اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } الآية .

لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية .

قال مجاهدٌ " نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الرُّوم ، فغزا بعدها غزوة تبوك " {[17720]} وقال الكلبيُّ " نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين " {[17721]} .

فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف أمر بقتالهم ؟ .

فالجوابُ : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ؛ فإنَّهم إذا قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ .

قوله : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أي : لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن ، وبينه الرسول ، وقال أبو زيدٍ : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم .

قوله { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } أي : لا يدينون الدِّين الحق ، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة : " الحَقّ " هو الله - عزَّ وجلَّ - ؛ أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام{[17722]} . قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ .

قوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيانٌ للموصول قبله ، والمرادُ : اليهودُ والنصارى { حتى يُعْطُواْ الجزية } وهي الخراجُ المضروب على رقابهم ، و " الجِزْيةُ " : " فِعْلَة " ، لبيان الهيئة ، ك " الرِّكْبَة " . قال الواحديُّ : " الجزيةُ : ما يعطى المعاهد على عهده ، وهي " فِعْلة " من جزى يجزي إذا قضى ما عليه " .

قوله : " عَن يَدٍ " حالٌ ، أي : يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء ، وكذلك : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .

قال الزمخشريُّ " قوله : " عن يدٍ " إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي ، أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان :

أحدهما : عن يد غير ممتنعة ؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده ، بخلافِ المطيع المنقاد .

وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة ، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ .

وإن كان المرادُ به : يد الآخذ ، ففيه وجهان :

الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم ، كما تقولُ : اليد في هذا لفلان .

وثانيها : أنَّ المراد : عن إنعام عليهم ؛ لأنَّ قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم " .

قوله { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان ، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية .

وقال الكلبيُّ : " إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ " {[17723]} . وقيل : يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء .

وقيل : إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار ؛ وقال الشافعيُّ " الصِّغارُ : جريان أحكام الإسلام عليهم " .

فصل

الكفار فريقان ، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية ؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلاَّ الله ، ويصيروا مؤمنين .

والثاني : أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى ؛ فهؤلاء يقرون بالجزية ، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ " {[17724]} ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ .

فصل

اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى{[17725]} إذا لم يكونوا عرباً ، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ؛ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال ؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال : غسان - ، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب ؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ .

وقال أبُو حنيفة : تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم ، وتؤخذُ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العربِ . وقال أبو يوسف : لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً ، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ " {[17726]} .

فصل

قال القاضي{[17727]} : قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين ، ولمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً ، أي : بالغ ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط ، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان ، وكذلك لا تجب على النساء ، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ .

فصل

تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة ، وعند الشافعي وغيره في آخرها . وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام " لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ " {[17728]} وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا تسقطُ .

فصل

قال بعضُ العلماءِ : هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل ، وأيضاً فكتابهم في أيديهم ، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى .

فصل

طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى ، قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90-91 ] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه ، وما منعهم منه .

والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله ؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان .


[17720]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (6/349) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/410) وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ والبيهقي. وذكره البغوي في "تفسيره" (2/282).
[17721]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/282).
[17722]:ذكره البغوي في "تفسيره" (2/282).
[17723]:انظر المصدر السابق.
[17724]:أخرجه مالك (1/278) والشافعي (2/130) وعبد الرزاق (6/68-69) رقم(10025) وابن أبي شيبة (12/243) وأبو عبيد في "الأموال" رقم (78) والبيهقي (9/189-190) كلهم من طريق جعفر بن محمد عن أبيه عن عمر به قال الحافظ في "الفتح" (6/261) هذا منقطع مع ثقة رجاله.
[17725]:ثبتت مشروعية عقد الذمة بالكتاب والسنة والإجتماع. أما الكتاب: فقوله تعالى:{ قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} ففي هذه الآية جعل الله نهاية قتالهم إعطاءهم الجزية والتزامها. وأما السنة: فما رواه الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة أنه قال لعامل كسرى من حديث طويل " أمرنا نبينا رسول ربنا أن نقاتلكم حتى تعبدوا الله وحده أو تؤدوا الجزية" وهذا الحديث يبين أن القتال غايته الإسلام، أو إعطاء الجزية وما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميرا على سرية أو جيش أوصاه في خاصته بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرا، وقال له: وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأتيتهن ما أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ثم قال: فإن هم أبوا فسلهم الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله عليهم وقاتلهم" الحديث-وهذا الحديث أيضا يفيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأمر أمراء الجيوش بدعوة الكفار إلى إعطاء الجزية وجعل قبولهم لها سببا في ترك القتال. وأما الإجماع: فقد أجمع المسلمون على جواز عقد الذمة مع الكفار في الجملة. وشرع عقد الذمة في السنة الثامنة أو التاسعة من الهجرة وشرعت الذمة في الإسلام لما اشتملت عليه من فوائد كثيرة لعقد الصلات السلمية بين المسلمين وغيرهم، وقد وضع الإسلام لها قواعد وافية إذا روعيت نشأ عنها صلح دائم فيه الطمأنينة والسلامة والأمن، فإذا عقد الحربي ذمة مع المسلمين أصبح آمنا على نفسه وولده وماله بعد أن كان دمه مهدرا وولده مسبيا وماله مغنوما وحماه مستباحا. ومن فوائدها أنها تعطي الحربي فرصة للاتصال بالمسلمين يعرضون أمامه كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وتعاليم دينهم، ومحاسنه وآدابه، ورفقه، وقلة تكاليفه وسهولتها فربما مال قلبه لدين الحق فآمن به وكان من الفائزين، وقد دخل كثير من الناس في الإسلام عن هذا الطريق فهو في الواقع سبيل سلمي من سبل الدعوة إلى الدين. واتفق الفقهاء على أن الذمة تعقد لأهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، ومن دان بدينهم لقوله تعالى:{قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون}. وتعقد للمجوس لما رواه البخاري، وأبو داود، والترمذي، وأحمد عن عمر أنه لم يأخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر، وفي رواية أن عمر رضي الله عنه ذكر المجوس فقال ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" رواه الشافعي. واختلفوا في عبدة الأوثان فعند الشافعي، وأحمد في ظاهر المذهب، وابن حزم أن غير اليهود، والنصارى، والمجوس لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. وذهب الحنفية إلى أن عقد الذمة جائز مع جميع الكفار ما عدا مشركي العرب والمرتدين. وذهب الإمام مالك، والأوزاعي وفقهاء الشام إلى أنه جائز مع جميع الكفار ما عدا المرتدين. واستدل الإمام الشافعي بعموم قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} فإنه عام في قتل كل مشرك خص منه أهل الكتاب بقوله تعالى: {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} الآية، والمجوس بقوله عليه الصلاة والسلام "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فبقي من عداهم داخلا في العموم. وأما ما ورد في حديث بريدة من قوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا لقيت عدوك من المشركين إلى قوله فسلهم الجزية" فمنسوخ أو محمول على أهل الكتاب. واستدل الحنفية على جواز عقدها مع غير مشركي العرب والمرتدين بقياس أخذ الجزية على استرقاقهم بجامع أن كلا فيه استسلام المأخوذ منهم، ودخولهم في حوزة الإسلام وكف المسلمين عن قتلهم. واستدلوا على عدم جواز عقدها مع مشركي العرب والمرتدين بأن كفرهم قد تغلظ، أما مشركو العرب فلأن النبي صلى الله عليه وسلم نشأ بينهم، والقرآن نزل بلغتهم فالمعجزة فيحقهم أظهر، وأما المرتدون فلأنهم كفروا بربهم بعدما هدوا إلى الإسلام ووقفوا على محاسنه فلا يقبل من الفريقين إلا الإسلام أو السيف. واستدل الإمام مالك، ومن معه بما رواه مسلم عن بريدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام، إلى أن قال فإن هم أبوا فسلهم الجزية"، فقد أمره بأخذ الجزية من المشركين من غير فرق بين عربي وعجمي. واستدل على عدم جواز أخذها من المرتدين بمثل ما تقدم للحنفية.
[17726]:تقدم.
[17727]:ينظر: تفسير الفخر الرازي 16/26.
[17728]:أخرجه أبو داود (2/187) كتاب الخراج والفيء والإمارة: باب في الذمي يسلم على بعض السنة هل عليه جزية الحديث (3053) من طريق قابوس عن أبيه عن ابن عباس.