غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

84

وِلما ذكر أن في القرآن تبيان كل شيء ، ذكر عقيبه آية جامعة لأصول التكاليف كلها تصديقاً لذلك ، فقال : { إن الله يأمر } الآية ، عن ابن عباس أن عثمان بن مظعون الجمحي قال : ما أسلمت أوّلاً إلا حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يتقرر الإسلام في قلبي . فحضرته ذات يوم فبينا هو يحدثني ، إذ رأيت بصره شخص إلى السماء ، ثم خفضه عن يمينه ، ثم عاد لمثل ذلك ، فسألته فقال : بينا أنا أحدثك إذا جبرائيل عليه السلام نزل عن يميني فقال : يا محمد { إن الله يأمر بالعدل } الآية . قال عثمان : فمن وقته استقر الإيمان في قلبي ، وأحببت محمداً صلى الله عليه وسلم . وعن ابن مسعود : هي أجمع آية في القرآن . وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان في الجاهلية يعمل ويستحسن إلا أمر الله تعالى به في هذه الآية ، وليس من خلق سيء إلا وقد نهى الله تعالى عنه فيها . قال المفسرون : العدل : هو أداء الفرائض . وعن ابن عباس : هو قول لا إله إلا الله . { والإحسان } : هو الإتيان بالمندوبات والمستحسنات شرعاً وعرفاً ، وأقربها صلة الرحم بالمال ، فلذلك أفردها بالذكر بقوله : { وإيتاء ذي القربى } ، والفحشاء : هي الأمور المتزايدة في القبح ؛ فلذلك أفردها بالذكر ، وهي الكبائر . وقد يخص بالزنا أو بالبخل ، والمنكر : ما تنكره العقول ، ولا يعرف في شريعة ولا سنة . والبغي : هو الاستطالة . قال جار الله : حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعلى نبينا الصلاة والسلام أقيمت هذه الآية مقامها . واعلم أن العدل عبارة عن الأمر المتوسط بين طرفي الإفراط والتفريط ، وأنه واجب الرعاية في جميع الأشياء ، ولنذكر له أمثلة : أما في الاعتقادات : فالقول بنفي الإله تعطيل محض ، وإثبات أكثر من إله واحد : تشريك وتعجيز ، والعدل : هو قول : " لا إله إلا الله " . كما نقل عن ابن عباس ، هذا ما اتفق عليه أرباب المذاهب . ثم إن الأشعري يقول : القول بنفي الصفات عنه سبحانه : تعطيل ، والقول بإثبات المكان والأعضاء : تشبيه ، والعدل : إثبات صفات الكمال ، من الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، ونفي غيرها . وبوجه آخر . نفي الصفات : تعطيل ، وإثبات الصفات الحادثة : تشبيه ، العدل : إثبات صفات أزلية قديمة غير متغيرة . وأيضاً القول بأن العبد لا قدرة له أصلاً : جبر محض ، والقول بأنه مستقل في التصرف : قدر محض وتفويض ، والعدل : أمر بين الأمرين : وهو أن العبد يفعل الأفعال ، ولكن بواسطة قدرة وداعية يخلقها الله تعالى فيه . وأيضاً القول بأن الله لا يؤاخذ عبده بشيء من الذنوب مساهلة عظيمة ، والقول بأنه يخلد في النار عبده العارف به بالمعصية الواحدة تشديد عظيم ، والعدل أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من الإيمان . والمعتزلي يقول : العدل في هذه الأصول بنوع آخر وقد مر مراراً . وأما رعاية العدل فيما يتعلق بأفعال الجوارح فإن قوماً من نفاة التكليف يقولون : لا يجب على العبد الاشتغال بشيء من الطاعات ، ولا الاحتراز عن شيء من المعاصي . وقال قوم من الهند وطائفة من المانوية : يجب على الإنسان أن يجتنب عن أكل الطيبات ، ويبالغ في تعذيب نفسه ، وأن يحترز عن كل ما يميل الطبع إليه حتى التزوّج ، والأولى بالمرء أن يختصي ، فهذان الطريقان مذمومان ، والوسط هو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التشديد غالب في دين موسى ، فليس في شرعه على القاتل إلا القصاص ، ويحرم مخالطة الحائض ، والتساهل في دين عيسى غالب ، فلا قصاص على القاتل ، ولا يحرم وطء الحائض ، والعدل : ما حكم به شرعنا ، من جواز العفو وأخذ الدية ، وحرمة وطء الحائض دون مخالطتها ، ولذلك قال : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة :143 ] ، وقال : { والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً } [ الفرقان : 67 ] ، ولما بالغ رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبادات قيل له : { طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } [ طه : 1 ] ، ولما أخذ قوم في المساهلة نزل : { أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً } [ المؤمنون : 115 ] ، والمراد : رعاية الوسط في كل الأمور ، وقد ورد في شرعنا الختان فقال بعض العقلاء : الحكمة فيه أن رأس ذلك العضو جسم شديد الحس ، فإذا قطعت تلك الجلدة ، بقي رأسه عارياً فيصلب بكثرة ملاقاة الثياب وغيرها ، فيضعف حسه ويقل شعوره ، فتقل لذة الوقاع فتقل الرغبة فيه . فالاختصاء وقطع الآلات كما ذهب إليه المانوية مذموم ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة مذموم ، والوسط العدل : هو الختان . هذا ما قيل . وعندي أن الحكمة في الختان بعد التعبد ، هو التنظيف وسهولة غسل الحشفة ، وإلا فلعل اللذة بعد الختان أكثر ؛ لملاقاة الحاس والمحسوس بلا حائل . ومن الكلمات المشهورة قولهم : " بالعدل قامت السموات والأرضون " . ومعناه أن مقادير العناصر لو لم تكن معادلة مكافية بحسب الكمية والكيفية ، لاستولى الغالب على المغلوب ، وتنقلب الطبائع كلها إلى طبيعة الجرم الغالب ، ولو كان بعد الشمس من الأرض أقل مما هو الآن لاحترق كل ما في هذا العالم ، وإن كان أكثر استولى البرد والجمود ، وكذا القول في مقادير حركات الكواكب ، ومراتب سرعتها وإبطائها ، فإن كلاً منها مقدر على ما يليق بنظام العالم وقوامه وقيامه . فهذه إشارة مختصرة إلى تحقيق العدل .

وأما الإحسان : فهو المبالغة في أداء الطاعات بحسب الكمية وبحسب الكيفية ، ومن هنا قال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه " ، فكأن المبالغ المخلص في أداء الطاعات يوصل الفعل الحسن إلى نفسه ، وبالحقيقة يدخل في الإحسان أنواع التعظيم لأمر الله والشفقة على خلق الله ، وأشرف أنواع الإشفاق صلة الرحم بالمال ، فلا جرم أفرد بالذكر كما مر . ثم إنه تعالى أودع في النفس البشرية قوى أربعاً : الشهوية البهيمية ، والغضبية السبعية ، والوهمية الشيطانية ، والعقلية الملكية . وهذه الأخيرة لا تحتاج إلى التهذيب ؛ لأنها من نتائج الأرواح القدسية ، وأما الثلاث الأولى فتحتاج إلى التأديب والتهذيب ، بمقتضى الشريعة وقانون العقل والطريقة . والنهي عن الفحشاء : عبارة عن المنع من تحصيل اللذات الشهوية الخارجة عن إذن الشريعة ، والنهي عن المنكر : عبارة عن الإفراط الحاصل في آثار القوة الغضبية ، من إيذاء الناس وإيصال الشر إليهم من غير ما استحقاق ، والنهي عن البغي إشارة إلى المنع من إفراط القوة الوهمية ، كالاستعلاء على الناس ، والترفع وحب الرياسة ، والتقدم ممن ليس أهلاً لذلك ، وأخس هذه المراتب عند العقلاء : القوة الشهوانية ، وأوسطها : الغضبية ، وأعلاها : الوهمية ؛ فلهذا بدأ سبحانه بالفحشاء ثم بالمنكر ثم بالبغي ، ولأن أصول الأخلاق والتكاليف كلها مذكورة في الآية ، لا جرم ختمها بقوله : { يعظكم لعلكم تذكرون } ؛ لأنها كافية في باب العظة والتذكر والارتقاء من حضيض عالم البشرية إلى ذروة عالم الأرواح المقدسة . قال الكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لا يخلق الجور والفحشاء ، وإلا فكيف ينهاهم عما يخلقها فيهم ؟ وعورض بالعلم والداعي كما مر مراراً . واعلم أنه لا يلزم من إرادة الله تذكر العبد - والتذكر من فعل الله بالاتفاق ، لا من فعل العبد - أن يطلب الله منه التذكر ، فإن طلب ما ليس في وسعه محال . فمعنى : { لعلكم تذكرون } ، إرادة أن تكونوا على حالة التذكر ، لا إرادة أن تحصلوا التذكر .

/خ100