مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون }

اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المشركين في إظهار البراءة عن عهدهم ، وفي إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، وأورد الإشكالات التي ذكروها ، وأجاب عنها بالجوابات الصحيحة ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا إلى أن يعطوا الجزية ، فحينئذ يقرون على ما هم عليه بشرائط ، ويكونون عند ذلك من أهل الذمة والعهد ، وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى ذكر أن أهل الكتاب إذا كانوا موصوفين بصفات أربعة ، وجبت مقاتلتهم أو أن يعطوا الجزية .

فالصفة الأولى : أنهم لا يؤمنون بالله . واعلم أن القوم يقولون : نحن نؤمن بالله ، إلا أن التحقيق أن أكثر اليهود مشبهة ، والمشبه يزعم أن لا موجود إلا الجسم وما يحل فيه . فأما الموجود الذي لا يكون جسما ولا حالا فيه فهو منكر له ، وما ثبت بالدلائل أن الإله موجود ليس بجسم ولا حالا في جسم ، فحينئذ يكون المشبه منكرا لوجود الإله فثبت أن اليهود منكرون لوجود الإله .

فإن قيل : فاليهود قسمان : منهم مشبهة ، ومنهم موحدة ، كما أن المسلمين كذلك فهب أن المشبهة منهم منكرون لوجود الإله ، فما قولكم في موحدة اليهود ؟

قلنا : أولئك لا يكونون داخلين تحت هذه الآية ، ولكن إيجاب الجزية عليهم بأن يقال : لما ثبت وجوب الجزية على بعضهم وجب القول به في حق الكل ضرورة أنه لا قائل بالفرق . وأما النصارى : فهم يقولون : بالأب والابن وروح القدس ؛ والحلول والاتحاد ، وكل ذلك ينافي الإلهية .

فإن قيل : حاصل الكلام : أن كل من نازع في صفة من صفات الله ، كان منكرا لوجود الله تعالى ، وحينئذ يلزم أن تقولوا : إن أكثر المتكلمين منكرون لوجود الله تعالى ، لأن أكثرهم مختلفون في صفات الله تعالى . ألا ترى أن أهل السنة اختلفوا اختلافا شديدا في هذا الباب ، فالأشعري أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت إدراك الطعوم ، وإدراك الروائح ، وإدراك الحرارة والبرودة ، وهي التي تسمى في حق البشر بإدراك الشم والذوق واللمس ، والأستاذ أبو إسحق أنكره ، وأثبت القاضي للصفات السبع أحوالا سبعة معللة بتلك الصفات ، ونفاة الأحوال أنكروه ، وعبد الله بن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمرا ولا نهيا ولا خبرا ، ثم صار ذلك في الإنزال ، والباقون أنكروه ، وقوم من قدماء الأصحاب أثبتوا لله خمس كلمات ، في الأمر ، والنهي ، والخبر ، والاستخبار ، والنداء ، والمشهور أن كلام الله تعالى واحد ، واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور أم لا ؟ فثبت بهذا حصول الاختلاف بين أصحابنا في صفات الله تعالى من هذه الوجوه الكثيرة ، وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق في صفات الله تعالى ، فأكثر من أن يمكن ذكره في موضع واحد .

إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يكون الاختلاف في الصفات موجبا إنكار الذات أو لا يوجب ذلك ؟ فإن أوجبه لزم في أكثر فرق المسلمين أن يقال : إنهم أنكروا الإله ، وإن لم يوجب ذلك لم يلزم من ذهاب بعض اليهود وذهاب النصارى إلى الحلول والاتحاد كونهم منكرين للإيمان بالله ، وأيضا فمذهب النصارى أن أقنوم الكلمة حل في عيسى ، وحشوية المسلمين يقولون : إن من قرأ كلام الله فالذي يقرؤه هو عين كلام تعالى ، وكلام الله تعالى مع أنه صفة الله يدخل في لسان هذا القارئ وفي لسان جميع القراء ، وإذا كتب كلام الله في جسم فقد حل كلام الله تعالى في ذلك الجسم فالنصارى إنما أثبتوا الحلول والاتحاد في حق عيسى . وأما هؤلاء الحمقى فأثبتوا كلمة الله في كل إنسان قرأ القرآن ، وفي كل جسم كتب فيه القرآن ، فإن صح في حق النصارى أنهم لا يؤمنون بالله بهذا السبب ، وجب أن يصح في حق هؤلاء الحروفية والحلولية أنهم لا يؤمنون بالله ، فهذا تقرير هذا السؤال .

والجواب : أن الدليل دل على أن من قال إن الإله جسم فهو منكر للإله تعالى ، وذلك لأن إله العالم موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم ، فإذا أنكر المجسم هذا الموجود فقد أنكر ذات الإله تعالى ، فالخلاف بين المجسم والموحد ليس في الصفة ، بل في الذات ، فصح في المجسم أنه لا يؤمن بالله أما المسائل التي حكيتموها فهي اختلافات في الصفة ، فظهر الفرق . وأما إلزام مذهب الحلولية والحروفية ، فنحن نكفرهم قطعا ، فإنه تعالى كفر النصارى بسبب أنهم اعتقدوا حلول كلمة ( الله ) في عيسى وهؤلاء اعتقدوا حلول كلمة ( الله ) في ألسنة جميع من قرأ القرآن ، وفي جميع الأجسام التي كتب فيها القرآن ، فإذا كان القول بالحلول في حق الذات الواحدة يوجب التكفير ، فلأن يكون القول بالحلول في حق جميع الأشخاص والأجسام موجبا بالتكفير كان أولى .

والصفة الثانية : من صفاتهم أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر .

واعلم أن المنقول عن اليهود والنصارى : إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يميلون إلى البعث الروحاني .

واعلم أنا بينا في هذا الكتاب أنواع السعادات والشقاوات الروحانية ، ودللنا على صحة القول بها وبينا دلالة الآيات الكثيرة عليها ، إلا أنا مع ذلك نثبت السعادات والشقاوات الجسمانية ، ونعترف بأن الله يجعل أهل الجنة ، بحيث يأكلون ويشربون ، وبالجواري يتمتعون ، ولا شك أن من أنكر الحشر والبعث الجسماني ، فقد أنكر صريح القرآن ، ولما كان اليهود والنصارى منكرين لهذا المعنى ، ثبت كونهم منكرين لليوم الآخر .

الصفة الثالثة : من صفاتهم قوله تعالى : { ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله } وفيه وجهان : الأول : أنهم لا يحرمون ما حرم في القرآن وسنة الرسول . والثاني : قال أبو روق : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم .

الصفة الرابعة : قوله : { ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب } يقال : فلان يدين بكذا ، إذا اتخذه دينا فهو معتقده ، فقوله : { ولا يدينون دين الحق } أي لا يعتقدون في صحة دين الإسلام الذي هو الدين الحق ، ولما ذكر تعالى هذه الصفات الأربعة قال : { من الذين أوتوا الكتاب } فبين بهذا أن المراد من الموصوفين بهذه الصفات الأربعة من كان من أهل الكتاب ، والمقصود تمييزهم من المشركين في الحكم ، لأن الواجب في المشركين القتال أو الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال أو الإسلام أو الجزية .

ثم قال تعالى : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } وفيه مسائل :

المسألة الأولى : قال الواحدي : الجزية هي ما يعطي المعاهد على عهده ، وهي فعلة من جزى يجزى إذا قضى ما عليه ، واختلفوا في قوله : { عن يد } قال صاحب «الكشاف » قوله : { عن يد } إما أن يراد به يد المعطي أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ، ففيه وجهان : أحدهما : أن يكون المراد { عن يد } مؤاتية غير ممتنعة ، لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك يقال : أعطى يده إذا انقاد وأطاع ، ألا ترى إلى قولهم نزع يده عن الطاعة ، كما يقال : خلع ربقة الطاعة من عنقه . وثانيهما : أن يكون المراد حتى يعطوها عن يد إلى يد نقدا غير نسيئة ولا مبعوثا على يد أحد ، بل على يد المعطي إلى يد الآخذ . وأما إذا كان المراد يد الآخذ ففيه أيضا وجهان : الأول : أن يكون المراد حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم كما تقول : اليد في هذا لفلان . وثانيهما : أن يكون المراد عن إنعام عليهم ، لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم عليهم نعمة عظيمة .

وأما قوله : { وهم صاغرون } فالمعنى أن الجزية تؤخذ منهم على الصغار والذل والهوان بأن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس . ويؤخذ بلحيته ، فيقال له : أد الجزية وإن كان يؤديها ويزج في قفاه ، فهذا معنى الصغار . وقيل : معنى الصغار ههنا هو نفس إعطاء الجزية ، وللفقهاء أحكام كثيرة من توابع الذل والصغار مذكورة في كتب الفقه .

المسألة الثانية : في شيء من أحكام هذه الآية .

الحكم الأول

استدللت بهذه الآية على أن المسلم لا يقتل بالذمي والوجه في تقريره أن قوله : { قاتلوهم } يقتضي إيجاب مقاتلتهم ، وذلك مشتمل على إباحة قتلهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم ، فلما قال : { حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } علمنا أن مجموع هذه الأحكام قد انتهت عند إعطاء الجزية ، ويكفي في انتهاء المجموع ارتفاع أحد أجزائه ، فإذا ارتفع وجوب قتله وإباحة دمه ، فقد ارتفع ذلك المجموع ، ولا حاجة في ارتفاع المجموع إلى ارتفاع جميع أجزاء المجموع .

إذا ثبت هذا فنقول : قوله : قاتلوا الموصوفين من أهل الكتاب ، يدل على عدم وجوب القصاص بقتلهم وقوله : { حتى يعطوا الجزية } لا يوجب ارتفاع ذلك الحكم ، لأنه كفى في انتهاء ذلك المجموع انتهاء أحد أجزائه وهو وجوب قتلهم ، فوجب أن يبقى بعد أداء الجزية عدم وجوب القصاص كما كان .

الحكم الثاني

الكفار فريقان ، فريق عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرون على دينهم بأخذ الجزية ، ويجب قتالهم حتى يقولوا لا إله إلا الله ، وفريق هم أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى والسامرة والصابئون ، وهذان الصنفان سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فينا ، والمجوس أيضا سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه السلام : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب » وروي أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر ، فهؤلاء يجب قتالهم حتى يعطوا الجزية ويعاهدوا المسلمين على أداء الجزية ، وإنما قلنا إنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، لأنه تعالى لما ذكر الصفات الأربعة ، وهي قوله تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون } قيدهم بكونهم من أهل الكتاب وهو قوله : { من الذين أوتوا الكتاب } وإثبات ذلك الحكم في غيرهم يقتضي إلغاء هذا القيد المنصوص عليه وأنه لا يجوز .

الحكم الثالث

في قدر الجزية . قال أنس : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم دينارا ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهما ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين . قال أصحابنا : وأقل الجزية دينار ، ولا يزاد على الدينار إلا بالتراضي ، فإذا رضوا والتزموا الزيادة ضربنا على المتوسط دينارين ، وعلى الغني أربعة دنانير ، والدليل على ما ذكرنا : أن الأصل تحريم أخذ مال المكلف إلا أن قوله : { حتى يعطوا الجزية } يدل على أخذ شيء ، فهذا الذي قلناه هو القدر الأقل ، فيجوز أخذه والزائد عليه لم يدل عليه لفظ الجزية والأصل فيه الحرمة ، فوجب أن يبقى عليها .

الحكم الرابع

تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى في أول السنة ، وعند الشافعي رحمه الله تعالى في آخرها .

الحكم الخامس

تسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة رحمه الله ، لقوله عليه الصلاة والسلام : «ليس على المسلم جزية » وعند الشافعي رحمه الله لا تسقط .

الحكم السادس

قال أصحابنا : هؤلاء إنما أقروا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل وأيضا مكناهم من أيديهم ، فربما يتفكرون فيعرفون صدق محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى ، والله أعلم . وبقي ههنا سؤالان :

السؤال الأول : كان ابن الراوندي يطعن في القرآن ويقول : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى . قوله : { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا } فبين أن إظهارهم لهذا القول بلغ إلى هذا الحد ، ثم إنه لما أخذ منهم دينارا واحدا أقرهم عليه وما منعهم منه .

والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكفر ، بل المقصود منها حقن دمه وإمهاله مدة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسن الإسلام وقوة دلائله ، فينتقل من الكفر إلى الإيمان .

السؤال الثاني : هل يكفي في حقن الدم دفع الجزية أم لا ؟

والجواب : أنه لابد معه من إلحاق الذل والصغار للكفر والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل والصغار ، فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عز الإسلام ويسمع دلائل صحته ، ويشاهد الذل والصغار في الكفر ، فالظاهر أنه يحمله ذلك على الانتقال إلى الإسلام ، فهذا هو المقصود من شرع الجزية .