نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

ولما بين تعالى فضل هذا القرآن بما يقطع حجتهم ، وكان قد قدم فضل من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم ، أخذ يبين اتصاف القرآن ببيان كل شيء ، وتضمنه لذلك الطريق الأقوم ، فقال تعالى جامعاً لما يتصل بالتكاليف فرضاً ونفلاً ، وما يتصل بالأخلاق والآداب عموماً وخصوصاً : { إن الله } ، أي : الملك المستجمع لصفات الكمال . { يأمر بالعدل } : وهو الإنصاف الذي لا يقبل عمل يدونه ، وأول درجاته التوحيد الذي بنيت السورة عليه ، والعدل يعتبر تارة في المعنى فيراد به هيئة في الإنسان تطلب بها المساواة ، وتارة في العقل فيراد به التقسيط القائم على الاستواء ، وتارة يقال : هو الفضل كله من حيث إنه لا يخرج شيء من الفضائل عنه ، وتارة يقال : هو أكمل الفضائل من حيث إن صاحبه يقدر على استعماله في نفسه وفي غيره ، وهو ميزان الله المبرأ من كل زلة ، وبه يستتب أمر العالم ، وبه قامت السماوات والأرض ، وهو وسط كل أطرافه جور ، وبالجملة الشرع مجمع العدل ، وبه تعرف حقائقه ، ومن استقام على نهج الحق فقد استتب على منهج العدل - ذكره الرازي في اللوامع وفيه تلخيص ، وفي آخر الجزء الخامس عشر من الثقفيات : أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قال لمحمد بن كعب القرظي رضي الله عنه : صف لي العدل ، فقال : كن لصغير الناس أباً ، ولكبيرهم ابناً ، وللمثل أخاً ، وللنساء كذلك ، وعاقب الناس بقدر ذنوبهم على قدر أجسامهم ، ولا تضربن لغضبك سوطاً واحداً فتعدَّى ، فتكون من العادين . انتهى . { والإحسان } ، وهو فعل الطاعة على أعلى الوجوه ، فالعدل فرض ، والإحسان فضل ، وهو مجاوزة النصفة إلى التحامل على النفس ؛ لأنه ربما وقع في الفرض نقص فجبر بالنفل ، وهو في التوحيد الارتقاء عن أول الدرجات ، ومن أعلاه الغنى عن الأكوان ، وتكون الأكوان في غيبتها عند انبساط نور الحق ، كالنجوم في انطماسها عند انتشار نور الشمس ، وغايته الفناء حتى عن هذا الغنى ، وشهود الله وحده ، وهو التوحيد على الحقيقة ، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتفق عليه : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " وهو روح الإنسانية ، ففي الجزء الثامن من الثقفيات عن عاصم بن كليب الجرمي قال : : " حدثني أبي كليب أنه شهد مع أبيه جنازة شهدها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، قال : وأنا غلام أعقل وأفهم ، قال : فانتهى بالجنازة إلى القبر ولما يمكن لها ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول سوّ ذا أو خذ ذا ! قال : حتى ظن الناس أنها سنة ، فالتفت إليهم فقال : أما إن هذا لا ينفع الميت ولا يضره ، ولكن الله تعالى يحب من العامل إذا عمل أن يحسن " .

( وإيتاء ذي القربى } ، فإنه من الإحسان ، وهو أولى الناس بالبر ، وذلك جامع للاحسان في صلة الرحم .

ولما أمر بالمكارم ، نهى عن المساوىء والملائم فقال تعالى : { وينهى عن الفحشاء } ، وهي ما اشتد تقصيره عن العدل فكان ضد الإحسان . { والمنكر } ، وهو ما قصر عن العدل في الجملة . { والبغي } ، وهو الاستعلاء على الغير ظلماً ، وقال البيضاوي في سورة الشورى : هو طلب تجاوز الاقتصاد فيما يتجزأ كمية أو كيفية . وهو من المنكر ، صرح به اهتماماً ، وهو أخو قطيعة الرحم ، ومشارك لها في تعجيل العقوبة . " ما من ذنب أحرى أن يعجل الله لصاحبه العقوبة ، مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم . " رواه أحمد وأبو داود والترمذي عن أبي بكرة رضي الله عنه رفعه ، وأصل البغي الإرادة ، كأنه صار بفهم هذا المعنى المحظور - المحذور عند حذف مفعوله ؛ لأن الإنسان - لكونه مجبولاً على النقصان - لا يكاد يصلح منه إرادة ، فعليه أن يكون مسلوب الاختيار ، مع الملك الجبار ، الواحد القهار ، فتكون إرادته تابعة لإرادته ، واختياره من وراء طاعته ، وعن الحسن أن الخلقين الأولين ما تركا طاعة إلا جمعاها ، والأخيرين ما تركا معصية إلا جمعاها .

ولما دعا هذا الكلام على وجازته إلى أمهات الفضائل لي هي العلم والعدل والعفة والشجاعة ، وزاد من الحسن ما شاء ، فإن الإحسان من ثمرات العفة ، والنهي عن البغي الذي هو من ثمرات الشجاعة المذمومة ، إذن فيما سواه منها ، ولا يقوم شيء من ذلك إلا بالعلم ، وكان هذا أبلغ وعظ ، نبه عليه سبحانه بقوله تعالى : { يعظكم } ، أي : يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة ثلاثة ومجانبة ثلاثة . { لعلكم تذكرون * } ، أي : ليكون حالكم حال من يرجى تذكره ، لما في ذلك من المعالي بما وهب الله من العقل ، الداعي إلى كل خير ، الناهي عن كل ضير ، فإن كل أحد من طفل وغيره يكره أن يفعل معه شيء من هذه المنهيات ، فمن كان له عقل واعتبر بعقله ، علم أن غيره يكره منه ما يكره هو منه ، ويعلم أنه إن لم يكف عن فعل ما يكره أخوه وقع التشاجر ، فيحصل الفساد المؤدي إلى خراب الأرض ، هذا في الفعل مع أمثاله من المخلوقين ، فكيف بالخالق بأن يصفه بما لا يليق به سبحانه ، وعز اسمه ، وتعالى جده ، وعظم أمره .