غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

29

التفسير : إنه سبحانه لما ذكر شبهات المشركين وأجاب عنها بأجوبة صحيحة أراد أن يبين أحكام أهل الكتاب والمقصود تميزهم من المشركين في الحكم لأن الواجب في المشركين القتال إلى الإسلام ، والواجب في أهل الكتاب القتال إلى الإسلام أو الجزية . واعلم أنه تعالى ذكر صفات أربع وأمر بقتال من اتصف بها ثم بين الموصوفين بها بقوله { من الذين أوتوا الكتاب } فدل ذلك على أن أهل الكتاب متصفون بتلك الصفات ؛ فالصفة الأولى أنهم { لا يؤمنون بالله } فأورد عليه أن القوم يقولون نحن نؤمن بالله ، وأجيب بأن إيمانهم بالله كلا أيمان لأنهم مشبهة وحلولية . واعترض ثانياً بأن كل من نازع في صفة من صفات الله وكان منكراً لله لزم أن يكون أكثر المتكلمين كذلك فالأشعري من أهل السنة أثبت البقاء صفة ، والقاضي أنكره ، وعبد الله بن سعيد أثبت القدم صفة ، والباقون أنكروه ، والقاضي أثبت لله إدراك الطعوم وإدراك الروائح والحرارة والبرودة والأستاذ أبو إسحاق أنكره ، والقاضي أثبت للصفات سبعة أحوال معللة بغير الصفات وغيره أنكره ، وعبد الله ابن سعيد زعم أن كلام الله في الأزل ما كان أمراً ولا نهياً ولا خبراً ثم صار كذلك عند الإنزال ، والآخرون أنكروه ، وقوم من قدماء الأشاعرة أثبتوا لله خمس كلمات : الأمر والنهي والاستخبار والخبر والنداء . والمشهور أن كلام الله واحد . واختلفوا في أن خلاف المعلوم هل هو مقدور لله ؟ . وأما اختلافات المعتزلة وسائر الفرق فأكثر من أن تحصى هاهنا . وأجيب بأن المجسم خالف في الذات لأنه يقول إن الإله جسم والبرهان دل على أن إله العالم ليس بجسم ولا جسماني . وأما الخلاف في المسائل المذكورة فراجع إلى الصفة فظهر الفرق . نعم إنا نكفر الحلولية والحروفية القائلين بأن كلام الله تعالى حل في كل لسان وفي كل جسم كتب فيه القرآن كما نكفر النصارى القائلين بأن أقنوم الكلمة حلت في عيسى .

الصفة الثانية : أنهم لا يؤمنون باليوم الآخر لأن اليهود والنصارى ينكرون المعاد الجسماني . والقرآن دل على أن أهل الجنة يأكلون ويشربون وباللذات يتمتعون ، وأما السعادات الروحانية فمتفق عليها . الصفة الثالثة : { ولا يحرّمون ما حرم الله ورسوله } أي لا يحرّمون ما حرم الله في القرآن ، والرسول في سنته كالخمر والخنزير ونحوهما . وقال أبو روق : أي لا يعملون بما في التوراة والإنجيل بل حرفوهما وأتوا بأحكام توافق مشتهاهم . الصفة الرابعة : { ولا يدينون دين الحق } أي لا يعتقدون صحة دين الإسلام الذي هو الحق . يقال : فلان يدين بكذا إذا اتخذ ذلك دينه ومعتقده . وقيل : الحق هو الله . ثم ذكر غاية القتال فقال { حتى يعطوا الجزية } فعله من جزى يجزي إذا قضى ما عليه . قال الواحدي : هي ما يعطى المعاد على عهده . وقال في الكشاف : سميت جزية لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه أي يقضوه ، أو لأنهم يجزون بها من منّ عليهم بالإعفاء عن القتل . ومعنى { عن يد } إن أريد بها يد المعطي أي عن يد مؤاتية غير ممتنعة يقال : أعطى بيده إذا انقاد وأصحب ، أو المراد حتى يعطوها عن يد إلى نقداً غير نسيئة ولا مبعوثاً على يد أحد ، وإن أريد بها يد الآخذ فمعناه حتى يعطوها عن يد قاهرة مستولية أي بسببها كقوله :

ينهون عن أكل وعن شرب *** . . .

أي يتناهون السمن بسببهما . أو المراد عن إنعام عليهم فإن قبول الجزية منهم بدلاً عن أرواحهم نعمة عظيمة عليهم . قيل : إن من اليهود موحدة فما وجه إيجاب الجزية عليهم ؟ والجواب أنه إذا ثبت وجوب الجزية على بعضهم لزم القول في حق الكل لعسر الامتياز ولوجود الصفات الباقية فيهم . أما مقدار الجزية فعن أنس : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم على كل محتلم ديناراً ، وقسم عمر على فقرائهم في المدينة اثني عشر درهماً ، وعلى الأوساط أربعة وعشرين ، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين . فذهب الشافعي إلى أن أقل الجزية دينار لا يزاد على الدينار إلا بالتراضي . وذهب أبو حنيفة إلى قسم عمر . والمجوس سبيلهم سبيل أهل الكتاب لقوله : صلى الله عليه وسلم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب » ويروى أنه صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر وذلك أن لهم شبهة كتاب . ومعنى ذلك أن كتبهم وهي الصحف التي أنزلت على إبراهيم صلى الله عليه وسلم قد رفعت إلى السماء لأحداث أحدثوها . وليس المقصود من أخذ الجزية تقرير الكفرة على كفرهم بدينار واحد حتى يصير موجباً للطعن ، وإنما الغرض حقن دمائهم وإمهالهم مدة لعلهم يتفكرون في كتابهم فيعرفون صدق محمد وما دعاهم إليه . وأيضاً فيه حرمة أنبيائهم وحرمة كتابهم وحرمة آبائهم الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل . وأما قوله { وهم صاغرون } فمعناه أنه لا بد أخذ الجزية من إلحاق الذل والصغار بهم . والسبب فيه أن طبع العاقل ينفر عن تحمل الذل فإذا أمهل الكافر مدة وهو يشاهد عزّ الإسلام وذل الكفر ويسمع الدلائل فالظاهر أن مجموع ذلك يحمله على الانتقال إلى الإسلام . وفسروا الصغار في الآية بأخذ الجزية على سبيل الإهانة بأن يكون الذمي قائماً والمسلم الذي يأخذ الجزية قاعداً ويأمره بأن يخرج يده من جيبه ويحني ظهره ويطأطئ رأسه فيصب ما معه في كفة الميزان ويأخذ المستوفي بلحيته ويضرب في لهزمتيه . وهذه الهيئة مستحبة على الأصح لا واجبة . وقيل : الصغار هو نفس أخذ الجزية . والجزية تسقط بالإسلام عند أبي حنيفة دون الشافعي . وإنها تؤخذ عند أبي حنيفة في أوّل السنة وعند الشافعي في آخرها . ولا تؤخذ من فقير لا كسب له ولا من امرأة وخنثى ولا صبي ولا مجنون وعبد ولا من سيده بسببه ، وتضرب على الزمن والعسيف والشيخ الفاني والراهب والأعمى على الأصح من قولي الشافعي ، لأن الجزية بمنزلة الكراء يستوي فيه المعذورون وغيرهم . قال الشافعي في أحد قوليه . العاجز عن الكسب يعقد له الذمة بالجزية فإذا تم الحول أخذنا إن أيسر وإلا فهي في ذمته إلى أن يوسر وهكذا في كل حول . ولا يصح عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه الذي فوضه إليه لأنه من الأمور الكلية . وكيفية العقد أن يقول : أقررتكم وأذنت لكم في الإقامة في دار الإسلام على أن تبذلوا كذا وتنقادوا لأحكام الإسلام التي يراها الإمام . ولا يقرأ أهل الكتاب بالجزية في أرض الحجاز لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : «أخرجوا اليهود من الحجاز » قال الشافعي : هو مكة والمدينة ومخالفيهما أي قراهما . وما روي أنه صلى الله عليه وسلم أوصى بأن يخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب فمحمول على أنه أراد الحجاز جمعاً بين الحديثين . وقد بقي في الآية نكته ذكرها بعض العلماء في أن المسلم لا يقتل بالذمي قال : لأن قوله { قاتلوا } مشتمل على إباحة دمهم وعلى عدم وجوب القصاص بسبب قتلهم فلما قال { حتى يعطوا الجزية } علمنا أن المجموع انتفى عند إعطاء الجزية ، ولكن انتفاء المجموع يكفي فيه انتفاء أحد جزأيه وأحد الجزأين - وهو وجوب قتلهم - مرتفع بالاتفاق فيبقى الآخر وهو عدم وجوب القصاص بقتلهم بعد أداء الجزية كما كان . ولقائل أن يقول : لا نزاع في الاحتمال ولكن ما الدليل على عدم وجوب القصاص وأنت بصدد إثباته ؟ .

/خ37