معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

قوله تعالى : { وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } ، وكان اسمهما أصرم وصريم ، { وكان تحته كنز لهما } ، اختلفوا في ذلك الكنز ، اختلفوا في ذلك الكنز : روي عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان ذهباً وفضه . وقال عكرمة : كان مالاً . وعن سعيد بن جبير : كان الكنز صحفاً فيها علم . وعن ابن عباس : أنه قال كان لوحاً من ذهب مكتوباً فيه : عجباً لمن أيقن الموت كيف يفرح ؟ عجباً لمن أيقن بالحساب كيف يغفل : عجباً لمن أيقن بالرزق كيف يتعب ؟ عجباً لمن أيقن بالقدر كيف يغضب ؟ عجباً لمن أيقن بزوال الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ! لا إله إلا الله محمد رسول الله . وفي الجانب الآخر مكتوب : أنا الله لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي ، خلقت الخير والشر ، فطوبى لمن خلقته للخير وأجريته على يديه والويل لمن خلقته للشر وأجريته على يديه وهذا قول أكثر المفسرين . وروي أيضاً ذلك مرفوعاً . قال الزجاج : الكنز إذا أطلق ينصرف إلى كنز المال ، ويجوز عند التقييد أن يقال عنده كنز علم ، وهذا اللوح كان جامعاً لهما . { وكان أبوهما صالحاً } ، قيل : كان اسمه كاشح وكان من الأتقياء . قال ابن عباس : حفظا بصلاح أبويهما . وقيل : كان بينهما وبين الأب الصالح سبعة آباء . قال محمد بن المنكدر : إن الله يحفظ بصلاح العبد ولده وولد ولده ، وعترته وعشيرته وأهل دويرات حوله ، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم . قال سعيد بن المسيب : إني لأصلي فأذكر ولدي فأزيد في صلاتي . قوله عز وجل : { فأراد ربك أن يبلغا أشدهما } أي : يبلغا ويعقلا . وقيل : أن يدركا شدتهما وقوتهما . وقيل : ثمان عشرة سنة . { ويستخرجا } حينئذ { كنزهما رحمة } نعمة { من ربك } . { وما فعلته عن أمري } أي باختياري ورأيي ، بل فعلته بأمر الله وإلهامه ، { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } أي لم تطق عليه صبراً ، واستطاع واسطاع بمعنى واحد . روي أن موسى لما أراد أن يفارقه قال له : أوصني ، قال : لا تطلب العلم لتحدث به واطلبه لتعمل به . واختلفوا في أن الخضر حي أم ميت ؟ قيل : إن الخضر وإلياس حيان يلتقيان كل سنة بالموسم . وكان سبب حياته فيما يحكى أنه شرب من عين الحياة ، وذلك أن ذا القرنين دخل الظلمات لطلب عين الحياة . وكان الخضر على مقدمته ، فوقع الخضر على العين فنزل واغتسل وتوضأ وشرب وصلى شكراً لله عز وجل ، وأخطأ ذو القرنين الطريق فعاد . وقال النبي صلى الله عليه وسلم بعدما صلى العشاء ليلة : أرأيتكم ليلتكم هذه ؟ فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو اليوم حي على ظهر الأرض أحد ولو كان الخضر حياً لكان لا يعيش بعده .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

{ وَأَمَّا الْجِدَارُ ْ } الذي أقمته { فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا ْ } أي : حالهما تقتضي الرأفة بهما ورحمتهما ، لكونهما صغيرين عدما أباهما ، وحفظهما الله أيضا بصلاح والدهما .

{ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا ْ } أي : فلهذا هدمت الجدار ، واستخرجت ما تحته من كنزهما ، وأعدته مجانا .

{ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ } أي : هذا الذي فعلته رحمة من الله ، آتاها الله عبده الخضر { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ } أي : أتيت{[495]}  شيئا من قبل نفسي ، ومجرد إرادتي ، وإنما ذلك من رحمة الله وأمره .

{ ذَلِكَ ْ } الذي فسرته لك { تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ْ } وفي هذه القصة العجيبة الجليلة ، من الفوائد والأحكام والقواعد شيء كثير ، ننبه على بعضه بعون الله . فمنها فضيلة العلم ، والرحلة في طلبه ، وأنه أهم الأمور ، فإن موسى عليه السلام رحل مسافة طويلة ، ولقي النصب في طلبه ، وترك القعود عند بني إسرائيل ، لتعليمهم وإرشادهم ، واختار السفر لزيادة العلم على ذلك .

ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فإن زيادة العلم وعلم الإنسان أهم من ترك ذلك ، والاشتغال بالتعليم من دون تزود من العلم ، والجمع بين الأمرين أكمل .

ومنها : جواز أخذ الخادم في الحضر والسفر لكفاية المؤن ، وطلب الراحة ، كما فعل موسى .

ومنها : أن المسافر لطلب علم أو جهاد أو نحوه ، إذا اقتضت المصلحة الإخبار بمطلبه ، وأين يريده ، فإنه أكمل من كتمه ، فإن في إظهاره فوائد من الاستعداد له عدته ، وإتيان الأمر على بصيرة ، وإظهارًا لشرف هذه العبادة الجليلة ، كما قال موسى : { لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ْ }

وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه حين غزا تبوك بوجهه ، مع أن عادته التورية ، وذلك تبع للمصلحة .

ومنها : إضافة الشر وأسبابه إلى الشيطان ، على وجه التسويل والتزيين ، وإن كان الكل بقضاء الله وقدره ، لقول فتى موسى : { وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ْ }

ومنها : جواز إخبار الإنسان عما هو من مقتضى طبيعة النفس ، من نصب أو جوع ، أو عطش ، إذا لم يكن على وجه التسخط وكان صدقا ، لقول موسى : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ }

ومنها : استحباب كون خادم الإنسان ، ذكيا فطنا كيسا ، ليتم له أمره الذي يريده .

ومنها : استحباب إطعام الإنسان خادمه من مأكله ، وأكلهما جميعا ، لأن ظاهر قوله : { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ } إضافة إلى الجميع ، أنه أكل هو وهو جميعا .

ومنها : أن المعونة تنزل على العبد على حسب قيامه بالمأمور به ، وأن الموافق لأمر الله ، يعان ما لا يعان غيره لقوله : { لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا ْ } والإشارة إلى السفر المجاوز ، لمجمع البحرين ، وأما الأول ، فلم يشتك منه التعب ، مع طوله ، لأنه هو السفرعلى الحقيقة . وأما الأخير ، فالظاهر أنه بعض يوم ، لأنهم فقدوا الحوت حين أووا إلى الصخرة ، فالظاهر أنهم باتوا عندها ، ثم ساروا من الغد ، حتى إذا جاء وقت الغداء قال موسى لفتاه { آتِنَا غَدَاءَنَا ْ } فحينئذ تذكر أنه نسيه في الموضع الذي إليه منتهى قصده .

ومنها : أن ذلك العبد الذي لقياه ، ليس نبيا ، بل عبدا صالحا ، لأنه وصفه بالعبودية ، وذكر منة الله عليه بالرحمة والعلم ، ولم يذكر رسالته ولا نبوته ، ولو كان نبيا ، لذكر ذلك كما ذكره غيره .

وأما قوله في آخر القصة : { وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ْ } فإنه لا يدل على أنه نبي وإنما يدل على الإلهام والتحديث ، كما يكون لغير الأنبياء ، كما قال تعالى { وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ ْ } { وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا ْ }

ومنها : أن العلم الذي يعلمه الله [ لعباده ]{[496]}  نوعان :

علم مكتسب يدركه العبد بجده واجتهاده . ونوع علم لدني ، يهبه الله لمن يمن عليه من عباده لقوله { وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ْ }

ومنها : التأدب مع المعلم ، وخطاب المتعلم إياه ألطف خطاب ، لقول موسى عليه السلام :

{ هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ } فأخرج الكلام بصورة الملاطفة والمشاورة ، وأنك هل تأذن لي في ذلك أم لا ، وإقراره بأنه يتعلم منه ، بخلاف ما عليه أهل الجفاء أو الكبر ، الذي لا يظهر للمعلم افتقارهم إلى علمه ، بل يدعي أنه يتعاون هم وإياه ، بل ربما ظن أنه يعلم معلمه ، وهو جاهل جدا ، فالذل للمعلم ، وإظهار الحاجة إلى تعليمه ، من أنفع شيء للمتعلم .

ومنها تواضع الفاضل للتعلم ممن دونه ، فإن موسى -بلا شك- أفضل من الخضر .

ومنها : تعلم العالم الفاضل للعلم الذي لم يتمهر فيه ، ممن مهر فيه ، وإن كان دونه في العلم بدرجات كثيرة .

فإن موسى عليه السلام من أولي العزم من المرسلين ، الذين منحهم الله وأعطاهم من العلم ما لم يعط سواهم ، ولكن في هذا العلم الخاص كان عند الخضر ، ما ليس عنده ، فلهذا حرص على التعلم منه .

فعلى هذا ، لا ينبغي للفقيه المحدث ، إذا كان قاصرا في علم النحو ، أو الصرف ، أو نحوه من العلوم ، أن لا يتعلمه ممن مهر فيه ، وإن لم يكن محدثا ولا فقيها .

ومنها : إضافة العلم وغيره من الفضائل لله تعالى ، والإقرار بذلك ، وشكر الله عليها لقوله : { تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ ْ } أي : مما علمك الله تعالى .

ومنها : أن العلم النافع ، هو العلم المرشد إلى الخير ، فكل علم يكون فيه رشد وهداية لطرق{[497]}  الخير ، وتحذير عن طريق الشر ، أو وسيلة لذلك ، فإنه من العلم النافع ، وما سوى ذلك ، فإما أن يكون ضارا ، أو ليس فيه فائدة لقوله : { أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ْ }

ومنها : أن من ليس له قوة الصبر على صحبة العالم والعلم ، وحسن الثبات على ذلك ، أنه يفوته بحسب عدم صبره كثير من العلم{[498]}  فمن لا صبر له لا يدرك العلم ، ومن استعمل الصبر ولازمه ، أدرك به كل أمر سعى فيه ، لقول الخضر -يعتذر من موسى بذكر المانع لموسى في الأخذ عنه- إنه لا يصبر معه .

ومنها : أن السبب الكبير لحصول الصبر ، إحاطة الإنسان علما وخبرة ، بذلك الأمر ، الذي أمر بالصبر عليه ، وإلا فالذي لا يدريه ، أو لا يدري غايته ولا نتيجته ، ولا فائدته وثمرته ليس عنده سبب الصبر لقوله : { وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ْ } فجعل الموجب لعدم صبره ، وعدم إحاطته خبرا بالأمر .

ومنها : الأمر بالتأني والتثبت ، وعدم المبادرة إلى الحكم على الشيء ، حتى يعرف ما يراد منه وما هو المقصود .

ومنها : تعليق الأمور المستقبلية التي من أفعال العباد بالمشيئة ، وأن لا يقول الإنسان للشيء : إني فاعل ذلك في المستقبل ، إلا أن يقول { إِنْ شَاءَ اللَّهُ ْ }

ومنها : أن العزم على فعل الشيء ، ليس بمنزلة فعله ، فإن موسى قال : { سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا ْ } فوطن نفسه على الصبر ولم يفعل .

ومنها : أن المعلم إذا رأى المصلحة في إيزاعه للمتعلم أن يترك الابتداء في السؤال عن بعض الأشياء ، حتى يكون المعلم هو الذي يوقفه عليها ، فإن المصلحة تتبع ، كما إذا كان فهمه قاصرا ، أو نهاه عن الدقيق في سؤال الأشياء التي غيرها أهم منها ، أو لا يدركها ذهنه ، أو يسأل سؤالا ، لا يتعلق في موضع البحث .

ومنها : جواز ركوب البحر ، في غير الحالة التي يخاف منها .

ومنها : أن الناسي غير مؤاخذ بنسيانه لا في حق الله ، ولا في حقوق العباد لقوله : { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ ْ }

ومنها : أنه ينبغي للإنسان أن يأخذ من أخلاق الناس ومعاملاتهم ، العفو منها ، وما سمحت به أنفسهم ، ولا ينبغي له أن يكلفهم ما لا يطيقون ، أو يشق عليهم ويرهقهم ، فإن هذا مدعاة إلى النفور منه والسآمة ، بل يأخذ المتيسر ليتيسر له الأمر .

ومنها : أن الأمور تجري أحكامها على ظاهرها ، وتعلق بها الأحكام الدنيوية ، في الأموال ، والدماء وغيرها ، فإن موسى عليه السلام ، أنكر على الخضر خرقه السفينة ، وقتل الغلام ، وأن هذه الأمور ظاهرها ، أنها من المنكر ، وموسى عليه السلام لا يسعه السكوت عنها ، في غير هذه الحال ، التي صحب عليها الخضر ، فاستعجل عليه السلام ، وبادر إلى الحكم في حالتها العامة ، ولم يلتفت إلى هذا العارض ، الذي يوجب عليه الصبر ، وعدم المبادرة إلى الإنكار .

ومنها : القاعدة الكبيرة الجليلة وهو أنه " يدفع الشر الكبير بارتكاب الشر الصغير " ويراعي أكبر المصلحتين ، بتفويت أدناهما ، فإن قتل الغلام شر ، ولكن بقاءه حتى يفتن أبويه عن دينهما ، أعظم شرا منه ، وبقاء الغلام من دون قتل وعصمته ، وإن كان يظن أنه خير ، فالخير ببقاء دين أبويه ، وإيمانهما خير من ذلك ، فلذلك قتله الخضر ، وتحت هذه القاعدة من الفروع والفوائد ، ما لا يدخل تحت الحصر ، فتزاحم المصالح والمفاسد كلها ، داخل في هذا .

ومنها : القاعدة الكبيرة أيضا وهي أن " عمل الإنسان في مال غيره ، إذا كان على وجه المصلحة وإزالة المفسدة ، أنه يجوز ، ولو بلا إذن حتى ولو ترتب على عمله إتلاف بعض مال الغير " كما خرق الخضر السفينة لتعيب ، فتسلم من غصب الملك الظالم . فعلى هذا لو وقع حرق ، أو غرق ، أو نحوهما ، في دار إنسان أو ماله ، وكان إتلاف بعض المال ، أو هدم بعض الدار ، فيه سلامة للباقي ، جاز للإنسان بل شرع له ذلك ، حفظا لمال الغير ، وكذلك لو أراد ظالم أخذ مال الغير ، ودفع إليه إنسان بعض المال افتداء للباقي جاز ، ولو من غير إذن .

ومنها : أن العمل يجوز في البحر ، كما يجوز في البر لقوله : { يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ْ } ولم ينكر عليهم عملهم .

ومنها : أن المسكين قد يكون له مال لا يبلغ كفايته ، ولا يخرج بذلك عن اسم المسكنة ، لأن الله أخبر أن هؤلاء المساكين ، لهم سفينة .

ومنها : أن القتل من أكبر الذنوب لقوله في قتل الغلام { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ْ }

ومنها : أن القتل قصاصا غير منكر لقوله { بِغَيْرِ نَفْسٍ ْ }

ومنها : أن العبد الصالح يحفظه الله في نفسه ، وفي ذريته .

ومنها : أن خدمة الصالحين ، أو من يتعلق بهم ، أفضل من غيرها ، لأنه علل استخراج كنزهما ، وإقامة جدارهما ، أن أباهما صالح .

ومنها : استعمال الأدب مع الله تعالى في الألفاظ ، فإن الخضر أضاف عيب السفينة إلى نفسه بقوله { فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ْ } وأما الخير ، فأضافه إلى الله تعالى لقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ْ } كما قال إبراهيم عليه السلام { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ْ } وقالت الجن : { وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ْ } مع أن الكل بقضاء الله وقدره .

ومنها : أنه ينبغي للصاحب أن لا يفارق صاحبه في حالة من الأحوال ، ويترك صحبته ، حتى يعتبه ، ويعذر منه ، كما فعل الخضر مع موسى .

ومنها : أن موافقة الصاحب لصاحبه ، في غير الأمور المحذورة ، مدعاة وسبب لبقاء الصحبة وتأكدها ، كما أن عدم الموافقة سبب لقطع المرافقة .

ومنها : أن هذه القضايا التي أجراها الخضر هي قدر محض أجراها الله وجعلها على يد هذا العبد الصالح ، ليستدل العباد بذلك على ألطافه في أقضيته ، وأنه يقدر على العبد أمورا يكرهها جدا ، وهي صلاح دينه ، كما في قضية الغلام ، أو وهي صلاح دنياه كما في قضية السفينة ، فأراهم نموذجا من لطفه وكرمه ، ليعرفوا ويرضوا غاية الرضا بأقداره المكروهة .


[495]:- كذا في النسختين، ومراد المؤلف -رحمه الله- النفي أي: ما أتيت.
[496]:- زيادة من هامش: ب.
[497]:- في ب: لطريق.
[498]:- بدلا من الجملة: (أنه يفوته ....كثير من العلم) جاء في ب: (أنه ليس بأهل لتلقي العلم) وجاءت هذه الجملة في: أ مشطوبة.
 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

( وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما ، وكان أبوهما صالحا ، فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما ، رحمة من ربك وما فعلته عن أمري . . ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا ) . .

فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في إقامته ، ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية - وهما جائعان وأهل القرية لا يضيفونهما - كان يخبى ء تحته كنزا ، ويغيب وراءه مالا لغلامين يتيمين ضعيفين في المدينة . ولو ترك الجدار ينقض لظهر من تحته الكنز فلم يستطع الصغيران أن يدفعا عنه . . ولما كان أبوهما صالحا فقد نفعهما الله بصلاحه في طفولتهما وضعفهما ، فأراد أن يكبرا ويشتد عودهما ، ويستخرجا كنزهما وهما قادران على حمايته .

ثم ينفض الرجل يده من الأمر . فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف . وهو أمر الله لا أمره . فقد أطلعه على الغيب في هذه المسألة وفيما قبلها ، ووجهه إلى التصرف فيها وفق ما أطلعه عليه من غيبه ( رحمة من ربك وما فعلته عن أمري ) . .

فالآن ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف ، كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا إلا من ارتضى .

وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل من السياق كما بدا . لقد مضى في المجهول كما خرج من المجهول . فالقصة تمثل الحكمة الكبرى . وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها إلا بمقدار . ثم تبقى مغيبة في علم الله وراء الأستار .

وهكذا ترتبط - في سياق السورة - قصة موسى والعبد الصالح ، بقصة أصحاب الكهف في ترك الغيب لله ، الذي يدبر الأمر بحكمته ، وفق علمه الشامل الذي يقصر عنه البشر ، الواقفون وراء الأستار ، لا يكشف لهم عما وراءها من الأسرار إلا بمقدار . . .

انتهى الجزء الخامس عشر ويليه الجزء السادس عشر

مبدواً بقوله تعالى : ( أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر . . . )

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عّلَيْهِ صَبْراً } .

يقول تعالى ذكره مخبرا عن قول صاحب موسى : وأما الحائط الذي أقمته ، فإنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنزلهما .

اختلف أهل التأويل في ذكل الكنز ، فقال بعضهم : كان صُحُفا فيها علِم مدفونة . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان تحته كنْزُ علم .

حدثنا يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا حصين ، عن سعيد بن جبير : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان كنز علم .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : علم .

حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : علم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : صحف لغلامين فيها علم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : صحف علم .

حدثني أحمد بن حازم الغفاريّ ، قال : حدثنا هنادة ابنة مالك الشيبانية ، قالت : سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله عزّ وجلّ : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : سطران ونصف ، لم يتمّ الثالث : «عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت للموقن بالموت كيف يفرح » وقد قال : وَإنْ كانَ مِثْقالَ حَبّةٍ مِنْ خَرْدَلِ أتيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ قالت : وذكر أنهما حُفِظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حُفظا به سبعة آباء ، كان نساجا .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا الحسن بن ندبة ، قال : حدثنا سلمة بن محمد ، عن نعيم العنبريّ ، وكان من جُلساء الحسن ، قال : سمعت الحسن يقول في قوله : وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : «بسم الله الرحمَن الرحيم : عجبت لمن يؤمن كيف يحزن وعجبت لمن يوقن بالموت كيف يفرح وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها ، كيف يطمئنّ إليها لا إله إلا الله ، محمد رسول الله » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس أنه كان يقول : ما كان الكنز إلا علْما .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن حميد ، عن مجاهد ، في قوله وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : صُحُف من علم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وعب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، عن عمر مولى غُفْرة ، قال : إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كان لوحا من ذهب مصمت ، مكتوبا فيه : بسم الله الرحمَن الرحيم . عَجَبٌ ممن عرف الموت ثم ضحك ، عَجَبٌ ممن أيقن بالقدر ثم نَصِب ، عَجَبٌ ممن أيقن بالموت ثم أمن ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا عبده ورسوله .

وقال آخرون : بل كان مالاً مكنوزا . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشام ، قال : أخبرنا حصين ، عن عكرمة وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : كنز مال .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي حصين ، عن عكرمة ، مثله .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو داود ، عن شعبة ، قال : أخبرني أبو حُصَين ، عن عكرمة ، مثله ، قال شعبة : ولم نسمعه منه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما قال : مال لهما ، قال قتادة : أُحِلّ الكنز لمن كان قبلنا ، وحُرّم علينا ، فإن الله يُحلّ من أمره ما يشاء ، ويحرّم ، وهي السنن والفرائض ، ويحلّ لأمة ، ويحرّم على أخرى ، لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له .

وأولى التأويلين في ذلك بالصواب : القول الذي قاله عِكْرمة ، لأن المعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لما يكنز من من مال ، وأن كلّ ما كنز فقد وقع عليه اسم كنز ، فإن التأويل مصروف إلى الأغلب من استعمال المخاطبين بالتنزيل ، ما لم يأت دليل يجب من أجله صرفه إلى غير ذلك ، لعلل قد بيّناها في غير موضع .

وقوله : وكان أبُوهُما صَالِحا فأرَادَ رَبّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدّهُما يقول : فأراد ربك أن يدركا ويبلغا قوتهما وشدّتهما ، ويستخرجا حينئذ كنزهما المكنوز تحت الجدار الذي أقمته ، رحمة من ربك بهما ، يقول : فعلت فعل هذا بالجدار ، رحمة من ربك لليتيمين . وكان ابن عباس يقول في ذلك ما :

حدثني موسى بن عبد الرحمن ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، قال : قال ابن عباس ، في قوله وَكانَ أبُوهُما صالِحا قال : حُفِظا بصلاح أبيهما ، وما ذكر منهما صلاح .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا سفيان ، عن مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله .

وقوله : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي يقول : وما فعلت يا موسى جميع الذي رأيتني فعلته عن رأيي ، ومن تلقاء نفسي ، وإنما فعلته عن أمر الله إياي به ، كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي : كان عبدا مأمورا ، فمضى لأمر الله .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ما رأيت أجمع ما فعلته عن نفسي .

وقوله : ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرا يقول : هذا الذي ذكرت لك من الأسباب التي من أجلها فعلت الأفعال التي استنكرتها مني ، تأويل . يقول : ما تؤول إليه وترجع الأفعال التي لم تسطع على ترك مسألتك إياي عنها ، وإنكارك لها صبرا .

وهذه القصص التي أخبر الله عزّ وجلّ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بها عن موسى وصاحبه ، تأديب منه له ، وتقدمٌ إليه بترك الاستعجال بعقوبة المشركين الذين كذّبوه واستهزؤوا به وبكتابه ، وإعلام منه له أن أفعاله بهم وإن جرت فيما ترى الأعين بما قد يجري مثله أحيانا لأوليائه ، فإن تأويله صائر بهم إلى أحوال أعدائه فيها ، كما كانت أفعال صاحب موسى واقعة بخلاف الصحة في الظاهر عند موسى ، إذ لم يكن عالما بعواقبها ، وهي ماضية على الصحة في الحقيقة وآئلة إلى الصواب في العاقبة ، ينبىء عن صحة ذلك قوله : وَرَبّكَ الْغَفُورُ ذُو الرّحْمَةِ لَوْ يُوءَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجّلَ لَهُمْ العَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا . ثم عقب ذلك بقصة موسى وصاحبه ، يعلم نبيه أن تركه جلّ جلاله تعجيل العذاب لهؤلاء المشركين ، بغير نظر منه لهم ، وإن ذلك فيما يَحْسِب من لا علم له بما الله مدبر فيهم ، نظرا منه لهم ، لأن تأويل ذلك صائر إلى هلاكهم وبوارهم بالسيف في الدنيا واستحقاقهم من الله في الاَخرة الخَزْيَ الدائم .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

{ وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة } قيل اسمهما أصرم وصريم ، واسم المقتول جيسور . { وكان تحته كنز لهما } من ذهب وفضة ، روي ذلك مرفوعا والذم على كنزهما في قوله تعالى : { والذين يكنزون الذهب والفضة } لمن لا يؤدي زكاتهما وما تعلق بهما من الحقوق . وقيل من كتب العلم . وقيل كان لوح من ذهب مكتوب فيه : عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب ، وعجبت لمن يؤمن بالحساب كيف يغفل ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلا الله محمد رسول الله . { وكان أبوهما صالحا } تنبيه على أن سعيه ذلك كان لصلاحه . قيل كان بينهما وبين الأب الذي حفظا فيه سبعة آباء وكان سياحا واسمه كاشح . { فأراد ربك أن يبلُغا أشدّهما } أي الحلم وكمال الرأي . { ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك } مرحومين من ربك ، ويجوز أن يكون علة أو مصدرا لأراد فإن إرادة الخير رحمة . وقيل متعلق بمحذوف تقديره فعلت ما فعلت رحمة من ربك ، ولعل إسناد الإرادة أولا إلى نفسه لأنه المباشر للتعييب وثانيا إلى الله وإلى نفسه لأن التبديل بإهلاك الغلام وإيجاد الله بدله ، وثالثا إلى الله وحده لأنه لا مدخل له في بلوغ الغلامين . أو لأن الأول في نفسه شر ، والثالث خير ، والثاني ممتزج . أو لاختلاف حال العارف في الإلتفات إلى الوسائط . { وما فعلتُه } وما فعلت ما رأيته . { عن أمري } عن رأي وإنما فعلته بأمر الله عز وجل ، ومبنى ذلك على أنه إذا تعارض ضرران يجب تحمل أهونهما لدفع أعظمهما ، وهو أصل ممهد غير أن الشرائع في تفاصيله مختلفة . { ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا } أي ما لم تستطع فحذف التاء تخفيفا .

ومن فوائد هذه القصة أن لا يعجب المرء بعلمه ولا يبادر إلى إنكار ما لم يستحسنه ، فلعل فيه سرا لا يعرفه ، وأن يداوم على التعلم ويتذلل للمعلم ، ويراعي الأدب في المقابل وأن ينبه المجرم على جرمه ويعفو عنه حتى يتحقق إصراره ثم يهاجر عنه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

وقوله { وأما الجدار فكان لغلامين } هذان الغلامان صغيران ، بقرينة وصفهما باليتم ، وقد قال صلى الله عليه وسلم «لا يتم بعد بلوغ »{[7877]} هذا الظاهر ، وقد يحتمل أن يبقى عليهما اسم اليتم بعد البلوغ أي كانا يتيمين على معنى التشفق عليهما ، واختلف الناس في «الكنز » : فقال عكرمة وقتادة كان مالاً جسيماً ، وقال ابن عباس كان علماً في مصحف مدفونة ، وقال عمر مولى غفرة{[7878]} كان لوحاً من ذهب قد كتب فيه عجباً للموقن بالرزق كيف يتعب ، وعجباً للموقن بالحساب كيف يغفل ، وعجباً للموقن بالموت كيف يفرح ، وروي نحو هذا مما هو في معناه ، قوله { وكان أبوهما صالحاً } ظاهر اللفظ والسابق منه أن والدهما دنيّة{[7879]} ، وقيل هو الأب السابع ، وقيل العاشر ، فحفظا فيه وإن لم يذكرا بصلاح ، وفي الحديث «إن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته »{[7880]} ، وجاء في أنباء الخضر عليه السلام في أول قصة { فأردت أن أعيبها } [ الكهف : 79 ] وفي الثانية { فأردنا أن يبدلهما } وفي الثالثة { فأراد ربك أن يبلغا } وإنما انفرد أولاً في الإرادة لأنها لفظة عيب ، فتأدب بأن لم يسند الإرادة فيها إلا إلى نفسه ، كما تأدب إبراهيم عليه السلام في قوله { وإذا مرضت فهو يشفيني }{[7881]} [ الشعراء : 80 ] ، فأسند الفعل قبل وبعد إلى الله تعالى ، وأسند المرض إلى نفسه ، إذ هو معنى نقص ومصيبة ، وهذا المنزع يطرد في فصاحة القرآن كثيراً ، ألا ترى إلى تقديم فعل البشر في قوله تعالى : { فلما زاغوا أزاغ الله }{[7882]} [ الصف : 5 ] ، وتقديم فعل الله تعالى في قوله { ثم تاب عليهم ليتوبوا }{[7883]} [ التوبة : 118 ] ، وإنما قال الخضر في الثانية { فأردنا } لأنه أمل قد كان رواه{[7884]} هو وأصحابه الصالحون ، وتكلم فيه في معنى الخشية على الوالدين ، وتمنى البديل لهما ، وإنما أسند الإرادة في الثالثة إلى الله تعالى . لأنها في أمر مستأنف في الزمن طويل غيب من الغيوب ، فحسن إفادة هذا الموضع بذكر الله تعالى ، وإن كان الخضر قد أراد أيضاً ذلك الذي أعلمه الله أنه يريده ، فهذا توجيه فصاحة هذه العبارة بحسب فهمنا المقصر ، والله أعلم ، و «الأشد » كما الخلق والعقل واختلف الناس في قدر ذلك من السن ، فقيل خمس وثلاثون ، وقيل ست وثلاثون ، وقيل أربعون ، وقيل غير هذا مما فيه ضعف ، وقول الخضر { وما فعلته عن أمري } يقتضي أن الخضر نبي ، وقد اختلف الناس فيه : فقيل هو نبي ، وقيل هو عبد صالح وليس بنبي ، وكذلك جمهور الناس على أن الخضر مات صلى الله عليه وسلم ، وتقول فرقة إنه حي ، لأنه شرب من عين الحياة ، وهو باق في الأرض ، وأنه يحج البيت ، وغير هذا ، وقد أطنب النقاش في هذا المعنى ، وذكر في كتابه أشياء كثيرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره ، كلها لا يقوم على ساق ، ولو كان الخضر عليه السلام حياً يحج لكان له في ملة الإسلام ظهور والله العليم بتفاصيل الأشياء لا رب غيره ، ومما يقضي بموت الخضر الآن قول النبي صلى الله عليه وسلم «أرأيتكم ليلتكم هذه فإنه لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد »{[7885]} ، وقوله ذلك تأويل أي مآل ، وقرأت فرقة «تستطع » ، وقرأ الجمهور «تسطع » قال أبو حاتم كذا نقرأ «نتبع » المصحف ، وانتزع الطبري من اتصال هذه القصة بقوله تعالى : { وربك الغفور ذو الرحمة لو يأخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً } [ الكهف : 58 ] إن هذه القصة إنما جلبت على معنى المثل للنبي صلى الله عليه وسلم في قومه ؛ أي لا تهتم بإملاء الله لهم وإجراء النعم لهم على ظاهرها ، فإن البواطن سائرة إلى الانتقام منهم ، ونحو هذا مما هو محتمل لكن بتعسف ما فتأمله .


[7877]:أخرجه أبو داود، عن علي رضي الله عنه، عن علي رضي الله عنه، ولفظه كما ذكره الإمام السيوطي في الجامع الصغير: (لا يتم بعد احتلام، ولا صمات يوم إلى الليل)، وقد رمز له السيوطي بأنه حديث حسن.
[7878]:هو عمر بن عبد الله المدني، مولى غفرة بضم الغين وسكون الفاء، قال عنه صاحب تقريب التهذيب: "ضعيف، وكان كثير الإرسال، من الخامسة، مات سنة خمس أو ست وأربعين".
[7879]:دنية: الأب الأقرب والأدنى.
[7880]:أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: "إن الله يصلح بصلاح الرجل ولده وولد ولده، ويحفظه في ذريته والدريرات حوله، فما يزالون في ستر من الله وعافية". وأخرج ابن مردويه عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يصلح بصلاح الرجل الصالح ولده وولد ولده وأهل دويرات حوله، فما يزالون في حفظ الله ما دام فيهم)، وأخرجه ابن المبارك، وابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر موقوفا. (الدر المنثور).
[7881]:الآية (80) من سورة (الشعراء).
[7882]:من الآية (5) من سورة (الصف).
[7883]:من الآية (118) من سورة (التوبة).
[7884]:من قولهمم روُّى فلان في الأمر بمعنى: نظر فيه وتفكر.
[7885]:هذا الحديث خرجه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمر، قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات صلاة العشاء في آخر حياته، فلما سلم قام فقال: (أرأيتكم ليتكم هذه فإن على رأس مائة سنة منها لا يبقى ممن هو على ظهر الأرض أحد)، فوهل الناس في مقالة رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك فيما يتحدثون من هذه الأحاديث عن مائة سنة، ـ وهل: غلط وذهب وهمه إلى خلاف الصواب ـ، وإنما عليه الصلاة والسلام: (لا يبقى ممن هو اليوم على ظهر الأرض أحد)، يريد بذلك أن ينخرم ذلك القرن. ورواه مسلم أيضا من حديث جابر بن عبد الله، قال القرطبي: وعن أبي سعيد الخدري نحو هذا الحديث.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَٰمَيۡنِ يَتِيمَيۡنِ فِي ٱلۡمَدِينَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزٞ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَٰلِحٗا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبۡلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةٗ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِيۚ ذَٰلِكَ تَأۡوِيلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَيۡهِ صَبۡرٗا} (82)

أما قضية الجدار فالخضر تصرف في شأنها عن إرادة الله اللطف باليتيمين جزاء لأبيهما على صلاحه ، إذ علم الله أن أباهما كان يَهمّه أمر عيشهما بعده ، وكان قد أودع تحت الجدار مالاً ، ولعله سأل الله أن يلهم ولديه عند بلوغ أشدهما أن يبحثا عن مدفن الكنز تحت الجدار بقصد أو بمصادفة ، فلو سقط الجدار قبل بلوغهما لتناولت الأيدي مكانه بالحفر ونحوه فعثر عليه عاثر ، فذلك أيضاً لطف خارق للعادة . وقد أسند الإرادة في قصة الجدار إلى الله تعالى دون القصتين السابقتين لأن العمل فيهما كان من شأنه أن يسعى إليه كل من يقف على سرّه لأن فيهما دفع فساد عن الناس بخلاف قصة الجدار فتلك كرامة من الله لأبي الغلامين .

وقوله : { رحمةً من ربّك وما فعلتُهُ عن أمري } تصريح بما يزيل إنكار موسى عليه تصرفاته هذه بأنها رحمة ومصلحة فلا إنكار فيها بعد معرفة تأويلها .

ثم زاد بأنه فعلها عن وحي من الله لأنه لما قال { وما فعلته عن أمري } علم موسى أنّ ذلك بأمر من الله تعالى لأنّ النبي إنما يتصرف عن اجتهاد أو عن وَحي ، فلما نفى أن يكون فعله ذلك عن أمر نفسه تعيّن أنه عن أمر الله تعالى . وإنما أوثر نفي كون فعله عن أمر نفسه على أن يقول : وفعلته عن أمر ربّي ، تكملة لكشف حيرة موسى وإنكاره ، لأنه لما أنكر عليه فعلاته الثلاث كان يؤيد إنكاره بما يقتضي أنه تصرفٌ عن خطأ .

وانتصب { رحْمَةً } على المفعول لأجله فينازعه كل من ( أردتُ ) ، و ( أردنَا ) ، و ( أراد ربّك ) .

وجملة { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } فَذْلَكَةٌ للجمل التي قبلها ابتداء من قوله { أمَّا السَّفِينةُ فَكَانَتْ لمساكين } ، فالإشارة بذلك إلى المذكور في الكلام السابق وهو تلخيص للمقصود كحوصلة المدرس في آخر درسه .

و { تَسْطِعْ } مضارع ( اسطاع ) بمعنى ( استطاع ) . حذف تاء الاستفعال تخفيفاً لقربها من مخرج الطاء ، والمخالفةُ بينه وبين قوله { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً } للتفنن تجنباً لإعادة لفظ بعينه مع وجود مرادفه . وابتدىء بأشهرهما استعمالاً وجيء بالثانية بالفعل المخفف لأنّ التخفيف أولى به لأنه إذا كرر { تَسْتَطِع } يحصل من تكريره ثقل .

وأكد الموصول الأول الواقع في قوله { سأُنَبِئُكَ بتأويل ما لم تستَطِعْ عليهِ صَبْراً } تأكيداً للتعريض باللوم على عدم الصبر .

واعلم أن قصة موسى والخضر قد اتخذتها طوائف من أهل النحل الإسلامية أصلاً بنوا عليه قواعد موهومة .

فأول ما أسسوه منها أنّ الخضر لم يكن نبيئاً وإنما كان عبداً صالحاً ، وأن العِلم الذي أوتيه ليس وحياً ولكنه إلهام ، وأن تصرفه الذي تصرفه في الموجودات أصل لإثبات العلوم الباطنية ، وأن الخضر منحهُ الله البقاء إلى انتهاء مدة الدنيا ليكون مرجعاً لتلقي العلوم الباطنية ، وأنه يظهر لأهل المراتب العليا من الأولياء فيفيدهم من علمه ما هم أهل لتلقّيه .

وبَنوا على ذلك أن الإلهام ضرب من ضروب الوحي ، وسموه الوحي الإلهامي ، وأنه يجيء على لسان ملك الإلهام ، وقد فصله الشيخ محيي الدين ابن العربي في الباب الخامس والثمانين من كتابه « الفتوحات المكية » ، وبيّن الفرق بينه وبين وحي الأنبياء بفروق وعلامات ذكرها منثورةً في الأبواب الثالث والسبعين ، والثامن والستين بعد المائتين ، والرابع والستين بعد ثلاثمائة ، وجزم بأن هذا الوحي الإلهامي لا يكون مخالفاً للشريعة ، وأطال في ذلك ، ولا يخلو ما قاله من غموض ورموز ، وقد انتصب علماء الكلام وأصول الفقه لإبطال أن يكون ما يسمى بالإلهام حجّة . v وعرفوه بأنه إيقاع شيء في القلب يثلج له الصدر ، وأبطلوا كونه حجّة لعدم الثقة بخواطر من ليس معصوماً ولتفاوت مراتب الكشف عندهم . وقد تعرض لها النسفي في « عقائده » ، وكل ما قاله النسفي في ذلك حق ، ولا يقام التشريع على أصول موهومة لا تنضبط .

والأظهر أن الخضر نبيء عليه السلام وأنه كان موحىً إليه بما أوحي ، لقوله { وما فعلته عن أمري } ، وأنه قد انقضى خبره بعد تلك الأحوال التي قصّت في هذه السورة ، وأنه قد لحقه الموت الذي يلحق البشر في أقصى غاية من الأجل يمكن أن تفرض ، وأن يحمل ما يعْزى إليه من بعض الصوفية الموسومين بالصدق أنه محوك على نسج الرمز المعتاد لديهم ، أو على غشاوة الخيال التي قد تخيم عليهم .

فكونوا على حذر ممن يقول : أخبرني الخَضر .