قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } الآية .
لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم ، وفي وجوب مقاتلتهم ، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام ، ذكر بعده حكم أهل الكتاب ، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية .
قال مجاهدٌ " نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الرُّوم ، فغزا بعدها غزوة تبوك " {[17720]} وقال الكلبيُّ " نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ ، فصالحهم ، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام ، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين " {[17721]} .
فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر ، فكيف أمر بقتالهم ؟ .
فالجوابُ : لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ؛ فإنَّهم إذا قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ .
قوله : { وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } أي : لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن ، وبينه الرسول ، وقال أبو زيدٍ : لا يعملون بما في التوراة والإنجيل ، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم .
قوله { وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق } أي : لا يدينون الدِّين الحق ، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة : " الحَقّ " هو الله - عزَّ وجلَّ - ؛ أي : لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام{[17722]} . قال أبو عبيدة : معناه : لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ .
قوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيانٌ للموصول قبله ، والمرادُ : اليهودُ والنصارى { حتى يُعْطُواْ الجزية } وهي الخراجُ المضروب على رقابهم ، و " الجِزْيةُ " : " فِعْلَة " ، لبيان الهيئة ، ك " الرِّكْبَة " . قال الواحديُّ : " الجزيةُ : ما يعطى المعاهد على عهده ، وهي " فِعْلة " من جزى يجزي إذا قضى ما عليه " .
قوله : " عَن يَدٍ " حالٌ ، أي : يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء ، وكذلك : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } .
قال الزمخشريُّ " قوله : " عن يدٍ " إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي ، أو يد الآخذ ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان :
أحدهما : عن يد غير ممتنعة ؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده ، بخلافِ المطيع المنقاد .
وثانيهما : حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة ، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ .
وإن كان المرادُ به : يد الآخذ ، ففيه وجهان :
الأول : حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم ، كما تقولُ : اليد في هذا لفلان .
وثانيها : أنَّ المراد : عن إنعام عليهم ؛ لأنَّ قبول الجزية منهم ، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم " .
قوله { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان ، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً ، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس ، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية .
وقال الكلبيُّ : " إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ " {[17723]} . وقيل : يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء .
وقيل : إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار ؛ وقال الشافعيُّ " الصِّغارُ : جريان أحكام الإسلام عليهم " .
الكفار فريقان ، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا ، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية ؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا : لا إله إلاَّ الله ، ويصيروا مؤمنين .
والثاني : أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى ؛ فهؤلاء يقرون بالجزية ، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ " {[17724]} ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ .
اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب ، وهم اليهود والنصارى{[17725]} إذا لم يكونوا عرباً ، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم ؛ فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب ، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً ، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال ؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال : غسان - ، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب ؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ .
وقال أبُو حنيفة : تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم ، وتؤخذُ من مشركي العجم ، ولا تؤخذ من مشركي العربِ . وقال أبو يوسف : لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً ، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ " {[17726]} .
قال القاضي{[17727]} : قسم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين ، ولمَّا بعث رسولُ الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً ، أي : بالغ ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط ، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان ، وكذلك لا تجب على النساء ، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ .
تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة ، وعند الشافعي وغيره في آخرها . وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عليه الصلاة والسلام " لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ " {[17728]} وعند الشافعي - رضي الله عنه - لا تسقطُ .
قال بعضُ العلماءِ : هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل ، وأيضاً فكتابهم في أيديهم ، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته ، فأمهلوا لهذا المعنى .
طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال : إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى ، قوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90-91 ] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه ، وما منعهم منه .
والجواب : ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة ، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله ؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان .