وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ) الآية ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى ، وأخبر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وهم في الظاهر يقرون بوحدانية الله واليوم الآخر في المعنى منه .
قيل : هم ، وإن آمنوا في الظاهر بالله واليوم الآخر ، فإنما يؤمنون بإله ، له ولد ، كما ذكره على إثره ، وهو قوله : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله )[ التوبة : 30 ] فالإيمان بإله ، له ولد ليس بإيمان بالله ، فهم غير مؤمنين .
وكذلك آمنوا بالبعث واليوم الآخر ، ولكن لم يؤمنوا بالموعود في الآخرة . فالإيمان باليوم الآخر بغير الموعود فيه ليس بإيمان به . أو أن يقال : إنهم ، وإن أقروا بما ذكرنا ، وآمنوا به ، فقد استحلوا أشياء ، حرمها الله عليهم ، وحرموا أشياء ، أحلها الله لهم . ومن آمن بالكتب كلها والرسل ، ولم يؤمن بآية منها أو برسول منهم فهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر ولا مصدق له .
وقوله تعالى : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية ذكر أهل الكتاب اليهود والنصارى ، وأخبر أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ، وهم في الظاهر يقرون بوحدانية الله واليوم الآخر في المعنى منه .
قيل : هم ، وإن آمنوا في الظاهر بالله واليوم الآخر ، فإنما يؤمنون بإله ، له ولد ، كما ذكره على إثره ، وهو قوله : ( وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ )[ التوبة : 30 ] فالإيمان بإله له ولد ، ليس بإيمان بالله ، فهم غير مؤمنين .
وكذلك آمنوا بالبعث واليوم الآخر ، ولكن لم يؤمنوا بالموعود في الآخرة . فالإيمان باليوم الآخر بغير الموعود فيه ليس بإيمان به . أو أن يقال : إنهم ، وإن أقروا بما ذكرنا ، وآمنوا به ، فقد استحلوا أشياء ، حرمها الله عليهم ، وحرموا أشياء أحلها الله لهم . ومن آمن بالكتب كلها والرسل ، ولم يؤمن بآية منها أو برسول منهم فهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر ولا مصدق له .
وقوله تعالى : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) الآية فإن قال لنا ملحد : إنكم تقاتلون الكفرة للكفر ، ثم إذا أعطوكم شيئا من المال تركتم مقاتلتهم . فلو كان قتالكم إياهم لذلك لطمع في الدنيا لكنتم لا تتركون [ مقاتلتهم لشيء ، يبذلونه لكم ][ في الأصل : لمقاتلتهم لشيء يبذلونكم ] وكذلك لو كانت المقاتلة للكفر نفسه لكان النساء في ذلك والرجال سواء ، إذ هم في الكفر شرع[ في الأصل وم : شرعا ] سواء . وقالوا : لو كانت المقاتلة معهم لما ذكرنا ، وهو حكمه ، والأمر بذلك حكيما لكان الناس جميعا في ذلك سواء ، ولا يتركون أحدا بشيء من ذلك ، بل يقاتلون أبدا ولا يرضون منه غيره .
فيقال لهم : إنا لا نقاتل الكفرة للكفر ، ولكنا ندعوهم إلى الإسلام ، فإن أحابوا إلى ذلك ، وإلا قاتلناهم ليضطرهم القتل إلى الإسلام . لهذا ما نقاتلهم لشيء سواه . فإذا كان في أخذ الجزية معنى ما ندعوهم إلى الإسلام : فإذا قبلوا ذلك تركناهم على ذلك لعلهم /211-أ/ يرغبون في الإسلام إذا رأوا شرائعنا وأحكامنا ، لا إنا تركناهم رغبة في ما نأخذ منهم أو طمعا في ذلك .
وأصله المحنة ، إذ الدار دار المحنة ليست بدار الجزاء ، والمحنة تكون بمختلف الأشياء لا بما يتلفها[ في الأصل وم : تلفها ] ؛ مرة يمتحنهم بالقتل ، ومرة بأخذ الأموال ، ومرة بالشدائد كقوله : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف )الآية[ البقرة : 155 ] وقوله : ( وبلوناهم بالحسنات والسيئات )[ الأعراف : 168 ] ونحو ذلك .
فإذا كان ذلك محنة لا جزاء أجاز ذلك حكمه . وأما قوله بأنا نقاتل الرجال ولا نقاتل النساء ، ونسترقهن ؛ لأنهن أتباع للرجال في جميع الأحوال وخدم لهم فإذا أسلموا أسلمن . هذا معروف في ما بينهم ؛ إذ هن في أيدي الرجال يفعلون بهن ما شاؤوا .
وأصله ما ذكرنا أن القتال محنة ليس هو جزاء الكفر ؛ إذ الدار دار المحنة ، فلهو أن يمتحن بعضا بالقتل وبعضا بأخذا المال [ وبعضا ][ ساقطة من الأصل وم ] لا بذا ولا ذاك . ولو كان جزاء لسوى بينهم وهو التخليد في النار أبدا .
فإن قيل : ما الحكمة في أخذ الجزية من سائر الكفرة ، إذا كانوا أهل الكتاب أو المجوس ، وترك الأخذ من مشركي العرب ؟ قيل لوجوه :
أحدها : أن ليس مشركي العرب دين يدينون به ، يقاتلون عن ذلك الدين ، ولا له أصل يعتمدون ، عليه ، ويحاجون الناس بالحجاج التي لهم .
فإذا كان كذلك أمكن إقامة الحجج على هؤلاء وإلزام البراهين ، ولا كذلك مشركو العرب ؛ إذ لا دين لهم ينسبون إليهم ومذاهب يدعون غيرهم إليها[ في الأصل وم : إليه ] بالحجاج . وأمكن في غيرهم . لذلك افترقا ، والله أعلم بذلك .
والثاني : أنهم تمنوا أن يكون لهم رسول من جنسهم يتبعون فيما يدعوهم إليه ، ونذير يجيبونه ، حتى أقسموا على ذلك وأكدوا القول في ذلك ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم ) الآية[ الأنعام : 109 ] ولم يكن من غيرهم من الكفرة ما كان منهم .
فإذا كان كذلك فهم يقاتلون أبدا حتى يوفوا ما وعدوا كقوله : ( تقاتلونهم أو يسلمون )[ الفتح : 16 ] .
والثالث : لفضل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان منهم ومن جنسهم ، فلا يترك أحد في تلك البقعة على غير دينه .
وأمكن أن يكون وجه آخر ؛ وهو أن مشركي العرب في حد القليل أمكنت المقاتلة معهم والقيام لهم ، فلا يرضى منهم إلا الإسلام . وأما غيرهم من الكفرة في بقاع مختلفة وهم كثير ، إذا اجتمعوا لم يكن في وسع أهل الإسلام القيام لهم والقتال معهم ، فيلحق المسلمين في ذلك ضرر بين . لذلك كان ما ذكر .
وقوله تعالى : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ) الآية . قد ذكرنا أنهم ، وإن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر عند أنفسهم أنهم في الحقيقة غير مؤمنين به ؛ لأن شرط إيمانهم بالرسل جميعا والكتب أجمع فهم قد تركوا الإيمان ببعض الرسل وببعض الكتب . ومن كفر برسول من الرسل أو بكتاب من الكتب أو بحرف منها كان كافرا بالله . وقوله تعالى : ( وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) يحتمل أنهم لا يحرمون تحرف الكتب وكتمان بعث[ في الأصل وم : نعت ] رسول الله ، والله حرم ذلك عليهم ، أو لا يحرمون عبادة الأوثان ، والله ورسوله يحرمان[ في الأصل وم : يحرم ] ذلك ، أو لا يحرمون ما حرم الله ورسوله من الخمر والخنزير وغيرهما ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ ) وهو الإسلام لأنه توجبه العقول كلها وتشهد [ به ][ ساقطة من الأصل وم ] خلقة الخلائق كلها ، أو أن يقول : لا يدينون دين الذي [ له الحق ، إنما يدينون الدين الذي ][ من م ، ساقطة من الأصل ] لا حق له وهو دين الشيطان ، وهو ما يدعوهم إلى عبادة الأصنام ، فيجيبونه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : ( حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) يحتمل [ في الأصل وم : ويحتمل ] قوله : ( يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ) أي يقبلوها لا على الإعطاء نفسه ، وهو ما ذكرنا في قوله : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ )[ التوبة : 5و11 ] وهو على القبول لها لا على الفعل نفسه . ويحتمل نفس الإعطاء ؛ وهو ، والله أعلم ، ما جعلت الجزية لحقن الدماء تقدم[ في الأصل وم : فتقدم ] لتحقن بها الدماء[ من م : في الأصل : الدم ] .
وقوله تعالى : ( عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ) قال بعضهم ( عن يد ) أي لا يؤخر قبضها عن وقت قبولها بل تؤخذ يدا عن يد .
وقال بعضهم : ( عن يد ) أي عن قهر وغلبة . وقيل ( عن يد ) عن طوع وطيب . وقيل : عن [ جماعتهم ، لكنا لا ندري ما يعنون بالجماعة ][ من م ، في الأصل : جماعهم ] .
وقوله تعالى : ( صاغرون ) قيل : ذليلون ، وهو من الذل ؛ يقال صغر الرجل يصغر صغارا فهو صاغر أي ذل ، فهو ذليل وقيل ( صاغرون ) أي مذمومون[ في الأصل وم : مذمون ] . وعن ابن عباس رضي الله عنه [ أنه قال ][ ساقطة من الأصل وم ] يمشون بها تلبين .
وأصلها الذلة التي ذكر الله في قوله : ( ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا )[ آل عمران : 112 ] فإذا قبلوا ذلك فقد أذهبوا الذل والصغار .
وقوله تعالى : ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ) الآية . أما اليهود والنصارى فلا خلاف بين أهل العلم في أن من بذل منهم الجزية أخذت منه ، [ وأقر به ][ في الأصل : وأقرب ] على دينه .
وأما المجوس فإنه يؤخذ منهم الجزية لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : ما أدري أصنع بالمجوس فإنهم ليسوا بمسلمين ولا من أهل الكتاب .
قال عبد الرحمن بن عوف : أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب »[ البيهقي في الكبرى91/198و190 ] . وفي بعض الروايات أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر .
وعن علي أن أبا بكر وعمر أخذا الجزية من المجوس وقال علي بن أبي طالب أنا أعلم الناس بهم كانوا أهل كتاب يقرؤونه ، وأهل علم يدرسونه فنزع ذلك من صدروهم . وعن أبي ذر عن أبي موسى [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : لولا إني رأيت أصحابي أخذوا الجزية من المجوس ما أخذتها .
وعن أبي عبيدة من الجراح [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر أنه قال : «من استقبل قبلتنا ، وصلى صلاتنا وأكلنا ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة رسوله ومن أحب ذلك من المجوس فهو آمن ومن أبى فعليه الجزية »[ بنحوه عبد الرزاق الصنعاني في المصنف 20113 ] .
وعلى ذلك مضت الأئمة ولم ينكر أحد من السلف حتى قال قوم من المجوس إنما أخذت منهم الجزية لأنهم أهل كتاب ولكن الجزية تؤخذ اتباعا لرسول الله : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نساءهم ولا آكلي ذبائحهم »[ البيهقي في الكبرى 91/189و190 ] وروي عن الصحابة وأئمة الهدى .
ثم المسألة في تقدير الجزية . روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «أنه بعث معاذا إلى اليمن فقال له : خذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر »[ السيوطي في الذر المنثور 4/169 ] .
وروي عن عمر رضي الله عنه أنه بعث عثمان بن عفان حليفا إلى السواد وأمر أن يضع على أهل السواد الخراج ثمانية وأربعين درهما أو أربعة وعشرين درهما أو اثني عشر درها ، وفي بعض الروايات أنه ضرب على أهل الذهب أربعة دنانير وعلى أهل الورق أربعين درهما ، مع ذلك أرزاقا للمسلمين وضيافة ثلاثة أيام .
وأصحابنا يجعلونهم ثلاث طبقات : أغنياء وأوساطا وفقراء ؛ فيؤخذ من الغني الموسر ثمانية وأربعون درهما ومن الوسط أربعة وعشرون ومن الفقير المحارف اثنا عشر درهما ، وفي بعض الأخبار أربعون درهما أو أربعة دنانير وضيافة ثلاثة أيام أو عشرون درهما أو دينار أو هو ما ذكرنا ثمانية وأربعون بغير ضيافة وغير مؤنة .
وما روي من أربعين درهما أو أربعة دنانير مع الضيافة والرزق الذي ذكر في الخبر وهذا من عمر بحضرة المهاجرين والأنصار ، فلم يأتي عن أحد النكير عليه ولا الرد ، فهو كالاتفاق منهم على ذلك .
ثم لا يحتمل أن يكون عمر قدر ذلك التقدير رأيا منه لأن المُقَدرات /211-ب/ والمُعَذِّرات ، سبيل معرفتها التوقيف والسمع لا العقل ، فهو كالمسموع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وما روي من حديث معاذ حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ من أهل اليمن من كل حالم دينارا فذلك يحتمل أن يكون أمر بذلك لما كانوا أهل ضعف وفقر على ما روي عن عمر في العلماء وليس هو الحد الذي لا يلزم أكثر من ذلك لما ذكرنا أن عمر ألزم المياسير أكثر من دينار ، ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة ، فدل فعلهم على ما وصفناه .
ثم المسألة في تمييز أصحاب الطبقات بين الوسط والفقير : قال بعضهم : الفقير ممن يحترف ، وليس له مال ، يجب في مثله الزكاة على المسلمين ، وهم الفقراء المحترفون فمن كان[ في الأصل وم : كانت ] له أقل من مائتي درهم فهو من أهل هذه الطبقة .
والطبقة [ الثانية ][ ساقطة من الأصل وم ] أن يبلغ مال الرجل مائتي درهم ، فقال بعضهم إذا بلغ ماله أربعة ألاف درهم وزاد عليها ، صار من أهل الطبقة الثالثة ، واحتجوا بقول[ في الأصل وم : من قول ] وأحتجوا بقول أبي طالب رضي الله وابن عمر حين[ في الأصل وم : حيث ] قالا : أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما فوق ذلك كنز .
وقد يجوز أن تجعل الطبقة الثانية من ملك مائتي درهم إلى عشرة ألاف درهم ، وما زاد على ذلك يجعل من الطبقة الثالثة لحديث روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال : «من ترك عشرة آلاف درهم جعلت صفائح يعذب بها يوم القيامة »[ بنحوه مسلم 987/26 ] .
ثم في قوله ( قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ ) دلالة على أن الجزية إنما تؤخذ ممن يجب أن يقاتل إن لم يبذلها ، والنساء والصبيان [ لا يقاتلون ][ ساقطة من م ] ، ولا يقاتلن إن ظهر بهم ، فلا يجب أن يوضع عليهم الجزية بدليل الكتاب إذ كان الله إنما أمر أن تؤخذ الجزية ممن يقاتل .
وكذلك فعل عمر والأئمة بعده ؛ روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أمير الجيوش لا تقاتلوا إلا من قاتلكم ، ولا تقتلوا الصبيان والنساء ولا تقتلوا إلا من جرت عليه المواشي ، وكتب إلى عماله أن يضربوا الجزية ولا يضربوها على النساء والصبيان . وفي بعض الروايات أنه كتب إلى أمير الأجناد ألا تضربوا[ في الأصل وم : تأخذوا ] الجزية إلا على من جرت عليه المواشي قال : والجزية أربعون درهما أو أربعة دنانير .
وفي خبر معاذ دلالة لذلك حين[ في الأصل وم : حيث ] قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن وأمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر ؛ بين معاذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يأخذ ذلك من الرجال دون الصبيان ودون النساء .
فإن قيل : روي عن معاذ [ أنه ][ ساقطة من الأصل وم ] قال : أمرني رسول الله أن آخذ من كل حالم وحالمة دينارا . وفي بعض الروايات عنه أنه قال : «خذ[ في الأصل وم : أن آخذ ] من كل حالم ذكر أو أنثى دينارا »[ السيوطي في الدر المنثور 4/169 ] . فإن كان هذا مثبتا محفوظا فهو دليل لما يؤخذ من نصارى بني ثغلب ، ويكون حكم نساء العرب من أهل الكتاب فيما يؤخذ منهم خلاف نساء العجم منهم ، أو أن يقال : إنه غير محفوظ لما علم الأئمة[ في الأصل وم : الأمة ] بخلافه لأن الوفاق قد جرى على أن لا جزية على النساء . ولو كان محفوظا لظهر العمل به ، أو أن يكون قوله : «خذ من كل حالم دينار » أي خذ منهما دينارا كقوله : «لكل سهو سجدتان »[ أبو داود1038 ] لا يلزمه أكثر من ذلك .
ثم تذكر من ذلك مسألة ، ليس في الآية ذكرها وهي أن الجزية إذا ضربت ، فدخلت سنة أخرى قبل أن يؤديها أخذت منه للسنة الثانية ، ولم تؤخذ للسنة الماضية ، ليس كسائر الديون . فإن قيل أليس الخراج يطالب به من أخره من سنة إلى سنة ؟ قيل ليس الجزية مثل الخراج ، يجب إلى المسلم في أرضه فهو كسائر الديون .
فإن قيل : إن المجوسي[ في الأصل وم : المجوس ] إذا أسلم بعد مضي السنة طولب بالجزية للسنة الماضية قيل : روي عن عمر أنه رفع الجزية بالإسلام ، فقال : والله إن في الإسلام لمعاذا ؛ إن فعل ترفع عنه الجزية .
وروي في بعض الأخبار عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ليس على مسلم جزية » [ بنحوه الترمذي 633 ] فمن طالبه بالجزية بعد الإسلام فقد خالف الخبر . فإن قال : إنما يزول عن المسلم ما كان عليه من الجزية في حال كفره لأنه صار إلى حال لا يجوز أن توضع عليه ابتداء ، قيل : إن الذمي إذا اجتمع عليه جزية سنتين ، فصار إلى حال لا يجوز أن يُلزم في الابتداء في مثلها أكثر من اثني عشر درهما لفقره لم يجز أن يلزم أكثر منها لأنه جعل حُكم مستدبر الجزية التي وجبت ، فأسلم صاحبها ، حكم الابتداء في توظيف الجزية عليه ، فوجب أن يجعل حكم من أنت عليه سنتان حكم ابتدائه .
وأصله أن الجزية إنما جُعلت لحقن الدم فإذا مضت سنة صار دمه محقونا في السنة الماضية ، لذلك لم تؤخذ .
وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) الخ تضمنت هذه الآية أحكاما : منها الأمر بقتال من لم يؤمن بالله واليوم الآخر ، وهم لا يقرون بالأمرين ، لكنه يخرج على وجوه ثلاثة .
أحدها : أنهم مشبهة ، ومن تشبيههم الله بخلقه احتمل قلوبهم القول بالولد ؛ إذ الذين شهدوا من الخلائق على ذلك وجدوا بولد بعض من بعض . وإذا كان كذلك [ فهم غير مؤمنين ] [ في الأصل وم : فهو غير مؤمن ] في الحقيقة بالله الذي هو الحق حتى يؤمنوا به وأنه به تكون الآخرة دون الذي ادّعوه .
والثاني : أن الذي جُبل عليه الخلق هو تعظيم رسل الملوك وإجلالهم [ في الأصل وم : وأجلتهم ] حتى يوحِّد من برّ الرسل بين ملوك قد ظهرت بينهم العداوة . فلما كذّبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع البراهين التي قد أعجزت الخلائق وشهادة كتبهم ، وتظاهر من عرفوا أنهم مكذّبون بكتبهم وبرسلهم على من صدّق بذلك ، ثبت أنهم في الحقيقة مكذّبون جميع الرسل والكتب ، وإن أظهروا الوفاق ، وأنّ ذلك لا يكون إلا لتكذيب منهم الله ؛ يكون بإيمانهم بالله [ ولا ] [ ساقطة من الأصل وم ] يكون بإيمانهم بالرسل .
وعلى ذلك رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد عبد قيس أنه قال «آمر بأربع : آمركم بالإيمان بالله ، ثم قال : أتدرون ما الإيمان بالله ؟ أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله [ البخاري 53 ] فلذلك لم يكن إيمانهم بالله إيمانهم بالله إيمانا حتى يؤمنوا برسول الله ، وعلى هذا يحاربون .
والثالث : أن يكون نفى عنهم الإيمان نفي [ من م ، في الأصل : عنهم ] منفعة الإيمان عنهم إذا قلّ لمنفعة به الإيمان برسله والقبول عنهم بالعظيم . فإذا ظهرت منه هذه المنفعة ، وتركوا القتال ، ثم الترك على قبول الجزية جائز ، وإن كان الأمر قد تقد بالقتل من غير أن دليل [ أنا لأجل ] [ في الأصل وم : أما الأجل ] ذلك المال نقاتل كما كتب على كل نفس الموت ، ثم قد يتركون على ما هم عليه من اختلاف الأديان وتفرّق الأهواء ، وإن كان لا يدلّ على الأمر بما هم عليه والرّضا بكفرهم ولا على القتال لأخذ تلك الأموال منهم .
ثم الأصل أن القتال لم يُجعل ليكون عقوبة للكفر ؛ إذ نوع القتل ؛ ومعناه قد يوجد في الأخبار والأشرار جميعا ، وهو الموت . ثبت أنه لم يجعل لذلك ، ولكن لوجهين :
[ أحدهما ] [ ساقطة من الأصل وم ] : أن يضطرّهم على الإجابة إلى ما فيه نجاتهم ، وبه نيل كرامة الأبد ، وكان ذلك بعد أن ألزمناهم كل أنواع الحجج ، فلم تقنعهم ؛ قاتلناهم بما كان الذي يمنعهم عن النظر في الحجج حبُّ اللذّات ، وألذُّها الحياة ، قاتلناهم حتى ييأسوا من تلك اللذّة المانعة عن النظر في الحجج والصّادة عن الإجابة ، تزول عنهم .
وفي قبول الجزية قيل : 212-أ/ بعض الذّل والصّغار الذي تنفر عنه الطّباع ، ويدعو إلى ما فيه الزّوال ، فينظرون في الحجج ، ويقبلون [ في الأصل وم : ويقبلوا ] ما دعوا إليه ، فيكون به نجانهم ، وزيادة لنا في الكرامة .
والثاني : أن المحن كلها منقسمة على الحسنات والسيّئات والخيرات والسّرور ، ولذلك جُعلت بالموت والحياة ، وعلى ذلك جميع أمور الدنيا هو التّقلب على مختلف الأحوال . فمثله الدعاء إلى الإسلام يكون مرة بمُحاجّة إليه ومرّة باللسان ومرّة بالتّرك ، لا أن جعل شيء من ذلك لشيء ، ولكن بما عليه أمر المحن ليتذكر به وجوه الذل في قوم على [ ما ][ من م ، ساقطة من الأصل ] في علم الله من المصلحة وعلى ما عليه حق الحكمة .
ثم الفرق بين مشركي العرب وغيرهم يخرج على وجوه :
أحدها : أنهم قد كانوا ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكون أهدى من إحدى الأمم )[ فاطر : 42 ] فجاءهم فكذبوه .
والثاني : ( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها )[ الأنعام : 109 ] فجاءتهم آيات ، فلم يؤمنوا ، فاستوجبوا القتال إلى أن يفوا بالعهد الذي سبق والقسم الذي جهدوا به ، وليس لغيرهم هذا .
والثالث[ في الأصل وم : ثم ] : على قوله : ( ونقلب أفئدتهم وأبصارهم )الآية[ الأنعام : 110 ]
فبين الإياس عن إيمانهم إلى أن يشاء الله . فهو يخرج على وجهين :
أحدهما : الإياس من إيمانهم ، وقبول الجزية ليخالطوا أهل شريعة الله ، فيسمعوا منهم الحجج ، ويعاينوا الأفعال المحمودة في العقول والأخلاق الكريمة التي جاء بها الرسول ، فيؤمنوا . وهؤلاء قد آيس الله عن إيمانهم ، وأخبرهم أنهم يؤيسون أبدا . فذلك لم يعط لهم عهد وعلى ذلك ظهر نقضهم العقود مرة بعد مرة ، والله أعلم .
والثاني : أنه استثنى فيهم ألا يؤمنوا بالآيات إلا أن يشاء الله . فلعل الله شاء أن يكون إيمانهم بالقتال خاصة ، ففرض فيهم ذلك إلى أن يؤمنوا .
ووجه آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بعث فيهم ومنهم . فأوجبت لهم الفضيلة به ألا يقبل منهم غير الإيمان كما فضلت البقعة التي فيها بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها ألا يترك فيها غير المؤمن تفضيلا .
ووجه آخر أنهم قوم ليس لهم أسس ولا أئمة في الدين ، إليهم يرجعون في التأسيس . ومعلوم أن لا قوام في العقول لأمر الدين إلا بالأئمة كالسياسات كلها والأمور ؛ فيها القوام من الملك وغيره . بل إنما كانوا جروا على عادتهم ، وقاتلوهم عن القبائل ، فلا يرجعون في الحقيقة إلا إلى عادة خارجة عن التدبير . وغيرهم يرجعون إلى مذهب أسست مما أسس أمر الديانات ؛ فقد تعلقوا بضرب من ذلك ؛ [ فتركوا ][ من م ، ساقطة من الأصل ] إذا خضعوا لا دفعوا ، وإذا عنوا لهم بحق التبع ، يتركون رجاء[ ساقطة من م ] أن يتأملوا ؛ إذ لكل مذهب نظر ، وليس لأولئك سوى[ في الأصل وم : سواء ] العادة وتقليد الآباء . ومن ذلك وصفه ؛ لا ينظر ، فيمهل للنظر ، والله أعلم .
وأيضا أن لسائر المذاهب أصولا يتكثر أهلها ، وفي الإقامة على القتال إلى الفناء يتضمن بعض إلى بعض فيتناصرون ، فيخاف على المسلمين بما به رجاء التكثر الفناء . والعرب [ يقل عددهم ][ من م ، ساقطة من الأصل ] حتى لم يكونوا يقدرون على المناوأة إلا بمعونة أهل الكتاب وغيرهم ، فأمكن أن يضطروا به إلى القتل مع ما ليست لهم مذاهب معلومة ؛ إذ لا يذكر في شيء من الكتب لهم مذاهب ، وقد ذكر بجميع الفرق[ في الأصل وم : الفريق ] ؛ فإنما أمرهم على العادة ، وقد تنزل العادات بما لا يعترض فيها ما يمنع الاستمرار عليها من القتال والحرب ، فيتركونها .
وأهل المذاهب عندهم أنهم لزموا بالحجج ، ومثل ذلك لا يترك إلا بالحجج ، وذلك يكون بقبول الذمة والعهد وأيضا أنه يمكن إلزام[ في الأصل وم : الزم ] كل ذي مذهب بما يوجد في مذهبه ما يثبت القول بالإسلام وبالعهد رجاء الوصول[ من م ، في الأصل : لا ] إليه ، وليس لمشركي العرب ذلك لما يُبْن[ في م : يبين ] مذهبهم على الحجج أو السنة ، إنما هو تقليد وعادة ، والله أعلم .