فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

قوله : { قاتلوا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } الآية ، فيه الأمر بقتال من جمع بين هذه الأوصاف . قال أبو الوفاء بن عقيل : إن قوله : { قَاتَلُواْ } أمر بالعقوبة ، ثم قال : { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله } فبين الذنب الذي توجبه العقوبة ، ثم قال : { وَلاَ باليوم الآخر } فأكد الذنب في جانب الاعتقاد ، ثم قال : { وَلاَ يُحَرِمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ } فيه زيادة للذنب في مخالفة الأعمال ، ثم قال : { وَلاَ يَدِينُونَ دِيِنَ الحق } فيه إشارة إلى تأكيد المعصية بالانحراف والمعاندة ، والأنفة عن الاستسلام ، ثم قال : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } تأكيد للحجة عليهم ؛ لأنهم كانوا يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ، ثم قال : { حتى يُعْطُواْ الجزية } فبيّن الغاية التي تمتد إليها العقوبة انتهى .

قوله : { مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } بيان للموصول مع ما في حيزه وهم أهل التوراة والإنجيل . قوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ } الجزية وزنها فعلة من جزى يجزي : إذا كافأ عما أسدي إليه ، فكأنهم أعطوها جزاء عما منحوا من الأمن . وقيل : سميت جزية ؛ لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه : أي يقضوه ، وهي في الشرع : ما يعطيه المعاهد على عهده ، و { عَن يَدٍ } في محل نصب على الحال . والمعنى : عن يد مواتية غير ممتنعة . وقيل : معناه : يعطونها بأيديهم غير مستنيبين فيها أحداً . وقيل : معناه : نقد غير نسيئة . وقيل : عن قهر . وقيل : معناه : عن إنعام منكم عليهم ؛ لأن أخذها منهم نوع من أنواع الإنعام عليهم . وقيل : معناه : مذمومون . وقد ذهب جماعة من أهل العلم منهم الشافعي ، وأحمد ، أبو حنيفة ، وأصحابه والثوري ، وأبو ثور ، إلى أنها لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب . وقال الأوزاعي ومالك : إن الجزية تؤخذ من جميع أجناس الكفرة كائناً من كان ، ويدخل في أهل الكتاب على القول الأوّل : المجوس . قال ابن المنذر : لا أعلم خلافاً في أن الجزية تؤخذ منهم .

واختلف أهل العلم في مقدار الجزية . فقال عطاء : لا مقدار لها . وإنما تؤخذ على ما صولحوا عليه ، وبه قال يحيى بن آدم ، وأبو عبيد ، وابن جرير إلا أنه قال : أقلها دينار ، وأكثرها لا حدّ له . وقال الشافعي : دينار على الغنيّ والفقير من الأحرار البالغين لا ينقص منه شيء ، وبه قال أبو ثور . قال الشافعي : وإن صولحوا على أكثر من دينار جاز ، وإذا زادوا وطابت بذلك أنفسهم قبل منهم . وقال مالك : إنها أربعة دنانير على أهل الذهب . وأربعون درهماً على أهل الورق ، الغنيّ والفقير سواء ، ولو كان مجوسياً لا يزيد ولا ينقص . وقال أبو حنيفة وأصحابه ، ومحمد بن الحسن ، وأحمد بن حنبل : إثنا عشر ، وأربعة وعشرون ، وثمانية وأربعون . والكلام في الجزية مقرّر في مواطنه ، والحق من هذه الأقوال قد قرّرناه في شرحنا للمنتقي وغيره من مؤلفاتنا .

قوله : { وَهُمْ صاغرون } في محل نصب على الحال ، والصغار : الذلّ . والمعنى : إن الذميّ يعطى الجزية حال كونه صاغراً ، قيل : وهو أن يأتي بها بنفسه ماشياً غير راكب ، ويسلمها وهو قائم ، والمتسلم قاعد . وبالجملة ينبغي للقابض للجزية أن يجعل المسلم لها حال قبضها صاغراً ذليلاً .

/خ29