قوله تعالى : { للمسلمين إن الله يأمر بالعدل } ، بالإنصاف ، { والإحسان } ، إلى الناس . وعن ابن عباس العدل : التوحيد ، و الإحسان : أداء الفرائض . وعنه : الإحسان : الإخلاص في التوحيد ، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " . وقال مقاتل : العدل : التوحيد ، والإحسان : العفو عن الناس . { وإيتاء ذي القربى } ، صلة الرحم . { وينهى عن الفحشاء } ، ما قبح من القول والفعل . وقال ابن عباس : الزنا ، { والمنكر } ، ما لا يعرف في شريعة ولا سنة ، { والبغي } ، الكبر والظلم . وقال ابن عيينة : العدل : استواء السر والعلانية ، والإحسان : أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، و الفحشاء والمنكر : أن تكون علانيته أحسن من سريته . { يعظكم لعلكم تذكرون } ، تتعظون . قال ابن مسعود : أجمع آية في القرآن هذه الآية . وقال أيوب عن عكرمة : " إن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد : { إن الله يأمر بالعدل } إلى آخر الآية فقال له : يا ابن أخي أعد ، فأعاد عليه ، فقال : إن له والله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر " .
{ 90 } { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
فالعدل الذي أمر الله به ، يشمل العدل في حقه وفي حق عباده ، فالعدل في ذلك أداء الحقوق كاملة موفرة ، بأن يؤدي العبد ما أوجب الله عليه من الحقوق المالية والبدنية ، والمركبة منهما في حقه وحق عباده ، ويعامل الخلق بالعدل التام ، فيؤدي كل وال ما عليه تحت ولايته ، سواء في ذلك ولاية الإمامة الكبرى ، وولاية القضاء ونواب الخليفة ، ونواب القاضي .
والعدل هو ما فرضه الله عليهم في كتابه ، وعلى لسان رسوله ، وأمرهم بسلوكه ، ومن العدل في المعاملات أن تعاملهم في عقود البيع والشراء وسائر المعاوضات ، بإيفاء جميع ما عليك ، فلا تبخس لهم حقا ولا تغشهم ولا تخدعهم وتظلمهم . فالعدل واجب ، والإحسان فضيلة مستحب ، وذلك كنفع الناس بالمال والبدن والعلم ، وغير ذلك من أنواع النفع ، حتى إنه يدخل فيه الإحسان إلى الحيوان البهيم المأكول وغيره .
وخص الله إيتاء ذي القربى -وإن كان داخلا في العموم- ؛ لتأكد حقهم وتعين صلتهم وبرهم ، والحرص على ذلك .
ويدخل في ذلك جميع الأقارب ، قريبهم وبعيدهم ، لكن كل ما كان أقرب كان أحق بالبر .
وقوله : { وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ } ، وهو كل ذنب عظيم استفحشته الشرائع والفطر ، كالشرك بالله ، والقتل بغير حق ، والزنا ، والسرقة ، والعجب ، والكبر ، واحتقار الخلق ، وغير ذلك من الفواحش .
ويدخل في المنكر كل ذنب ومعصية متعلق بحق الله تعالى .
وبالبغي كل عدوان على الخلق في الدماء والأموال والأعراض .
فصارت هذه الآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات ، لم يبق شيء إلا دخل فيها ، فهذه قاعدة ترجع إليها سائر الجزئيات ، فكل مسألة مشتملة على عدل أو إحسان أو إيتاء ذي القربى ، فهي مما أمر الله به .
وكل مسألة مشتملة على فحشاء أو منكر أو بغي ، فهي مما نهى الله عنه . وبها يعلم حسن ما أمر الله به وقبح ما نهى عنه ، وبها يعتبر ما عند الناس من الأقوال وترد إليها سائر الأحوال ، فتبارك من جعل في كلامه الهدى والشفاء والنور والفرقان بين جميع الأشياء .
ولهذا قال : { يَعِظُكُمْ بِهِ } ، أي : بما بينه لكم في كتابه ، بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ، ونهيكم عما فيه مضرتكم .
{ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه ، فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه ، عملتم بمقتضاه ، فسعدتم سعادة لا شقاوة معها .
( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي . يعظكم لعلكم تذكرون . وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا ، إن الله يعلم ما تفعلون . ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا ، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة ، إنما يبلوكم الله به ، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون . ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء ، ولتسألن عما كنتم تعملون ) . .
لقد جاء هذا الكتاب لينشيء أمة وينظم مجتمعا ، ثم لينشيء عالما ويقيم نظاما . جاء داء دعوة عالمية إنسانية لا تعصب فيها لقبيلة أو أمة أو جنس ؛ إنما العقيدة وحدها هي الآصرة والرابطة والقومية والعصبية .
ومن ثم جاء بالمباديء التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات ، واطمئنان الأفراد والأمم والشعوب ، والثقة بالمعاملات والوعود والعهود .
جاء ( بالعدل ) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة ولكل قوم قاعدة ثابتة للتعامل ، لا تميل مع الهوى ، ولا تتأثر بالود والبغض ، ولا تتبدل مجاراة للصهر والنسب ، والغني والفقير ، والقوة والضعف . إنما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع ، وتزن بميزان واحد للجميع .
وإلى جوار العدل . . ( الإحسان ) . . يلطف من حدة العمل الصارم الجازم ، ويدع الباب مفتوحا لمن يريد أن يتسامح في بعض حقه إيثارا لود القلوب ، وشفاء لغل الصدور . ولمن يريد أن ينهض بما فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا أو يكسب فضلا .
والإحسان أوسع مدلولا ، فكل عمل طيب إحسان ، والأمر بالإحسان يشمل كل عمل وكل تعامل ، فيشمل محيط الحياة كلها في علاقات العبد بربه ، وعلاقاته بأسرته ، وعلاقاته بالجماعة ، وعلاقاته بالبشرية جميعا .
ومن الإحسان ( إيتاء ذي القربى ) إنما يبرز الأمر به تعظيما لشأنه ، وتوكيدا عليه . وما يبني هذا على عصبية الأسرة ، إنما يبنيه على مبدأ التكافل الذي يتدرج به الإسلام من المحيط المحلي إلى المحيط العام . وفق نظريته التنظيمية لهذا التكافل .
( وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي ) . . والفحشاء كل أمر يفحش أي يتجاوز الحد . ومنه ما خصص به غالبا وهو فاحشة الاعتداء على العرض ، لأنه فعل فاحش فيه اعتداء وفيه تجاوز للحد حتى ليدل على الفحشاء ويختص بها . والمنكر كل فعل تنكره الفطرة ومن ثم تنكره الشريعة فهي شريعة الفطرة . وقد تنحرف الفطرة أحيانا فتبقى الشريعة ثابتة تشير إلى أصل الفطرة قبل انحرافها . والبغي الظلم وتجاوز الحق والعدل .
وما من مجتمع يمكن أن يقوم على الفحشاء والمنكر والبغي . ما من مجتمع تشيع فيه الفاحشة بكل مدلولاتها ، والمنكر بكل مغرراته ، والبغي بكل معقباته ، ثم يقوم . .
والفطرة البشرية تنتفض بعد فترة معينة ضد هذه العوامل الهدامة ، مهما تبلغ قوتها ، ومهما يستخدم الطغاة من الوسائل لحمايتها . وتاريخ البشرية كله انتفاضات وانتفاضات ضد الفحشاء والمنكر والبغي . فلا يهم أن تقوم عهود وأن تقوم دول عليها حينا من الدهر ، فالانتفاض عليها دليل على أنها عناصر غريبة على جسم الحياة ، فهي تنتفض لطردها ، كما ينتفض الحي ضد أي جسم غريب يدخل إليه . وأمر الله بالعدل والإحسان ونهيه عن الفحشاء والمنكر والبغي يوافق الفطرة السليمة الصحيحة ، ويقويها ويدفعها للمقاومة باسم الله . لذلك يجيء التعقيب : ( يعظكم لعلكم تذكرون ) فهي عظة للتذكر وتذكر وحي الفطرة الأصيل القويم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.