد المعطي حتى يعطوها عن يد: أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة لأنّ من أبى وامتنع لم يعط يده، بخلاف المطيع المنقاد، ولذلك قالوا: أعطى بيده. إذا انقاد وأصحب. ألا ترى إلى قولهم: نزع يده عن الطاعة، كما يقال: خلع ربقة الطاعة عن عنقه، أو حتى يعطوها عن يد إلى يد نقداً غير نسيئة، لا مبعوثاً على يد أحد. ولكن عن يد المعطي إلى يد الأخذ، وأما على إرادة يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية، أو عن إنعام عليهم. لأنّ قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم {وَهُمْ صاغرون} أي تؤخذ منهم على الصغار والذل...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه الآيات تضمنت قتال أهل الكتاب من اليهود والنصارى حتى يقتلوا أو يؤدوا الجزية، قال مجاهد: وعند نزول هذه الآية أخذ رسول الله صلة الله عليه وسلم في غزو الروم ومشى نحو تبوك، ومن جعل أهل الكتاب مشركين في هذه الآية عنده ناسخة بما فيها من أخذ الجزية لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} ونفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر من حيث تركوا شرع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله عز وجل من تخيلات واعتقادات لا معنى لها، إذ تلقوها من غير طريقها، وأيضاً فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة لأنهم تشعبوا وقالوا: عزيز ابن الله والله ثالث ثلاثة وغير ذلك، ولهم أيضاً في البعث آراء كشراء منازل الجنة من الرهبان، وقول اليهود في النار نكون فيها أياماً بعد ونحو ذلك، وأما قوله {لا يحرمون ما حرم الله ورسوله} فبين، ونص على مخالفتهم لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأما قوله {ولا يدينون} فمعناه ولا يطيعون ويمتثلون، ومنه قول عائشة: ما عقلت أبوي إلا وهما يدينان الدين، والدين في اللغة لفظة مشتركة وهي هاهنا الشريعة، وهي مثل قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام}، وأما قوله {من الذين أوتوا الكتاب} فنص في بني إسرائيل وفي الروم وأجمع الناس في ذلك، وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم ...
وقوله تعالى: {عن يد} يحتمل تأويلات، منها أن يريد سوق الذمي لها بيده لا مع رسول ليكون في ذلك إذلال له، ومنها أن يريد عن نعمة منكم قبلهم في قبولها منهم وتأمينهم، واليد في اللغة النعمة والصنع الجميل، ومنها أن يريد عن قوة منكم عليهم وقهر لا تبقى لهم معه راية ولا معقل، و «اليد» في كلام العرب القوة، يقال: فلان ذو يد ويقال ليس لي بكذا وكذا يد أي قوة، ومنها أن يريد أن ينقذوها ولا يؤخروا بها كما تقول بعته يداً بيد، ومنها أن يريد عن استسلام منهم وانقياد على نحو قولهم ألقى فلان بيده إذا عجز واستسلم، وقوله {وهو صاغرون} لفظ يعم وجوهاً لا تنحصر لكثرتها ذكر منها عن عكرمة أن يكون قابضها جالساً والدافع من أهل الذمة قائم، وهذا ونحوه داع إلى صغارهم.
اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة، وجبت مقاتلتهم أو أن يعطوا الجزية.
فالصفة الأولى: أنهم لا يؤمنون بالله. واعلم أن القوم يقولون: نحن نؤمن بالله، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة.
والصفة الثانية: من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر. واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى: إنكار البعث الجسماني، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني...الصفة الثالثة: من صفاتهم قوله تعالى: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} وفيه وجهان:
الأول: أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول.
والثاني: قال أبو روق: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم.
الصفة الرابعة: قوله: {ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب} أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل، ولا بما جاءوا به، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه، لا لأنه شرع الله ودينه؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد، صلوات الله عليه، لأن جميع الأنبياء [الأقدمين] بشروا به، وأمروا باتباعه، فلما جاء وكفروا به، وهو أشرف الرسل، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله، بل لحظوظهم وأهوائهم، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم؛ ولهذا قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} وهذه الآية الكريمة [نزلت] أول الأمر بقتال أهل الكتاب، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما استقامت جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك، وأظهره لهم، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم، فَأَوْعَبوا معه، واجتمع من المقاتلة نحو [من] ثلاثين ألفا، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم، وكان ذلك في عام جَدْب، ووقت قَيْظ وحر، وخرج، عليه السلام، يريد الشام لقتال الروم، فبلغ تبوك، فنزل بها وأقام على مائها قريبًا من عشرين يومًا، ثم استخار الله في الرجوع، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله.
وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب، أو من أشباههم كالمجوس لما صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر وهذا مذهب الشافعي، وأحمد -في المشهور عنه- وقال أبو حنيفة، رحمه الله: بل تؤخذ من جميع الأعاجم، سواء كانوا من أهل الكتاب أو من المشركين، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب...
... وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} أي: إن لم يسلموا، {عَنْ يَدٍ} أي: عن قهر لهم وغلبة، {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: ذليلون حقيرون مهانون...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
واعلم أن هذه الآية في قتال أهل الكتاب، وما قبلها في قتال مشركي العرب ليس أول ما نزل في التشريع الحربي، وإنما هو في غايته. وأما أول ما نزل في ذلك فقد بينا مراراً أنه آيات سورة الحج {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج:39] الخ ثم قوله تعالى من سورة البقرة {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا} [البقرة: 190] الآيات وفي تفسيرها ما اختاره شيخنا من أن القتال الواجب في الإسلام إنما شرع للدفاع عن الحق وأهله وحماية الدعوة ونشرها، ولذلك اشترط فيه أن يقدم عليه الدعوة إلى الإسلام، وقال: إن غزوات النبي صلى الله عليه وسلم كانت كلها دفاعا وكذلك حروب الصحابة في الصدر الأول، ثم كان القتال بعد ذلك من ضرورة الملك، وكان في الإسلام مثال الرحمة والعدل (ج 2 تفسير)، وسنفصل ذلك بعد تفسير هذه الآية.
قال تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب} فوصف أهل الكتاب الذين بين حكم قتالهم بأربع صفات سلبية هي علة عداوتهم للإسلام ووجوب خضوعهم لحكمه في داره؛ لأن إقرارهم على الاستقلال وحمل السلاح فيه يفضي إلى قتال المسلمين في دارهم ومساعدة من يهاجمهم فيها، كما فعل يهود المدينة وما حولها بعد تأمين النبي صلى الله عليه وسلم إياهم وجعلهم حلفاء له، وسمح لهم بالحكم فيما بينهم بشرعهم فوق السماح لهم بأمور العبادة كما تقدم في سورة الأنفال (48 60 ج 10)، وكما فعل نصارى الروم في حدود البلاد العربية كما يأتي عند الكلام على غزوة تبوك. وهذه الأمور الأربعة التي أسند إليهم تركها هي أصول الدين الإلهي عند كل أمة -كما بينه تعالى في آية (2: 62) -وقد أمر هنا بقتال الذين لا يقيمونها عند ما يقوم السبب الشرعي لقتالهم حتى يعطوا الجزية بشرطها، فذكر الإيمان بالله واليوم الآخر، ووضع تركهم لتحريم ما حرم الله ورسوله وترك الخضوع لدين الحق في موضع العمل الصالح من تلك الآية، وسيأتي الكلام فيه.
وإنك ترى في بعض كتب التفسير المتداولة أن هذه الآية تدل على عدم إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر الخ، وزعم بعضهم أنها نص في ذلك، وغرضهم من هذا أن هذه الصفات ليست قيودا في شرعية قتالهم؛ بل هي بيان للواقع لا مفهوم لها، فلا يقال إنه إذا وجد من أهل الكتاب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويحرم ما حرم الله ورسوله إليهم على المختار من أن المراد بالرسول عند كل منهم رسولهم، ويدين دين الحق باعتقادهم فإنهم لا يدخلون في هذا الحكم. وقالوا: إن أولئك الذين دلت آية سورة البقرة على إقامتهم لأركان الدين الإلهي هم الذين كانوا متبعين لأنبيائهم في زمانهم، أو قبل تحريفهم لكتابهم، والابتداع في دينهم حتى الشرك، أو الذين اتبعوا خاتم الرسل الذي نسخ كتابه الكتب التي قبله، والشرائع المخالفة لشرعه، بعد بعثته وبلغ دعوته. وقد بينا هذه الأقوال في تفسير تلك الآية. وصرح الفخر الرازي بأن هذه الصفات السلبية قيود تشترط في قتالهم ولكنهم فاقدون لها، فإن وجد منهم قوم متصفون بها حرم علينا بدؤهم بالقتال.
فأما الإيمان بالله تعالى فقد شهد القرآن بأن الفريقين فقدوه بهدم ركنه الأعظم وهو التوحيد، فإنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يشرعون لهم العبادات والحلال والحرام فيتبعونهم، وذلك حق الرب وحده، فقد أشركوهم به في الربوبية، ومنهم من أشرك في الألوهية كالذين قالوا عزير ابن الله، والذين قالوا المسيح ابن الله، أو هو الله، وسيأتي هذا وذاك في هذا السياق من السورة. وقد توسع الرازي في المسألة بأساليبه الكلامية فقال:«التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه، فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالاً فيه فهو منكر له، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم، فحينئذ يكون المشبه منكراً لوجود الإله، فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله.
«فإن قيل: فاليهود قسمان: منهم مشبهة ومنهم موحدة، كما أن المسلمين كذلك. فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله فما قولكم في موحدة اليهود؟ قلنا: أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق» اه بنصه.
وهذا الكلام الذي سماه تحقيقا ليس فيه شيء من التحقيق ولا من العلم الصحيح، وإنما هو نظريات كلامية مبنية على اصطلاحات جماعة الأشاعرة حتى في الألفاظ المفردة، فالجسم في اللغة هو الشيء الجسيم الضخم. وقال ابن دريد: هو كل شخص مدرك، وقال أبو زيد:الجسم الجسد. وفي التهذيب ما يوافقه قال: الجسم مجمع البدن وأعضاؤه من الناس والإبل والدواب ونحو ذلك مما عظم من الخلق الجسيم اه من المصباح. واليهود لا يقولون بأن الإله جسم بشيء من هذه المعاني. وتعريفه للجسم بما ذكره غير صحيح لغة ولا اصطلاحا، والإله في اللغة المعبود، واليهود لا تنكر وجود المعبود، والله هو الرب الخالق لكل شيء واليهود يثبتون هذا، وأنه واحد لا شريك له، ولكن لهم أفهاماً في نصوص التوراة يختلفون فيها كالمسلمين، ومنها ما ظاهره التشبيه، والذين يسميهم المجسمة من المسلمين ليسوا مجسمة بالمعنى الذي ذكره، وإنما يسميهم هو وأمثاله مجسمة لمخالفتهم لأمثاله المتكلمين في إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تأويل، ولا تشبيه ولا تعطيل، وهو من متكلمي التأويل الذي يكفرون من يخالفهم في بعض تأويلاتهم لها بدعوى أن عدم تأويلها يستلزم كونه تعالى جسما، وهي دعوى باطلة ولازم المذهب ليس بمذهب عند الجمهور، ولو لم يصرح صاحبه بنفي اللزوم فكيف إذا صرح به كالسلف ومن تبعهم من الحنابلة الذين ينبزهم أمثاله بلفظ المجسمة بغير علم ولا هدى، وتأويلات أمثاله للكثير من تلك الآيات قد تستلزم التعطيل أو تخطئة التنزيل، أو قصوره عن بيان عقائد الدين وأصوله بدون كلامهم المبتدع، حتى إن بعضهم حرم قراءتها على العوام كما أنزلها الله تعالى غير مقرونة بتأويل يخرجها عن مدلول لغة القرآن، فإن كان لازم المذهب مذهباً مطلقا فهم الكافرون.
وهو قد انتقل في بحثه في اليهود واختلافهم في فهم صفات الإله إلى اختلاف المسلمين، مبتدئا بالاعتراف بأن حاصل كلامه «إن كل من نازع في صفة من صفات الله كان منكرا لوجود الله تعالى. قال: وحينئذ يلزم أن تقولوا إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله؛ لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى». وضرب الأمثال أولا في اختلاف أصحابه الأشعرية، ثم في اختلاف غيرهم، وتحكم في التكفير لبعض المختلفين دون بعض بالنظريات الكلامية الباطلة. وإنما أوردنا كلامه لتنفير المسلمين عن إضاعة الوقت في مثله، وفيما رتبه عليه من الحكم الشرعي المتعارض، وهو زعمه أن غير المجسمة من اليهود لا يدخلون تحت حكم هذه الآية في القتال، ولكن يدخلون تحتها في إيجاب الجزية عليهم، واستدلاله على هذا بأنه لما وجبت الجزية على بعضهم «وجب القول به في حق الكل؛ إذ لا قائل بالفرق»!
أولا: إنه لا قائل أيضا بالفرق بين حكم القتال وحكم الجزية الذي هو غاية له، فليت شعري ماذا يفعل بهم إذا امتنعوا عن أداء الجزية؟
وثانيا: إنه لم يقل أحد بما قاله من تقسيم اليهود إلى مجسمة وغير مجسمة، وأن غير المجسمة لا يدخلون في حكم الآية.
وثالثا: إنه إذا قام الدليل من القرآن على ثبوت حكم فلا يجوز أن يتوقف قبوله على قول بعض الفقهاء أو المتكلمين به، وجعل عدم نقل ذلك عن أحد منهم سببا لتركه!!
ورابعا: إن الشرك بالله تعالى في العبادة- كالدعاء مع الإيمان بأنه موجود ليس بجسم، ولا حالا في جسم، ينافي إيمان الأنبياء الذي دعوا إليه، ولكن النظريات الكلامية صرفته عن ذلك.
وما يقال في الموحدين من اليهود يقال في الموحدين من النصارى كأتباع آريوس من المتقدمين والعقليين المعاصرين من أهل أوروبا وغيرهم، ويبقى النظر في سائر ما اشترط في قتالهم.
وأما مخالفة جماهير النصارى للمسلمين ولجميع كتب الله ورسله في الإيمان بالله تعالى وما يجب من توحيده فهو ظاهر لا يحتاج إلى نظريات كلامية. فأصحاب المذاهب الرسمية منهم كلهم يقولون بألوهية المسيح وربوبيته، ويعبدونه جهرا بغير تأويل، ويقولون بالتثليث، ومنهم من يعبد أمه مريم وغيرها من الرسل والصالحين وتماثيلهم، ولا يعدون الموحدين منهم، وهؤلاء الموحدون لم يبلغوا أن يكونوا أمة، وأولي دولة، بل هم متفرقون في جميع أممهم، مع أن المسيح عليه السلام جاء مصدقاً للتوراة في جميع العقائد، وإنما نسخ بعض الأحكام العملية، كما نقل عنه رواة الأناجيل في قوله: « ما جئت لأنقض الناموس وإنما جئت لأتمم»، وأول ركن من أركان التوراة في الإيمان التوحيد المطلق، والوصية الأولى من وصاياها العشرة التي هي أساس الدين التوحيد، والنهي الصريح عن اتخاذ الصور والتماثيل. ونقلوا عنه أيضا أنه قال: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» وقد بينا هذا بالتفصيل في تفسير المائدة، وكذا تفسير سورتي آل عمران والنساء بالشواهد من كتبهم.
وأما اليوم الآخر فالفريقان يخالفان فيه المسلمين، وكذا الموحدون من النصارى فإنهم إنما يقولون بأن حياة الآخرة روحانية محضة يكون فيها أهلها من الناس كالملائكة، ونحن نؤمن بأن الإنسان يكون فيها إنسانا لا تنقلب حقيقته؛ بل يبقى مؤلفا من جسد وروح، ويتمتع الكاملون الناجون بجميع نعيم الأرواح والأجساد، وتكون أرواحهم أقوى.
وليس في التوراة التي في أيدي اليهود والنصارى بيان صريح للبعث والجزاء بعد الموت، وإنما فيها وفي مزامير داود إشارات غير صريحة.
وأما كونهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ففيه قولان للمفسرين.
أحدهما: أن المراد به ما حرم في شرعنا، ويرد عليه أنه لا يعقل أن يحرموا على أنفسهم ما حرم الله ورسوله علينا إلا إذا أسلموا، وإنما الكلام في أهل الكتاب لا في المسلمين العاصين.
والثاني: أنه ما حرم في شرعهم الذي جاء به موسى ونسخ بعضه عيسى عليهما السلام، وحينئذ يكون المراد به في اليهود أنهم لا يلتزمونه كله بالعمل كاتباعهم عادات المشركين في القتال والنفي ومفاداة الأسرى الذي قال تعالى فيه لهم: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة: 85]، واستحلالهم لأكل أموال الناس بالباطل كالربا وغير ذلك. والمراد به في النصارى أنهم استباحوا ما حرم عليهم في التوراة مما لم ينسخه الإنجيل، واتبعوا مقدسهم بولس في إباحة جميع محرمات الطعام والشراب فيها إلا ما ذبح للأصنام إذا قيل للمسيحي إنه مذبوح لوثن فيراعى ضمير القائل أمامه، وعلله بأن كل شيء طاهر للطاهرين وأن ما يدخل الفم لا ينجس الفم وإنما ينجسه ما يخرج منه. وهذا بعض ما يقال في النصارى في عصر التنزيل، وأما نصارى هذا الزمان -ولا سيما أهل أوروبا -فإنهم أبعد خلق الله عن كل ما في أناجيلهم من الزهد والسلم والتقشف كما بينا ذلك مراراً. ولكنهم بعد الإسراف في الشهوات، والطغيان في العدوان، والإلحاد في الديان، طفقوا يبحثون في حقيقة الأديان، فتظهر لهم أنوار الإسلام، والمرجو أن يهتدوا به في يوم من الأيام.
اختار السيد الآلوسي القول الأول وضعف الثاني، فقال في تفسير الجملة: المراد به أي ما ثبت تحريمه بالوحي متلوًّا وغير متلو، فالمراد بالرسول نبينا صلى الله عليه وسلم، وقيل: رسولهم الذين يدعون اتباعه، فإنهم بدلوا شريعته وأحلوا وحرموا من عند أنفسهم اتباعا لأهوائهم، فيكون المراد لا يتبعون شريعتنا ولا شريعتهم، ومجموع الأمرين سبب لقتالهم، وإن كان التحريف بعد النسخ ليس علة مستقلة اه.
واختار السيد محمد صديق حسن الثاني، فقال في فتح البيان: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} مما ثبت في كتبهم، فإن الله حرم عليهم الشحوم فأذابوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وحرم عليهم أشياء كثيرة فأحلوها. قال سعيد بن جبير في الآية: يعني لا يصدقون بتوحيد الله وما حرم الله من الخمر والخنزير. وقيل: معناه لا يحرمون ما حرم الله في القرآن ولا ما حرم رسوله في السنة. والأول أولى. وقيل: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل؛ بل حرفوهما، وأتوا بأحكام من قبل أنفسهم، وقلدوا أحبارهم ورهبانهم فاتخذوهم أرباباً من دون الله اه.
وأما كونهم لا يدينون دين الحق فمعناه على القول الأول فيما قبله أنهم لا يدينون الله بدينه الحق الكامل الأخير المكمل والمبين لما اختلفوا فيه من قبل، والناسخ لما لا يصلح للبشر منه فيما بعد، وهو الإسلام. يقال دان دين الإسلام أو غيره ودان به. وهو الأصل ومعناه على القول الثاني أن الدين الذي يتقلده كل منهم إنما هو دين تقليدي وضعه لهم أحبارهم وأساقفتهم بآرائهم الاجتهادية وأهوائهم المذهبية لا دين الله الحق الذي أوحاه إلى موسى وعيسى عليهما السلام. ذلك بأن اليهود لم يحفظوا ما استحفظوا من التوراة التي كتبها موسى وكان يحكم بها هو والنبيون من بعده، ويخالفهم الفاسقون الناقضون لعهده الذي أخذه عليهم قبل موته، إلى أن عاقبهم الله تعالى بتسليط البابليين عليهم فجاسوا خلال الديار، وأحرقوا الهيكل وما فيه من تلك الأسفار، وسبوا بقية السيف منهم، وأجلوهم عن وطنهم إلى أرض مستعبديهم، فدانوا لشريعة غير شريعتهم، ولما أعتقوهم من الرق، وأعادوهم إلى تلك الأرض، وكانوا قد فقدوا نص التوراة وإنما حفظوا بعضها دون بعض، كتبوا ما حفظوا من شريعة الرب، ممزوجاً بما دانوا من شريعة ملك بابل كما أمر كاهنهم عزرا (عزيرا)، ثم إنهم حرفوا وبدلوا ولم يقيموها كما أمروا.
وكذلك النصارى لم يحفظوا كل ما بلغهم عيسى عليه السلام من العقائد والوصايا والأحكام القليلة الناسخة لبعض تشديدات التوراة وهو دين الله الحق؛ بل كتب كثيرون منهم تواريخ له أودعها كل كاتب منهم ما عرفه من ذلك ومن غيره، فجاءت المجامع الرسمية بعد ثلاثة قرون فاعتمدت أربعة أناجيل من زهاء سبعين إنجيلا رفضتها وسمتها [أبو كريف]، أي غير قانونية، وقد وصل إلينا إنجيل القديس برنابا منها، وهو من أصحاب المسيح ورسله لهداية الناس، فإذا فيه من أصول التوحيد والصفات الإلهية والحكم والمواعظ العالية ما يفوق ما في الأربعة القانونية.
ثم إنهم نقضوا شريعة التوراة من بعده، وأخذوا بتعاليم بولس كما تقدم، وهو فيلسوف يهودي تنصر بعد المسيح، وقَبِل تنصره الحواريون الذين يسمونهم [الرسل] بشفاعة برنابا؛ لأنه كان عدوا لهم مع أنهم ينقلون عن المسيح أنه قال: ما جئت لأنقض الناموس وإنما جئت لأتمم. والناموس هو شريعة موسى، وهذا موافق لما حكاه الله تعالى عنه بقوله في سورة آل عمران: {ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} [آل عمران: 50، 51]، وإنما قال: {لما بين يدي من التوراة} أي الشريعة لأن بعضها كان فقد بإحراق البابليين لنسخة موسى التي كتبها بيده كما ذكرنا آنفا، وتقدم من قبل مفصلا. ولم يكتف النصارى بهذا بل وضع لهم أحبار رومية وغيرهم من أساقفتهم ورهبانهم شرائع كثيرة في العبادات والحلال والحرام يخالف فيها كل فريق منهم مذهب الآخر.
يقول الله تعالى فيما ذكرناه آنفا عن أهل الملتين بعد ذكر ما أخذه على أمة موسى من الميثاق من سورة المائدة {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلاً منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون} [المائدة: 14، 15] وفي الآيتين من الحقائق التي كانت مجهولة، ومن أخبار الغيب عن الماضي والمستقبل، ما يعد من حجج القرآن على أنه وحي من الله، ليس للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم منه إلا تبليغه والعمل به.
فعلم من هذا أن كلا منهم نسي حظا عظيما مما ذكرهم به نبيهم، ولم يعملوا بالبعض الآخر كله، بل أكثر عباداتهم وما يسمى الطقوس والناموس الأدبي هو من وضع أحبارهم ورهبانهم كما سيأتي قريبا في تفسير {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله} [التوبة: 31]، وإنما كان دين الحق عندهم ما جاءهم به موسى وعيسى عليهما السلام، ولو أنهم حفظوه وأقاموه كما أنزل أو دانوا بما حفظوا منه دون غيره لهداهم إلى اتباع المصلح الأعظم الذي بعثه الله تعالى مكملا لدينه، ولا تزال بشارات أنبيائهم به محفوظة فيما بقي لهم من كتبهم، وهو محمد خاتم النبيين صلوات الله عليهم أجمعين.
فقوله تعالى: {من الذين أوتوا الكتاب} بعد ما تقدم من الصفات السلبية بيان للمراد من المتصفين بها، والمراد بالكتاب جنس الكتاب الإلهي الذي يشمل التوراة والإنجيل وزبور داود وغيرها، ولكن لقب «أهل الكتاب» و«الذين أوتوا الكتاب» وإن كان لفظه عاماً خص به اليهود والنصارى؛ لأنهم هم الذين كانوا مخالطين ومجاورين للأمة العربية ومعروفين عندها، كما قال تعالى مخاطبا لمشركي العرب {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين} [الأنعام: 156]، وفي نصوص القرآن الصريحة أن الله تعالى أرسل رسلا في جميع الأمم يأمرونهم بعبادته تعالى وحده، وباجتناب الطاغوت، وينذرونهم يوم الجزاء، وأن منهم من قصه على خاتم الأنبياء والمرسلين في كتابه ومنهم من لم يقصص عليه، ومن المعقول أن يكون أولو الحضارة منهم كالصينيين والهنود والفرس والمصريين واليونان قد كتبوا كلهم أو بعضهم ما أوحي إلى رسلهم فضاع بطول الأمد أو خلط بغيره ولم يعد أصله معروفا، وإذا كان اليهود والنصارى قد كان من أمر كتبهم ما علمنا من ضياع بعضها وانقطاع سند ما بقي منها والعهد قريب، فلا غرو أن يكون ما سبقها من الكتب أضيع والعهد بعيد أي بعيد.
وقد ذكر الله تعالى الصابئين والمجوس منهم في كتابه لاتصال بلادهم ببلاد العرب، فلم يدخلهم في عموم المشركين ولا نظمهم في سلك أهل الكتاب، لأنه جعل لقب المشركين خاصا بوثنيي العرب، ولقب أهل الكتاب خاصاً باليهود والنصارى، وإن كان قد دخل عليهم الشرك، والتاريخ يدل على أن الفريقين كانا أهل كتاب، أما الصابئون فقد ذكروا مع المؤمنين واليهود والنصارى في آية سورة البقرة (1: 62) وآية سورة المائدة (5: 72)، وأما المجوس فقد ذكروا مع أولئك كلهم في قوله تعالى في سورة الحج {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شيء شهيد} [الحج: 16]، فقد جعل المجوس قسما مستقلا، وجاءت السنة بمعاملتهم كأهل الكتاب في انتهاء قتالهم بالجزية، فدل ذلك على أنهم كانوا أهل كتاب وإن لم يحفظ منه ما يصحح إطلاق اللقب عليهم، وروي ذلك عن علي كرم الله وجهه وجزم به الشافعي في الأم، والصابئون أولى بذلك منهم، كما يؤخذ من آيتي البقرة والمائدة المشار إليهما آنفا.
{حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} هذه غاية للأمر بقتال أهل الكتاب ينتهي بها إذا كان الغلب لنا، أي قاتلوا من ذكر عند وجود ما يقتضي وجوب القتال كالاعتداء عليكم أو على بلادكم أو اضطهادكم وفتنتكم عن دينكم أو تهديد أمنكم وسلامتكم، كما فعل الروم فكان سبباً لغزوة تبوك، حتى تأمنوا عدوانهم بإعطائكم الجزية في الحالين اللذين قيدت بهما. فالقيد الأول: لهم، وهو أن تكون صادرة عن يد أي قدرة وسعة، فلا يظلمون ويرهقون. والثاني: لكم، وهو الصغار المراد به خضد شوكتهم والخضوع لسيادتكم وحكمكم. وبهذا يكون تيسير السبيل لاهتدائهم إلى الإسلام بما يرونه من عدلكم وهدايتكم وفضائلكم التي يرونكم أقرب بها إلى هداية أنبيائهم منهم. فإن أسلموا عم الهدى والعدل والاتحاد، وإن لم يسلموا كان الاتحاد بينكم وبينهم بالمساواة في العدل ولم يكونوا حائلا دونها في دار الإسلام. والقتال لما دون هذه الأسباب التي يكون بها وجوبه عينياً أولى بأن ينتهي بإعطاء الجزية، ومتى أعطوا الجزية وجب تأمينهم وحمايتهم والدفاع عنهم وحريتهم في دينهم بالشروط التي تعقد بها الجزية، ومعاملتهم بعد ذلك بالعدل والمساواة كالمسلمين، ويحرم ظلمهم وإرهاقهم بتكليفهم ما لا يطيقون كالمسلمين، ويسمون أهل الذمة؛ لأن كل هذه الحقوق تكون لهم بمقتضى ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأما الذين يعقد الصلح بيننا وبينهم بعهد وميثاق يعترف به كل منا ومنهم باستقلال الآخر فيسمون بأهل العهد والمعاهدين، وتقدم بيان ذلك في تفسير سورة الأنفال...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذا المقطع الثاني في سياق السورة؛ يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب؛ كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة. وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ؛ وتتحدث عن المشركين فيها؛ وتحدد صفات ووقائع وأحداثا تنطبق عليهم انطباقا مباشرا. فإن النصوص في المقطع الثاني -الخاصة بأهل الكتاب- عامة في لفظها ومدلولها؛ وهي تعني كل أهل الكتاب. سواء منهم من كان في الجزيرة ومن كان خارجها كذلك. هذه الأحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب -وبخاصة النصارى منهم- فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود؛ ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى.
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.. فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس.. أساس إعطاء الجزية.. وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد؛ ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين. فأما إذا اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين.. إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة. فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: (لا إكراه في الدين).. ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس. وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية. ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى. وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة؛ قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر، أية عقبات مادية من قوة الدولة، ومن نظام الحكم، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض! ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده -كما هو الإعلان العام للإسلام- ومناهج الجاهلية تريد -دفاعاً عن وجودها- أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض، وأن تقضي عليها. وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له ومتفوقة عليه، في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة.. والأحكام المرحلية والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل. ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات، حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ ونص على أنه ""شرك ""و ""كفر"" و ""باطل"" وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم، سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات (الذين كفروا من قبل). أو من سلوكهم وتصرفهم الواقعي كذلك.
والنصوص الحاضرة تقرر: أولا:أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانيا:أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
ثالثا:أنهم لا يدينون دين الحق.
رابعا:أن اليهود منهم قالت:عزير ابن الله. وأن النصارى منهم قالت:المسيح ابن الله وأنهم في هذين القولين يضاهئون قول الذين كفروا من قبل سواء من الوثنيين الإغريق، أو الوثنيين الرومان، أو الوثنيين الهنود، أو الوثنيين الفراعنة، أو غيرهم من الذين كفروا [وسنفصل فيما بعد أن التثليث عند النصارى، وادعاء البنوة لله منهم أو من اليهود مقتبس من الوثنيات السابقة وليس من أصل النصرانية ولا اليهودية].
خامسا:أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. كما اتخذوا المسيح ربا. وأنهم بهذا خالفوا عما أمروا به من توحيد الله والدينونة له وحده، وأنهم لهذا (مشركون)!
سادسا:أنهم محاربون لدين الله يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، وأنهم لهذا (كافرون)!
سابعا:أن كثيراً من أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله. وعلى أساس هذه الأوصاف وهذا التحديد لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، قرر الأحكام النهائية التي تقوم عليها العلاقات بينهم وبين المؤمنين بدين الله، القائمين على منهج الله.. ولقد يبدو أن هذا التقرير لحقيقة ما عليه أهل الكتاب، مفاجئ ومغاير للتقريرات القرآنية السابقة عنهم؛ كما يحلو للمستشرقين والمبشرين وتلاميذهم أن يقولوا، زاعمين أن رسول الله [ص] قد غير أقواله وأحكامه عن أهل الكتاب عندما أحس بالقوة والقدرة على منازلتهم! ولكن المراجعة الموضوعية للتقريرات القرآنية -المكية والمدنية- عن أهل الكتاب، تظهر بجلاء أنه لم يتغير شيء في أصل نظرة الإسلام إلى عقائد أهل الكتاب التي جاء فوجدهم عليها، وانحرافها وبطلانها؛ وشركهم وكفرهم بدين الله الصحيح -حتى بما أنزل عليهم منه وبالنصيب الذي أوتوه من قبل- أما التعديلات فهي محصورة في طريقة التعامل معهم.. وهذه -كما قلنا مراراً- تحكمها الأحوال والأوضاع الواقعية المتجددة. أما الأصل الذي تقوم عليه -وهو حقيقة ما عليه أهل الكتاب- فهو ثابت منذ اليوم الأول في حكم الله عليهم. ونضرب هنا بعض الأمثلة من التقريرات القرآنية عن أهل الكتاب وحقيقة ما هم عليه..
ثم نستعرض مواقفهم الواقعية من الإسلام وأهله، تلك المواقف التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية في التعامل معهم: في مكة لم تكن توجد جاليات يهودية أو نصرانية ذات عدد أو وزن في المجتمع..
إنما كان هناك أفراد، يحكي القرآن عنهم أنهم استقبلوا الدعوة الجديدة إلى الإسلام بالفرح والتصديق والقبول؛ ودخلوا في الإسلام، وشهدوا له ولرسوله بأنه الحق المصدق لما بين أيديهم.. ولا بد أن يكون هؤلاء ممن كان قد بقي على التوحيد من النصارى واليهود؛ وممن كان معهم شيء من بقايا الكتب المنزلة.. وفي أمثال هؤلاء وردت مثل هذه الآيات: (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون. وإذا يتلى عليهم قالوا:آمنا به، إنه الحق من ربنا، إنا كنا من قبله مسلمين)... [القصص:52 -53]. (قل:آمنوا به أولا تؤمنوا، إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا، ويقولون:سبحان ربنا، إن كان وعد ربنا لمفعولا. ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا...) [الإسراء:107- 109]. (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به، وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله، فآمن واستكبرتم، إن الله لا يهدي القوم الظالمين)... [الأحقاف:10]. (وكذلك أنزلنا إليك الكتاب، فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به، ومن هؤلاء من يؤمن به، وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون)... [العنكبوت:47]. (أفغير الله أبتغي حكماً وهو الذي انزل اليكم الكتاب مفصلا، والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق، فلا تكونن من الممترين)... [الأنعام:114]. (والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك، ومن الأحزاب من ينكر بعضه. قل:إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به، إليه أدعو وإليه مآب)... [الرعد:36]. وقد تكررت هذه الاستجابة من أفراد كذلك في المدينة؛ حكى عنهم القرآن بعض المواقف في السور المدنية؛ مع النص في بعضها على أنهم من النصارى، ذلك أن اليهود كانوا قد اتخذوا موقفاً آخر غير ما كان يتخذه أفراد منهم في مكة، عندما أحسوا خطر الإسلام في المدينة: (وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن باللّه وما انزل اليكم وما أنزل إليهم، خاشعين للّه لا يشترون بآيات اللّه ثمناً قليلاً، أولئك لهم أجرهم عند ربهم، إن اللّه سريع الحساب...) [آل عمران:199]. (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا:إنا نصارى. ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً، وأنهم لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق، يقولون:ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين. وما لنا لا نؤمن باللّه وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين؟ فآثابهم اللّه بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء المحسنين...) [المائدة:82 -85]. ولكن موقف هؤلاء الأفراد لم يكن يمثل موقف الغالبية من أهل الكتاب في الجزيرة- ومن اليهود منهم بصفة خاصة -فقد جعل هؤلاء يشنون على الإسلام، منذ أن احسوا خطره عليهم في المدينة، حرباً خبيثة، يستخدمون فيها كل الوسائل التي حكاها القرآن عنهم في نصوص كثيرة؛ كما أنهم في الوقت ذاته رفضوا الدخول في الإسلام طبعاً؛ وأنكروا وجحدوا ما في كتبهم من البشارة بالرسول [ص] ومنتصديق القرآن لما بين أيديهم من بقايا كتبهم الحقة، مما كان أولئك الأفراد الطيبون يعترفون به ويقرونه ويجاهرون به في وجه المنكرين الجاحدين!... كذلك أخذ القرآن يتنزل بوصف هذا الجحود وتسجيله؛ وبتقرير ما عليه أهل الكتاب هؤلاء من الانحراف والفساد والبطلان في شتى السور المدنية.. على أن القرآن المكي لم يخل من تقريرات عن حقيقة ما عليه أهل الكتاب. نذكر من ذلك: (ولما جاء عيسى بالبينات قال:قد جئتكم بالحكمة، ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه، فاتقوا اللّه وأطيعون. إن اللّه هو ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم. فاختلف الأحزاب من بينهم، فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم).. [الزخرف:63- 65]. (وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم -بغياً بينهم)... (ولولا حكمة سبقت من ربك الى اجل مسمى لقضي بينهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب)... [الشورى:14]. (وإذ قيل لهم: اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم، وقولوا:حطة وادخلوا الباب سجدا نغفر لكم خطيئاتكم سنزيد المحسنين. فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم، فأرسلنا عليهم رجزاً من السماء بما كانوا يظلمون. واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت، إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعاً ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون)... [الأعراف:161:163]. (وإذ تأذّن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم)... [الأعراف:167]. (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون: سيغفر لنا، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه. ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على اللّه إلا الحق، ودرسوا ما فيه؟ والدار الآخرة خير للذين يتقون، أفلا تعقلون؟...) [الأعراف:169]. أما القرآن المدني فقد تضمن الكلمة الأخيرة في حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ كما حكى عنهم أشنع الوسائل وأبشع الطرق في حرب هذا الدين وأهله في قطاعات طويلة من سور البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، وغيرها. قبل أن يقرر الكلمة النهائية في أمرهم كله في سورة التوبة. وسنكتفي هنا بنماذج محدودة من هذه التقريرات القرآنية الكثيرة: (أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام اللّه، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون؟ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا:آمنا. وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا:أتحدثونهم بما فتح اللّه عليكم ليحاجوكم به عند ربكم؟ أفلا تعقلون؟ أو لا يعلمون أن اللّه يعلم ما يسرون وما يعلنون؟ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيَّ، وإن هم إلا يظنون. فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون:هذا من عند اللّه ليشتروا به ثمناً قليلاً، فويل لهم مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون)... [البقرة:75- 79]. (ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل، وآتينا عيسى ابن مريم البينات، وأيدناه بروح القدس، أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم، ففريقاً كذّبتم وفريقاً تقتلون؟ وقالوا:قلوبنا غلف. بل لعنهم اللّه بكفرهم فقليلاً ما يؤمنون. ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل -اللّه- بغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده -فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين. وإذا قيل لهم:آمنوا بما أنزل اللّه، قالوا:نؤمن بما أنزل علينا، ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقاً لما معهم. قل:فلم تقتلون أنبياء اللّه من قبل إن كنتم مؤمنين!). [البقرة:87- 91]. (قل:يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات اللّه؟ واللّه شهيد على ما تعملون. قل:يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل اللّه من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء؟ وما اللّه بغافل عما تعملون)... [آل عمران:98 -99]. (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً؟ أولئك الذين لعنهم اللّه، ومن يلعن اللّه فلن تجدله نصيراً...) [النساء:51- 52]. (لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه هو المسيح ابن مريم. وقال المسيح:يا بني إسرائيل اعبدوا اللّه ربي وربكم، إنه من يشرك باللّه فقد حرم اللّه عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين من أنصار. لقد كفر الذين قالوا:إن اللّه ثالث ثلاثة، وما من إله إلا إله واحد، وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أفلا يتوبون إلى اللّه ويستغفرونه واللّه غفور رحيم. ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة، كانا يأكلان الطعام. انظر كيف نبين لهم الآيات، ثم انظر أنى يؤفكون!...) [المائدة:72-75] من مراجعة هذه النصوص القرآنية وأمثالها -وهو كثير في القرآن المكي والمدني على السواء- يتبين أن النظرة إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من الانحراف عن دين اللّه الصحيح لم يتغير فيها شيء في التقريرات الأخيرة الواردة في السورة الأخيرة. وأن وصمهم بالانحراف والفسوق والشرك والكفر ليس جديداً، ولا يعبر عن اتجاه جديد فيما يختص بحقيقة الاعتقاد.. وذلك مع ملاحظة أن القرآن الكريم ظل يسجل للفريق المهتدي الصالح من أهل الكتاب هداه وصلاحه. فقال تعالى منصفاً للصالحين منهم: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون)... [الأعراف:159]. (ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً، ذلك بأنهم قولوا:ليس علينا في الأميين سبيل، ويقولون على اللّه الكذب وهم يعلمون...) [آل عمران:75]. (ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من اللّه وحبل من الناس، وباءوا بغضب من اللّه، وضربت عليهم المسكنة، ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات اللّه، ويقتلون الأنبياء بغير حق، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون. ليسوا سواء:من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات اللّه آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون باللّه واليوم الآخر، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه؛ واللّه عليم بالمتقين...) [آل عمران:112 -115]. أما الذي وقع فيه التعديل فعلاً فهو أحكام التعامل مع أهل الكتاب. فترة بعد فترة. ومرحلة بعد مرحلة. وواقعة بعد واقعة. وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين في مواجهة أحوال أهل الكتاب وتصرفاتهم ومواقفهم مع المسلمين. ولقد جاء زمان كان يقال فيه للمسلمين: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن- إلا الذين ظلموا منهم -وقولوا:آمنا بالذي أنزل إلينا (وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون)... [العنكبوت:46]. (قولوا آمنا باللّه وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط، وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم، لا نفرق بين أحد منهم، ونحن له مسلمون. فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما هم في شقاق، فسيكفيكهم اللّه، وهو السميع العليم)... [البقرة:136- 137]. (قل:يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم:ألا نعبد إلا اللّه ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباًَ من دون اللّه. فإن تولوا فقولوا:اشهدوا بأنا مسلمون)... [آل عمران:64]. (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق، فاعفوا واصفحوا حتى يأتي اللّه بأمره، إن اللّه على كل شيء قدير)... [البقرة:109]. ثم أتى اللّه بأمره الذي وكل المؤمنين إليه؛ فوقعت أحداث، وتعدلت أحكام، وجرى المنهج الحركي الواقعي الإيجابي في طريقه حتى كانت هذه الأحكام النهائية الأخيرة، في هذه السورة، على النحو الذي رأينا... إنه لم يتغير شيء في نظرة هذا الدين إلى حقيقة ما عليه أهل الكتاب من فساد العقيدة؛ ومن الشرك باللّه والكفر بآياته.. إنما الذي تغير هو قاعدة التعامل.. وهذه إنما تحكمها تلك الأصول التي أسلفنا الحديث عنها في مطلع هذا الفصل التمهيدي لهذا المقطع من سياق السورة، في هذه الفقرات: ""وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته، إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج اللّه ومناهج الجاهلية من ناحية. ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة، المكافئة للواقع البشري المتغير، من الناحية الأخرى... الخ "". والآن نأخذ في شيء من استعراض طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم سواء من الناحية الموضوعية الثابتة، أو من ناحية المواقف التاريخية الواقعة... فهذه هي العناصر الرئيسية التي انتهت إلى هذه الأحكام النهائية. إن طبيعة الموقف بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم يجب البحث عنها اولاً:في تقريرات اللّه -سبحانه- عنها، باعتبار أن هذه هي الحقيقة النهائية التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها؛ وباعتبار أن هذه التقريرات -بسبب كونها ربانية- لا تتعرض لمثل ما تتعرض له الاستنباطات والاستدلالات البشرية من الأخطاء.. وثانياً:في المواقف التاريخية المصدقة لتقريرات اللّه سبحانه! إن اللّه سبحانه يقرر طبيعة موقف أهل الكتاب من المسلمين في عدة مواضع من كتابه الكريم.. وهو تارة يتحدث عنهم -سبحانه- وحدهم، وتارة يتحدث عنهم مع الذين كفروا من المشركين؛ باعتبار أن هنالك وحدة هدف -تجاه الإسلام والمسلمين- تجمع الذين كفروا من أهل الكتاب والذين كفروا من المشركين. وتارة يتحدث عن مواقف واقعية لهم تكشف عن وحدة الهدف ووحدة التجمع الحركي لمواجهة الإسلام والمسلمين.. والنصوص التي تقرر هذه الحقائق من الوضوح والجزم بحيث لا تحتاج منا إلى تعليق.. وهذه نماذج منها.. (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم)... [البقرة:105]. (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسدا من عند أنفسهم، من بعد ما تبين لهم الحق)... [البقرة:109]. (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم)... [البقرة:120]. (ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم)... [آل عمران:69]. (وقالت طائفة من اهل الكتاب:آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون، ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم)... [آل عمران:72 -73]. (يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين)... [آل عمران:100]... (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل، واللّه أعلم بأعدائكم...)... [النساء:44- 45]. (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، ويقولون للذين كفروا:هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً)... [النساء:51]. وفي هذه النماذج وحدها ما يكفي لتقرير حقيقة موقف أهل الكتاب من المسلمين... فهم يودون لو يرجع المسلمون كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق. وهم يحددون موقفهم النهائي من المسلمين بالإصرار على أن يكونوا يهوداً أو نصارى، ولا يرضون عنهم ولا يسالمونهم إلا أن يتحقق هذا الهدف، فيترك المسلمون عقيدتهم نهائياً. وهم يشهدون للمشركين الوثنيين بأنهم أهدى سبيلاً من المسلمين!... الخ. وإذا نحن راجعنا الأهداف النهائية للمشركين تجاه الإسلام والمسلمين كما يقررها اللّه -سبحانه- في قوله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا)... [البقرة:217]. (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)... [النساء:102]. (إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون) [الممتحنة:2]. (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة)... [التوبة:8]. (لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة)... [التوبة:10]. إذا نحن راجعنا هذه التقريرات الربانية عن المشركين، وجدنا أن الأهداف النهائية لهم تجاه الإسلام والمسلمين، هي بعينها -وتكاد تكون بألفاظها- هي الأهداف النهائية لأهل الكتاب تجاه الإسلام والمسلمين كذلك.. مما يجعل طبيعة موقفهم مع الإسلام والمسلمين هي ذاتها طبيعة موقف المشركين. وإذا نحن لاحظنا أن التقريرات القرآنية الواردة في هؤلاء وهؤلاء ترد في صيغ نهائية، تدل بصياغتها على تقرير طبيعة دائمة، لا على وصف حالة مؤقتة، كقوله تعالى في شأن المشركين: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا).. وقوله تعالى في شأن أهل الكتاب: (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم).. إذا نحن لاحظنا ذلك تبين لنا بغير حاجة إلى أي تأويل للنصوص، أنها تقرر طبيعة أصيلة دائمة للعلاقات؛ ولا تصف حالة مؤقتة ولا عارضة! فإذا نحن ألقينا نظرة سريعة على الواقع التاريخي لهذه العلاقات، متمثلة في مواقف أهل الكتاب -من اليهود والنصارى- من الإسلام وأهله، على مدار التاريخ، تبين لنا تماماً ماذا تعنيه تلك النصوص والتقريرات الإلهية الصادقة؛ وتقرر لدينا أنها كانت تقرر طبيعة مطردة ثابتة، ولم تكن تصف حالة مؤقتة عارضة. إننا إذا استثنينا حالات فردية -أو حالات جماعات قليلة- من التي تحدث القرآن عنها وحواها الواقع التاريخي بدت فيها الموادة للإسلام والمسلمين؛ والاقتناع بصدق رسول الله [ص] وصدق هذا الدين. ثم الدخول فيه والانضمام لجماعة المسلمين.. وهي الحالات التي أشرنا إليها فيما تقدم.. فإننا لا نجد وراء هذه الحالات الفردية أو الجماعية القليلة المحدودة، إلا تاريخاً من العداء العنيد، والكيد الناصب، والحرب الدائبة، التي لم تفتر على مدار التاريخ.. فأما اليهود فقد تحدثت شتى سور القرآن عن مواقفهم وأفاعيلهم وكيدهم ومكرهم وحربهم؛ وقد وعى التاريخ من ذلك كله ما لم ينقطع لحظة واحدة منذ اليوم الأول الذي واجههم الإسلام في المدينة حتى اللحظة الحاضرة! وليست هذه الظلال مجالاً لعرض هذا التاريخ الطويل. ولكننا سنشير فقط إلى قليل من كثير من تلك الحرب المسعورة التي شنها اليهود على الإسلام وأهله على مدار التاريخ.. لقد استقبل اليهود رسول اللّه -[ص]- ودينه في المدينة شر ما يستقبل أهل دين سماوي رسولاً يعرفون صدقه، وديناً يعرفون أنه الحق.. استقبلوه بالدسائس والأكاذيب والشبهات والفتن يلقونها في الصف المسلم في المدينة بكافة الطرق الملتوية الماكرة التي يتقنها اليهود.. شككوا في رسالة رسول اللّه -[ص]- وهم يعرفونه؛ واحتضنوا المنافقين وأمدوهم بالشبهات التي ينشرونها في الجو وبالتهم والأكاذيب. وما فعلوه في حادث تحويل القبلة، وما فعلوه في حادث الإفك، وما فعلوه في كل مناسبة، ليس إلا نماذج من هذا الكيد اللئيم.. وفي مثل هذه الأفاعيل كان يتنزل القرآن الكريم. وسور البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والحشر والأحزاب والتوبة وغيرها تضمنت من هذا الكثير: (ولما جاءهم كتاب من عند اللّه مصدق لما معهم -وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا- فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة اللّه على الكافرين. بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل اللّه -بغياً أن ينزل اللّه من فضله على من يشاء من عباده- فباءوا بغضب على غضب، وللكافرين عذاب مهين...) [البقرة:89 -90]. {ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون} [البقرة: 101]. {سيقول السفهاء من الناس: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها. قل: لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [البقرة: 142]. {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون. يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون؟} [آل عمران: 70- 71]. {وقالت طائفة من أهل الكتاب: آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} [آل عمران: 72]. {وإن منهم لفريقاً يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب، ويقولون هو من عند الله، وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} [آل عمران: 78]. {قل: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون؟ قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون} [آل عمران: 98 -99]. {يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء! فقد سألوا موسى أكبر من ذلك، فقالوا: أرنا الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة بظلمهم؛ ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات...} النساء: 153]. {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}... [التوبة: 32]. كذلك شهد التاريخ نقض اليهود لعهودهم مرة بعد مرة وتحرشهم بالمسلمين، مما أدى إلى وقائع بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة وخيبر. كما شهد تأليب اليهود للمشركين في الأحزاب، مما هو معروف مشهور. ثم تابع اليهود كيدهم للإسلام وأهله منذ ذلك التاريخ.. كانوا عناصر أساسية في إثارة الفتنة الكبرى التي قتل فيها الخليفة الراشد عثمان بن عفان- رضي الله عنه -وانتثر بعدها شمل التجمع الإسلامي إلى حد كبير.. وكانوا رأس الفتنة فيما وقع بعد ذلك بين علي- رضي الله عنه -ومعاوية.. وقادوا حملة الوضع في الحديث والسيرة وروايات التفسير.. وكانوا من الممهدين لحملة التتار على بغداد وتقويض الخلافة الإسلامية... فأما في التاريخ الحديث فهم وراء كل كارثة حلت بالمسلمين في كل مكان على وجه الأرض؛ وهم وراء كل محاولة لسحق طلائع البعث الإسلامي؛ وهم حماة كل وضع من الأوضاع التي تتولى هذه المحاولة في كل أرجاء العالم الإسلامي! ذلك شأن اليهود، فأما شأن الفريق الآخر من أهل الكتاب، فهو لا يقل إصراراً على العداوة والحرب من شأن اليهود! لقد كانت بين الرومان والفرس عداوات عمرها قرون.. ولكن ما إن ظهر الإسلام في الجزيرة؛ وأحست الكنيسة بخطورة هذا الدين الحق على ما صنعته هي بأيديها وسمته"" المسيحية ""وهو ركام من الوثنيات القديمة، والأضاليل الكنسية، متلبساً ببقايا من كلمات المسيح- عليه السلام -وتاريخه.. حتى رأينا الرومان والفرس ينسون ما بينهم من نزاعات تاريخيه قديمة وعداوات وثارات عميقة، ليواجهوا هذا الدين الجديد. ولقد أخذ الروم يتجمعون في الشمال هم وعمالهم من الغساسنة لينقضوا على هذا الدين. وذلك بعد أن قتلوا الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله- صلى الله عليه وسلم -إلى عامل بصرى من قبل الروم- وكان المسلمون يؤمنون الرسل ولكن النصارى غدروا برسول النبي صلى الله عليه وسلم وقتلوه -مما جعل رسول الله- صلى الله عليه وسلم -يبعث بجيش الأمراء الشهداء الثلاثة: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة في غزوة"" مؤتة ""فوجدوا تجمعاً للروم تقول الروايات عنه: إنه مائة ألف من الروم ومعه من عملائهم في الشام من القبائل العربية النصرانية مائة ألف أخرى؛ وكان جيش المسلمين لا يتجاوز ثلاثة آلاف مقاتل. وكان ذلك في جمادى الأولى من السنة الثامنة للهجرة. ثم كانت غزوة تبوك التي يدور عليها معظم هذه السورة (وسيجيء تفصيل القول فيها في موضعه إن شاء الله تعالى). ثم كان جيش أسامة بن زيد الذي أعده رسول الله- صلى الله عليه وسلم -قبيل وفاته؛ ثم أنفذه الخليفة الراشد أبو بكر- رضي الله عنه -إلى أطراف الشام؛ لمواجهة تلك التجمعات الرومانية التي تستهدف القضاء على هذا الدين! ثم اشتعل مرجل الحقد الصليبي منذ موقعة اليرموك الظافرة، التي أعقبها انطلاق الإسلام لتحرير المستعمرات الإمبراطورية الرومانية في الشام ومصر وشمال إفريقية وجزر البحر الأبيض. ثم بناء القاعدة الإسلامية الوطيدة في الأندلس في النهاية. إن"" الحروب الصليبية ""المعروفة بهذا الاسم في التاريخ، لم تكن هي وحدها التي شنتها الكنيسة على الإسلام، لقد كانت هذه الحروب مبكرة قبل هذا الموعد بكثير.. لقد بدأت في الحقيقة منذ ذلك التاريخ البعيد.. منذ أن نسي الرومان عداواتهم مع الفرس؛ وأخذ النصارى يعينون الفرس ضد الإسلام في جنوب الجزيرة. ثم بعد ذلك في"" مؤتة "". ثم فيما تلا موقعة اليرموك الظافرة.. ثم تجلت ضراوتها ووحشيتها في الأندلس عندما زحفت الصليبية على القاعدة الإسلامية في أوربة، وارتكبت من الوحشية في تعذيب ملايين المسلمين وقتلهم هناك ما لم يعرف التاريخ له نظيراً من قبل.. وكذلك تجلت في الحروب الصليبية في الشرق بمثل هذه البشاعة التي لا تتحرج ولا تتذمم؛ ولا تراعي في المسلمين إِلاًّ ولا ذمة. ومما جاء في كتاب ""حضارة العرب"" لجوستاف لوبون- وهو فرنسي مسيحي -: ""كان أول ما بدأ به ريكاردوس الإنجليزي أنه قتل أمام معسكر المسلمين، ثلاث آلاف أسير سلموا أنفسهم إليه، بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم. ثم أطلق لنفسه العنان باقتراف القتل والسلب، مما أثار صلاح الدين الأيوبي النبيل، الذي رحم نصارى القدس، فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فيليب وقلب الأسد بالمرطبات والأدوية والأزواد، أثناء مرضهما "". كذلك كتب كاتب مسيحي آخر (اسمه يورجا) يقول:"" ابتدأ الصليبيون سيرهم على بيت المقدس بأسوأ طالع، فكان فريق من الحجاج يسفكون الدماء في القصور التي استولوا عليها. وقد أسرفوا في القسوة فكانوا يبقرون البطون. ويبحثون عن الدنانير في الأمعاء! أما صلاح الدين، فلما استرد بيت المقدس بذل الأمان للصليبيين، ووفى لهم بجميع عهوده، وجاد المسلمون على أعدائهم ووطأوهم مهاد رأفتهم، حتى أن الملك العادل، شقيق السلطان، أطلق ألف رقيق من الأسرى، ومنّ على جميع الأرمن، وأذن للبطريرك بحمل الصليب وزينة الكنيسة، وأبيح للأميرات والملكة بزيارة أزواجهن "". ولا يتسع المجال في الظلال لاستعراض ذلك الخط الطويل للحروب الصليبية -على مدار التاريخ- ولكن يكفي أن نقول: إن هذه الحرب لم تضع أوزارها قط من جانب الصليبية. ويكفي أن نذكر ماذا حدث في زنجبار حديثاً. حيث أبيد المسلمون فيها عن بكرة أبيهم، فقتل منهم اثنا عشر ألفاً وألقي الأربعة الآلاف الباقون في البحر منفيين من الجزيرة! ويكفي أن نذكر ماذا وقع في قبرص، حيث منع الطعام والماء عن الجهات التي يقطنها بقايا المسلمين هناك ليموتوا جوعاً وعطشاً، فوق ما سلط عليهم من التقتيل والتذبيح والتشريد! ويكفي أن نذكر ما تزاوله الحبشة في اريترية وفي قلب الحبشة، وما تزاوله كينيا مع المائة ألف مسلم الذين ينتمون إلى أصل صومالي، ويريدون أن ينضموا إلى قومهم المسلمين في الصومال! ويكفي أن نعلم ماذا تحاوله الصليبية في السودان الجنوبي! ويكفي لتصوير نظرة الصليبيين إلى الإسلام أن ننقل فقرة من كتاب لمؤلف أوربي صدر سنة 1944 يقول فيه؟ ""لقد كنا نخوّف بشعوب مختلفة، ولكننا بعد اختبار، لم نجد مبرراً لمثل هذا الخوف.. لقد كنا نخوّف من قبل بالخطر اليهودي، والخطر الأصفر، وبالخطر البلشفي. إلا أن هذا التخويف كله لم يتفق كما تخيلناه. إننا وجدنا اليهود أصدقاء لنا، وعلى هذا يكون كل مضطهد لهم عدونا الألد! ثم رأينا أن البلاشفة حلفاء لنا، أما الشعوب الصفراء فهنالك دول ديمقراطية كبرى تقاومها. ولكن الخطر الحقيقي كامن في نظام الإسلام، وفي قوته على التوسع والإخضاع، وفي حيويته.. إنه الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوربي "". ولا نستطيع أن نمضي أبعد من ذلك في استعراض تاريخ تلك الحرب العاتية التي أعلنتها الصليبية على الإسلام وما تزال.. وقد تحدثنا من قبل مراراً في أجزاء الظلال السابقة -بمناسبة النصوص القرآنية الكثيرة- عن طبيعة هذه المعركة، الطويلة، ومسائلها وأشكالها. فحسبنا هذه الإشارات السريعة هنا بالإحالة على بعض المراجع الأخرى القريبة. وهكذا نرى من هذا الاستعراض السريع -بالإضافة إلى ما قلناه من قبل عن طبيعة الإعلان الإسلامي العام بتحرير الإنسان. وتحفز الجاهلية في الأرض كلها لسحق الحركة التي تحمل هذا الإعلان العام وتنطلق به في الأرض كلها- أن هذه الأحكام الأخيرة الواردة في هذه السورة، هي المقتضى الطبيعي لهذه الحقائق كلها مجتمعة؛ وأنها ليست أحكاماً محددة بزمان، ولا مقيدة بحالة. وإن كان هذا في الوقت ذاته لا ينسخ الأحكام المرحلية السابقة النسخ الشرعي الذي يمنع العمل بها في الظروف والملابسات التي تشابه الظروف والملابسات التي تنزلت فيها. فهناك دائماً طبيعة المنهج الإسلامي الحركية، التي تواجه الواقع البشري مواجهة واقعية، بوسائل متجددة، في المراحل المتعددة. وحقيقة أن هذه الأحكام النهائية الواردة في هذه السورة كانت تواجه حالة بعينها في الجزيرة؛ وكانت تمهيداً تشريعياً للحركة المتمثلة في غزوة تبوك، لمواجهة تجمع الروم على أطراف الجزيرة مع عمالهم للانقضاض على الإسلام وأهله -وهي الغزوة التي يقوم عليها محور السورة- ولكن وضع أهل الكتاب تجاه الإسلام وأهله لم يكن وليد مرحلة تاريخية معينة. إنما كان وليد حقيقة دائمة مستقرة؛ كما أن حربهم للإسلام والمسلمين لم تكن وليدة فترة تاريخية معينة. فهي ما تزال معلنة ولن تزال.. إلا أن يرتد المسلمون عن دينهم تماماً!.. وهي معلنة بضراوة وإصرار وعناد، بشتى الوسائل على مدار التاريخ! ومن ثم فهذه الأحكام الواردة في هذه السورة أحكام أصيلة وشاملة وغير موقوتة بزمان ولا مقيدة بمكان.. ولكن العمل بالأحكام إنما يتم في إطار المنهج الحركي الإسلامي، الذي يجب أن يتم الفقه به، قبل أن يتحدث المتحدثون عن الأحكام في ذاتها. وقبل أن يحمل واقع ذراري المسلمين -الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان- وضعفهم وانكسارهم على دين الله القوي المتين! إن الأحكام الفقهية في الإسلام كانت -وستظل دائماً- وليدة الحركة وفق المنهج الإسلامي. والنصوص لا يمكن فهمها إلا باستصحاب هذه الحقيقة.. وفرق بعيد بين النظرة إلى النصوص كأنها قوالب في فراغ؛ والنصوص في صورتها الحركية وفق المنهج الإسلامي. ولا بد من هذا القيد:"" الحركة وفق المنهج الإسلامي ""فليست هي الحركة المطلقة خارج المنهج؛ بحيث نعتبر"" الواقع البشري ""هو الأصل أياً كانت الحركة التي أنشأته، ولكن"" الواقع البشري ""يصبح عنصراً أساسياً في فقه الأحكام إذا كان قد أنشأه المنهج الإسلامي ذاته. وفي ظل هذه القاعدة تسهل رؤية تلك الأحكام النهائية في العلاقات بين أهل الكتاب والمجتمع المسلم؛ وهي تتحرك الحركة الحية؛ في مجالها الواقعي؛ وفق ذلك المنهج الحركي الواقعي الإيجابي الشامل. وحسبنا هذا التمهيد المجمل لنواجه في ظله النصوص القرآنية الواردة في هذا المقطع. {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}.. هذه الآية -والآيات التالية لها في السياق- كانت تمهيداً لغزوة تبوك؛ ومواجهة الروم وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب.. وذلك يلهم أن الأوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة إليهم الغزوة؛ وأنها إثبات حالة واقعة بصفاتها القائمة. وهذا ما يلهمه السياق القرآني في مثل هذه المواضع.. فهذه الصفات القائمة لم تذكر هنا على أنها شروط لقتال أهل الكتاب؛ إنما ذكرت على أنها أمور واقعة في عقيدة هؤلاء الأقوام وواقعهم؛ وأنها مبررات ودوافع للأمر بقتالهم. ومثلهم في هذا الحكم كل من تكون عقيدته وواقعه كعقيدتهم وواقعهم.. وقد حدد السياق من هذه الصفات القائمة: أولاً: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانياً: أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
ثالثاً: أنهم لا يدينون دين الحق. ثم بين في الآيات التالية كيف أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق. وذلك بأنهم:
أولاً: قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله؛ وأن هذا القول يضاهئ قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين. فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر. (وسنبين بالضبط كيف أنه لا يؤمن باليوم الآخر).
ثانياً: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، والمسيح ابن مريم. وأن هذا مخالف لدين الحق.. وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء.. فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق..
ثالثاً: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم. فهم محاربون لدين الله. ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر يدين دين الحق أبداً.
رابعاً: يأكل كثير من أحبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل. فهم إذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله (سواء كان المقصود برسوله رسولهم أو محمد صلى الله عليه وسلم): وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس إلى نصارى الشام والروم. كما أنها واقعة بالقياس إلى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة دين المسيح عليه السلام؛ وقالت ببنوة عيسى عليه السلام، وبتثليث الأقانيم -على كل ما بين المذاهب والفرق من خلاف يلتقي كله على التثليث!- على مدار التاريخ حتى الآن! وإذن فهو أمر عام، يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب، الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم.. ولا يمنع من هذا العموم أن الأوامر النبوية استثنت أفراداً وطوائف بأعيانها لتترك بلا قتال كالأطفال والنساء والشيوخ والعجزة والرهبان الذين حبسوا انفسهم في الأديرة... بوصفهم غير محاربين -فقد منع الإسلام أن يقاتل غير المحاربين من أية ملة- وهؤلاء لم تستثنهم الأوامر النبوية لأنهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين. ولكن لأنه ليس من شأنهم أصلاً أن يقع منهم الاعتداء. فلا محل لتقييد هذا الأمر العام بأن المقصود به هم الذين وقع منهم اعتداء فعلاً -كما يقول المهزومون الذين يحاولون أن يدفعوا عن الإسلام الاتهام!- فالاعتداء قائم ابتداء. الاعتداء على ألوهية الله! والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله! والإسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله -سبحانه- والدفاع عن كرامة الإنسان في الأرض، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة والحرب والعداء.. ولا مفر من مواجهة طبائع الأشياء!"
إن أهل الكتاب بصفاتهم تلك حرب على دين الله اعتقاداً وسلوكاً؛ كما أنهم حرب على المجتمع المسلم بحكم طبيعة التعارض والتصادم الذاتيين بين منهج الله ومنهج الجاهلية الممثلة في عقيدة أهل الكتاب وواقعهم -وفق ما تصوره هذه الآيات- كما أن الواقع التاريخي قد أثبت حقيقة التعارض وطبيعة التصادم؛ وعدم إمكان التعايش بين المنهجين؛ وذلك بوقوف أهل الكتاب في وجه دين الله فعلاً، وإعلان الحرب عليه وعلى أهله بلا هوادة خلال الفترة السابقة لنزول هذه الآية (وخلال الفترة اللاحقة لها إلى اليوم أيضاً!).والإسلام -بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الأرض- لا بد أن ينطلق لإزالة العوائق المادية من وجهه؛ ولتحرير الإنسان من الدينونة بغير دين الحق؛ على أن يدع لكل فرد حرية الاختيار، بلا إكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك. وإذن فإن الوسيلة العملية لضمان إزالة العوائق المادية، وعدم الإكراه على اعتناق الإسلام في الوقت نفسه، هي كسر شوكة السلطات القائمة على غير دين الحق؛ حتى تستسلم؛ وتعلن استسلامها بقبول إعطاء الجزية فعلاً. وعندئذ تتم عملية التحرير فعلاً، بضمان الحرية لكل فرد أن يختار دين الحق عن اقتناع. فإن لم يقتنع بقي على عقيدته، وأعطى الجزية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والذي أراه في تفسير هذه الآية أنّ المقصود الأهم منها قتال أهل الكتاب من النصارى كما علمتَ ولكنّها أدمجت معهم المشركين لئلا يتوهّم أحد أنّ الأمر بقتال أهل الكتاب يقتضي التفرّغ لقتالهم ومتاركة قتال المشركين.
فالمقصود من الآية هو الصفة الثالثة {ولا يدينون دين الحق}.
وأمّا قوله: {الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} إلى قوله {ورسوله} فإدماج. فليس المقصود اقتصار القتال على من اجتمعت فيهم الصفات الأربع بل كل الصفة المقصودة هي التي أردفت بالتبيين بقوله: {من الذين أوتوا الكتاب} وما عداها إدماج وتأكيد لما مضى، فالمشركون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرّمون شيئاً ممّا حرم الله ورسوله لأنّهم لا شريعة لهم فليس عندهم حلال وحرام ولا يدينون دين الحق وهو الإسلام وأما اليهود والنصارى فيؤمنون بالله واليوم الآخر ويحرَمون ما حرّم الله في دينهم ولكنّهم لا يدينون دين الحقّ وهو الإسلام ويلحق بهم المجوس فقد كانت هذه الأديان هي الغالبة على أممِ المعروفِ من العالم يومئذٍ، فقد كانت الروم نصارى، وكان في العرب النصارى في بلاد الشام وطي وكلب وقضاعة وتغلب وبَكر، وكان المجوس ببلاد الفرس وكان فرق من المجوس في القبائل التي تتبع ملوك الفرس من تميم وبَكر والبحرين، وكانت اليهود في خيبر وقريظة والنضير وأشتات في بلاد اليمن وقد توفّرت في أصحاب هذه الأديان من أسباب الأمر بقتالهم ما أومأ إليه اختيار طريق الموصولية لتعريفهم بتلك الصلات لأنّ الموصولية أمكن طريق في اللغة لحكاية أحوال كفرهم.
ولا تحسبنّ أنّ عطف جمل على جملة الصلة يقتضي لزوم اجتماع تلك الصلات لكلّ ما صدق عليه اسم الموصول، فإن الواو لا تقيد إلاّ مطلق الجمع في الحكم فإنّ اسم الموصول قد يكون مراداً به واحد فيكون كالمعهود باللام، وقد يكون المراد به جنساً أو أجناساً ممّا يثبت له معنى الصلة أو الصلات، عَلى أنّ حرف العطف نائب عن العامل فهو بمنزلة إعادة اسم الموصول سواء وقع الاقتصار على حرف العطف كما في هذه الآية، أم جمع بين حرف العطف وإعادة اسم الموصول بعد حرف العطف كما في قوله تعالى: {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً والذين يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً، والذين يقولون ربّنا اصرف عنّا عذاب جهنّم إنّ عذابها كان غراماً إنّها ساءت مستقراً ومقاماً، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً، والذين لا يدعون مع الله إلها آخر} [الفرقان: 63 68] فقد عطفت فيها ثمانية أسماء موصولة على اسم الموصول ولم يقتض ذلك أنّ كلّ موصول مختصّ المَاصْدَق على طائفة خاصّة بل العبرةِ بالاتّصاف بمضمون إحدى تلك الصلات جميعها بالأولى، والتعويل في مثل هذا على القرائن.
وقوله: {من الذين أوتوا الكتاب} بيان لأقرب صلة منه وهي صلة {ولا يدينون دين الحق} والأصل في البيان أن يكون بلصق المبين لأنّ البيان نظير البدل المطابق وليس هذا من فروع مسألة الصفة ونحوها الواردة بعد جمل متعاطفة مفرد وليس بياناً لجملة الصلة على أنّ القرينة تردّه إلى مردّه. وفائدة ذكره التنديد عليهم بأنّهم أوتوا الكتاب ولم يدينوا دين الحقّ الذي جاء به كتابهم، وإنّما دانوا بما حرفوا منه، ومَا أنكروا منه، وما ألصقوا به، ولو دانوا دين الحق لاتّبعوا الإسلام، لأنّ كتابهم الذي أوتوه أوصاهم باتّباع النبي الآتي من بعد {وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيناكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدّق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون أفغير دين الله تبغون} [آل عمران: 81 83].
وقوله: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله}. بمعنى لا يجعلون حراماً ما حرّمه الله فإنّ مادة فعَّل تستعمل في جعل المفعول متّصفاً بمصدر الفعل، فيفيد قوله: {ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} أنّهم يجعلونه غير حرام والمراد أنّهم يجعلونه مباحاً. والمقصود من هذا تشنيع حالهم وإثارة كراهيتهم لهم بأنّهم يستبيحون ما حرّمه الله على عباده ولمّا كان ما حرمه الله قبيحاً منكراً لقوله تعالى: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف: 157] لا جرم أنّ الذين يستبيحونه دلّوا على فساد عقولهم فكانوا أهلاً لردعهم عن باطلهم على أنّ ما حرّم الله ورسوله شامل لكليات الشريعة الضروريات كحفظ النفس والنسب والمال والعرض والمشركون لا يحرّمون ذلك.
والمراد (برسوله) محمد صلى الله عليه وسلم كما هو متعارف القرآن ولو أريد غيره من الرسل لقال ورسله لأنّ الله ما حرّم على لسان رسوله إلاّ ما هو حقيق بالتحريم.
وعلى هذا التفسير تكون هذه الآية تهيئة للمسلمين لأنّ يغزوا الروم والفرس وما بقي من قبائِل العرب الذين يستظلّون بنصر إحدى هاتين الأمّتين الذينَ تأخر إسلامهم مثل قضاعة وتغلب بتخوم الشَّام حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية.
و {حتّى} غاية للقتال، أي يستمرّ قتالكم إيّاهم إلى أن يعطوا الجزية.
وضمير {يعطوا} عائِد إلى {الذين أوتوا الكتاب}.
والجِزية اسم لمال يعطيه رجال قوم جزاء على الإبقاء بالحياة أو على الإقرار بالأرض، بنيتْ على وزن اسم الهيئة، ولا مناسبة في اعتبار الهيئة هنا، فلذلك كان الظاهر. هذا الاسم أنّه معرب عن كلمة (كِزْيَت) بالفارسية بمعنى الخراج نقله المفسّرون عن الخوارزمي، ولم أقف على هذه الكلمة في كلام العرب في الجاهلية ولم يعرج عليها الراغب في « مفردات القرآن». ولم يذكروها في « مُعَرَّب القرآن» لوقوع التردّد في ذلك لأنّهم وجدوا مادّة الاشتقاق العربي صالحة فيها ولا شكّ أنّها كانت معروفة المعنى للذين نزل القرآن بينهم ولذلك عُرّفت في هذه الآية.
وقوله: {عن يد} تأكيد لمعنى {يعطوا} للتنصيص على الإعطاء و {عن} فيه للمجاوزة. أي يدفعوها بأيديهم ولا يقبل منهم إرسالها ولا الحوالة فيها، ومحلّ المجرور الحال من الجزية. والمراد يَد المعطي أي يعطوها غير ممتنعين ولا منازعين في إعطائها وهذا كقول العرب « أعطى بيده» إذا انقاد.
وجملة {وهم صاغرون} حال من ضمير يعطوا.
والصاغر اسم فاعل من صَغر بكسر الغين صَغَراً بالتحريك وصَغَاراً. إذا ذلّ، وتقدّم ذكر الصغار في قوله تعالى: {سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله} في سورة الأنعام (124)، أي وهم أذلاّء وهذه حال لازمة لإعطاء الجزية عن يد: والمقصود منه تعظيم أمر الحكم الإسلامي، وتحقير أهل الكفر ليكون ذلك ترغيباً لهم في الانخلاع عن دينهم الباطل واتّباعهم دين الإسلام. وقد دلّت هذه الآية على أخذ الجزية من المجوس لأنهم أهل كتاب ونقل عن ابن المنذر: لا أعلم خلافاً في أنّ الجزية تؤخذ منهم، وخالف ابنُ وهب من أصحاب مالك في أخذ الجزية من مجوس العرب. وقال لا تقبل منهم جزية ولا بدّ من القتل أو الإسلام كما دلت الآية على أخذ الجزية من نصارى العرب، دون مشركي العرب: لأنّ حكم قتالهم مضى في الآيات السالفة ولم يتعرّض فيها إلى الجزية بل كانت نهاية الأمر فيها قوله: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلّوا سبيلهم} [التوبة: 5] وقوله {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم} [التوبة: 11] وقوله {ويتوب الله على من يشاء} [التوبة: 15]. ولأنّهم لو أخذت منهم الجزية لاقتضى ذلك إقرارهم في ديارهم لأنّ الله لم يشرع إجلاءهم عن ديارهم وذلك لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم.