{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 90 ) .
ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيانا كل شيء ، ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقا لذلك فقال :
{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ } ، أي : فيما نزله تبيانا لكل شيء ، وهدى وبشرى . { بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } ، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده ؛ لإفادة التجدد والاستمرار ، وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان ، فقيل : العدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : أداء الفرائض . وقيل : العدل : الفرض ، والإحسان : النافلة .
وقيل : العدل : استواء العلانية والسريرة ، والإحسان : أن تكون السريرة أفضل من العلانية ، وقيل : العدل : التوحيد ، والإحسان : التفضل ، وقيل : العدل : خلع الأنداد ، والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه .
وقيل : العدل : التوحيد ، والإحسان : الإخلاص ، وقيل : العدل في الأفعال ، والإحسان في الأقوال ، فلا يفعل إلا ما هو عدل ، ولا يقول إلا ما هو حسن . وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره ، والعدل : هو المساواة في كل شيء من غير شطط ولا وكس .
والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي ، وهو التوسط بين طرق الإفراط والتفريط ، فمعنى أمره سبحانه بالعدل : أن تكون عبادة في الدين على حالة متوسطة ، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط ، وهو الغلو المذموم في الدين ، ولا إلى جانب التفريط ، وهو الإخلال بشيء مما هو من أمر الدين اعتقادا ، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك ، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر ، وعملا : كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقا : كالجود المتوسط بين البخل والتبذير .
وأما الإحسان ، فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع ، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها ، ولم يذكر متعلقات العدل والإحسان والبغي ، ليعم جميع ما يعدل فيه ويحسن به وإليه وينبغي فيه ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فسر الإحسان : بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه ، فقال في حديث ابن عمر في الصحيحين : ( والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ( 1 ) {[1059]} وهذا هو المعنى بالإحسان شرعا .
{ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى } ، ما تدعو إليه حاجتهم ، وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام ، وترغيب في التصدق علهم ، وهو من باب عطف الخاص على العام ، إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان ، وقيل : من باب عطف المندوب على الواجب ، ومثل هذه الآية قوله : { وآت ذا القربى حقه } ، وإنما خص ذوي القربى ؛ لأن حقهم آكد ، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه الشريف ، وجعل صلتها من صلته ، وقطيعتها من قطيعته ، فيستحب أن يصلهم من فضل ما رزقه الله ، فإن لم يكن له فضل فدعاء حسن وتودد .
{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء } ، هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل ، وقيل : هي الزنا ، وقيل : البخل . { وَالْمُنكَرِ } ، وهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه ، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها ، وقيل : هو الشرك . { وَالْبَغْيِ } ، قيل : هو الكبر ، وقيل : هو الظلم ، وقيل : الحقد ، وقيل : التعدي ، وحقيقته تجاوز الحد ، فيشمل هذه المذكورة ، ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر ، وإنما خص بالذكر اهتماما به ؛ لشدة ضرره ووبال عاقبته ، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها ، لقوله سبحانه : { إنما بغيكم على أنفسكم } ، وهذه الآية من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
وعن عبد الملك بن عمير ، أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب ، قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمتها ، ثم قال لقوم :ه كونوا في هذه الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا ، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا .
وعن ابن عباس قال : أعظم آية في كتاب الله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ، وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر التي في النحل : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ، وأكثر آي في كتاب الله تفويضا : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، وأشد آية في كتاب الله رجاء : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآية .
وعن عكرمة ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية ، فقال له : يا ابن أخي أعد علي ، فأعادها عليه ، فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر ، وعن الحسن أنه قرأ هذه الآية إلى آخرها ؛ ثم قال : إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة ، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه وأمر به ، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه .
وفي المستدرك عن ابن مسعود : وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر ، قال البيضاوي : وبسببها أسلم عثمان بن مظعون ، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء ، وهدى ورحمة ، ولعل إيرادها عقب قوله : { ونزلنا عليك الكتاب } للتنبيه عليه .
ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله : { يَعِظُكُمْ } ، بما ذكره في هذه الآية ، مما أمركم به ونهاكم عنه . { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، أي : إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به ، فإنه كاف في باب الوعظ والتذكير .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.