السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ألقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال من أين تأكلون فأمرهم الله تعالى بقتال أهل الكتاب كما قال تعالى : { قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر } ( التوبة ، 29 ) .

فإن قيل : اليهود والنصارى يزعمون أنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر فكيف أخبر الله تعالى عنهم بذلك ؟ أجيب : بأنّ من اعتقد أن العزير ابن الله وأنّ المسيح ابن الله فليس بمؤمن بل هو مشرك وبأنّ من كذب رسولاً من الرسل فليس بمؤمن واليهود والنصارى يكذبون أكثر الأنبياء { ولا يحرمون ما حرّم الله ورسوله } من الشرك وأكل أموال الناس بالباطل وتبديل التوراة والإنجيل وغير ذلك { ولا يدينون دين الحق } أي : الثابت الذي هو ناسخ لسائر الأديان وهو الإسلام كما قال تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } ( آل عمران ، 19 )

{ من الذين أوتوا الكتاب } أي : اليهود والنصارى بيان للذين لا يؤمنون { حتى يعطوا الجزية } وهي الخراج المضروب على رقابهم في نظير سكناهم في بلاد الإسلام آمنين مأخوذ من المجازاة لكفنا عنهم .

وقيل من الجزاء بمعنى القضاء قال الله تعالى : { واتقوا يوماً لا تجزى نفس عن نفس شيئاً } ( البقرة ، 48 ) أي : لا تقضي وقوله تعالى : { عن يد } حال من الضمير أي : منقادين مقهورين يقال لكل من أعطي شيئاً كرهاً من غير طيب نفس أعطي عن يد ، وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها على يد غيرهم وهل يجوز أن يوكلوا مسلماً في دفعها أو لا ينبغي على تفسير الصغار المذكور في قوله تعالى : { وهم صاغرون } أي : أذلاء منقادون لحكم الإسلام ويكفي في الصغار أن يجري عليهم الحكم بما لا يعتقدون حله أن يجوز التوكيل على هذا تفسيره أن يجلس الآخذ ويقوم الكافر ويطأطئ رأسه ويحني ظهره ويضع الجزية في الميزان ويقبض الآخذ لحيته ويضرب لهزمتيه وهما مجتمع اللحم بين الماضغ والأذن من الجانبين : مردود بأن هذه الهيئة باطلة ودعوى سنيتها أو وجوبها أشدّ بطلاناً ولم ينقل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أحداً من الخلفاء الراشدين فعل شيئاً من ذلك وعلى تفسيرها بما ذكر يمتنع التوكيل إذا قيل بوجوبه لا باستحبابه .

تنبيه : مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب ولكن ألحق بهم المجوس لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، وقال : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب » وكذا من زعم التمسك بصحف إبراهيم وزبور داود صلى الله عليهما وسلم ومن أحد أبويه كتابيّ والآخر وثنيّ وأولاد من تهوّد أو تنصر قبل النسخ أو شككنا في وقت التهوّد والتنصر أكان قبل النسخ أم بعده ؟ فلا تعقد لأولاد من تهوّد أو تنصر بعد النسخ في ذلك الدين ولا لعبدة الأوثان والشمس والملائكة والسامرة والصابئون إن خالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم فليسوا منهم وإلا فمنهم ، وعن مالك تؤخذ الجزية من كل كافر إلا المرتد ، وعن أبي حنيفة إلا مشركي العرب ، وأقلّ الجزية دينار لكل سنة عن كل واحد لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل لما بعثه إلى اليمن : ( خذ من كلّ حالم أي : محتلم ديناراً ) صححه ابن حبان والحاكم وتؤخذ من زمن وشيخ هرم وأعمى وراهب وأجير وفقير عجز عن كسب فإذا تمت سنة وهو معسر ففي ذمّته حتى يوسر ، وقال أبو حنيفة على الغنيّ ثمانية وأربعون درهماً وعلى المتوسط نصفها وعلى الفقير الكسوب ربعها ولا شيء على فقير غير كسوب ولا بدّ أن يكون المأخوذ منه حرّاً ذكراً غير صبيّ ومجنون وتلحق إفاقة مجنون كثرت فإن قلّ زمن الجنون كساعة من شهر فلا أثر لها ولو بلغ ابن ذمي ولم يعط جزية ألحق بمأمنه وإن أعطاها عقد له .

وقيل : عليه كجزية أبيه ولا يحتاج إلى عقد له اكتفاء بعقد أبيه ومن مات ممن عقدت له الجزية أو أسلم أو جنّ أو حجر عليه بفلس أو سفه بعد سنة فجزيته كدين آدميّ أو في أثنائها تقسط وتسقط بالإسلام والموت عند أبي حنيفة .