تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير  
{قَٰتِلُواْ ٱلَّذِينَ لَا يُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَلَا بِٱلۡيَوۡمِ ٱلۡأٓخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ ٱلۡحَقِّ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حَتَّىٰ يُعۡطُواْ ٱلۡجِزۡيَةَ عَن يَدٖ وَهُمۡ صَٰغِرُونَ} (29)

فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم{[13367]} لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ، ولا بما جاءوا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله ودينه ؛ لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيمانا صحيحا لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد ، صلوات الله عليه ، لأن جميع الأنبياء [ الأقدمين ]{[13368]} بشروا به ، وأمروا باتباعه ، فلما جاء وكفروا{[13369]} به ، وهو أشرف الرسل ، عُلِم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ؛ ولهذا قال : { قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } وهذه الآية الكريمة [ نزلت ]{[13370]} أول الأمر بقتال أهل الكتاب ، بعد ما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجا ، فلما استقامت{[13371]} جزيرة العرب أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع ؛ ولهذا تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك ، وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، فَأَوْعَبوا معه ، واجتمع من المقاتلة{[13372]} نحو [ من ]{[13373]} ثلاثين ألفا ، وتخلف بعضُ الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جَدْب ، ووقت قَيْظ وحر ، وخرج ، عليه السلام ، يريد الشام لقتال الروم ، فبلغ تبوك ، فنزل بها وأقام على مائها{[13374]} قريبًا من عشرين يومًا ، ثم استخار الله في الرجوع ، فرجع عامه ذلك لضيق الحال وضعف الناس ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله .

وقد استدلَّ بهذه الآية الكريمة مَن يرى أنه لا تؤخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ، أو من أشباههم كالمجوس لما{[13375]} صح فيهم الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر{[13376]} وهذا مذهب الشافعي ، وأحمد - في المشهور عنه - وقال أبو حنيفة ، رحمه الله : بل تؤخذ من جميع الأعاجم ، سواء كانوا{[13377]} من أهل الكتاب أو من المشركين ، ولا تؤخذ من العرب إلا من أهل الكتاب .

وقال الإمام مالك : بل يجوز أن تضرب الجزية على جميع الكفار من كتابيٍّ ، ومجوسي ، ووثني ، وغير ذلك ، ولمأخذ هذه المذاهب وذكر أدلتها مكان غير هذا ، والله أعلم .

وقوله : { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ } أي : إن لم يسلموا ، { عَنْ يَدٍ } أي : عن قهر لهم وغلبة ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي : ذليلون حقيرون مهانون . فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين ، بل هم أذلاء صَغَرة أشقياء ، كما جاء في صحيح مسلم ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروه إلى أضيقه " {[13378]}

ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ ، من رواية{[13379]} عبد الرحمن بن غَنْم الأشعري قال : كتبت لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، حين صالح نصارى من أهل الشام :

بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا{[13380]} وأموالنا وأهل ملتنا وشرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدينتنا ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة ، ولا قِلاية ولا صَوْمَعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خطط{[13381]} المسلمين ، وألا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل ولا نهار ، وأن نوسع أبوابها للمارة وابن السبيل ، وأن ينزل من مر بنا من المسلمين ثلاثة أيام نطعمهم ، ولا نأوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوسًا ، ولا نكتم غشًا للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركا ، ولا ندعو إليه أحدًا ؛ ولا نمنع أحدًا من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نوقر المسلمين ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم ، في قلنسوة ، ولا عمامة ، ولا نعلين ، ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكُنَاهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئا من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رءوسنا ، وأن نلزم زِينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وألا نظهر الصليب على كنائسنا ، وألا نظهر صلبنا ولا كتبنا{[13382]} في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضربا خفيا ، وألا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ولا باعوثًا ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ، ولا نطلع عليهم في منازلهم .

قال : فلما أتيت عمر بالكتاب ، زاد فيه : ولا نضرب أحدًا من المسلمين ، شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم وَوَظَفْنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق .


[13367]:- في ك : "صلوات الله وسلامه عليه".
[13368]:- زيادة من أ.
[13369]:- في أ : "فلما جاءوا كفروا".
[13370]:- زيادة من ت ، أ.
[13371]:- في جمع النسخ : "واستقامت" ، وصوبناه ليستقيم النص.
[13372]:- في ك : "القابلة".
[13373]:- زيادة من ت ، ك ، أ.
[13374]:- في د : "وأقام بها قريبا".
[13375]:- في ت ، د ، ك : "كما".
[13376]:- في هـ : "من هجر" ، وفي أ : "من يهود هجر" والمثبت من ت ، ك ، أ.
[13377]:- في ك : "سواء أن كانوا".
[13378]:- صحيح مسلم برقم (2167).
[13379]:- في ت ، ك ، أ : "حديث".
[13380]:- في ت ، أ : "وذرياتنا".
[13381]:- في ت ، أ : "ما كان في خطط".
[13382]:- في أ : "صليبا ولا كساء".