وِلما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ، ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقاً لذلك ، فقال : { إن الله يأمر } الآية ، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أوّلاً إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتقرر الإسلام في قلبي . فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني ، إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ، ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك ، فسألته فقال : بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال : يا محمد { إن الله يأمر بالعدل } الآية . قال عثمان : فمن وقته استقر الإيمان في قلبي ، وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم . وعن ابن مسعود : هي أجمع آية في القرآن . وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها . قال المفسرون : العدل : هو أداء الفرائض . وعن ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله . { والإحسان } : هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعاً وعرفاً ، وأقربها صلة الرحم بالمال ، فلذلك أفردها بالذكر بقوله : { وإيتاء ذي القربى } ، والفحشاء : هي الأمور المتزايدة في القبح ؛ فلذلك أفردها بالذكر ، وهي الكبائر . وقد يخص بالزنا أو بالبخل ، والمنكر : ما تنكره العقول ، ولا يعرف في شريعة ولا سنة . والبغي : هو الاستطالة . قال جار الله : حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها . واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ، ولنذكر له أمثلة : أما في الاعتقادات : فالقول بنفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد : تشريك وتعجيز ، والعدل : هو قول : " لا إله إلا الله " . كما نقل عن ابن عباس ، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب . ثم إن الأشعري يقول : القول بنفي الصفات عنه سبحانه : تعطيل ، والقول بإثبات المكان والأعضاء : تشبيه ، والعدل : إثبات صفات الكمال ، من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، ونفي غيرها . وبوجه آخر . نفي الصفات : تعطيل ، وإثبات الصفات الحادثة : تشبيه ، العدل : إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة . وأيضاً القول بأن العبد لا قدرة له أصلاً : جبر محض ، والقول بأنه مستقل في التصرف : قدر محض وتفويض ، والعدل : أمر بين الأمرين : وهو أن العبد يفعل الأفعال ، ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه . وأيضاً القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان . والمعتزلي يقول : العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مراراً . وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوماً من نفاة التكليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ، ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي . وقال قوم من الهند وطائفة من المانوية : يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ، ويبالغ في تعذيب نفسه ، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج ، والأولى بالمرء أن يختصي ، فهذان الطريقان مذمومان ، والوسط هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التشديد غالب في دين موسى ، فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ، ويحرم مخالطة الحائض ، والتساهل في دين عيسى غالب ، فلا قصاص على القاتل ، ولا يحرم وطء الحائض ، والعدل : ما حكم به شرعنا ، من جواز العفو وأخذ الدية ، وحرمة وطء الحائض دون مخالطتها ، ولذلك قال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة :143 ] ، وقال : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] ، ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قيل له : { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [ طه : 1 ] ، ولما أخذ قوم في المساهلة نزل : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] ، والمراد : رعاية الوسط في كل الأمور ، وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء : الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس ، فإذا قطعت تلك الجلدة ، بقي رأسه عارياً فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها ، فيضعف حسه ويقل شعوره ، فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه . فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم ، والوسط العدل : هو الختان . هذا ما قيل . وعندي أن الحكمة في الختان بعد التعبد ، هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة ، وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر ؛ لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل . ومن الكلمات المشهورة قولهم : " بالعدل قامت السموات والأرضون " . ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية ، لاستولى الغالب على المغلوب ، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحترق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ، ومراتب سرعتها وإبطائها ، فإن كلاً منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه . فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل .
وأما الإحسان : فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ، ومن هنا قال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " ، فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه ، وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال ، فلا جرم أفرد بالذكر كما مر . ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعاً : الشهوية البهيمية ، والغضبية السبعية ، والوهمية الشيطانية ، والعقلية الملكية . وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب ؛ لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأولى فتحتاج إلى التأديب والتهذيب ، بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة . والنهي عن الفحشاء : عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر : عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ، من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية ، كالاستعلاء على الناس ، والترفع وحب الرياسة ، والتقدم ممن ليس أهلاً لذلك ، وأخس هذه المراتب عند العقلاء : القوة الشهوانية ، وأوسطها : الغضبية ، وأعلاها : الوهمية ؛ فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية ، لا جرم ختمها بقوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } ؛ لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة . قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء ، وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم ؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد - والتذكر من فعل الله بالاتفاق ، لا من فعل العبد - أن يطلب الله منه التذكر ، فإن طلب ما ليس في وسعه محال . فمعنى : { لعلكم تذكرون } ، إرادة أن تكونوا على حالة التذكر ، لا إرادة أن تحصلوا التذكر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.