فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ يَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَٱلۡإِحۡسَٰنِ وَإِيتَآيِٕ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَيَنۡهَىٰ عَنِ ٱلۡفَحۡشَآءِ وَٱلۡمُنكَرِ وَٱلۡبَغۡيِۚ يَعِظُكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ} (90)

{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ( 90 ) .

ثم لما ذكر سبحانه أن في القرآن تبيانا كل شيء ، ذكر عقبه آية جامعة لأصول التكليف كلها تصديقا لذلك فقال :

{ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ } ، أي : فيما نزله تبيانا لكل شيء ، وهدى وبشرى . { بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ } ، وإيثار صيغة الاستقبال فيه وفيما بعده ؛ لإفادة التجدد والاستمرار ، وقد اختلف أهل العلم في تفسير العدل والإحسان ، فقيل : العدل : شهادة أن لا إله إلا الله ، والإحسان : أداء الفرائض . وقيل : العدل : الفرض ، والإحسان : النافلة .

وقيل : العدل : استواء العلانية والسريرة ، والإحسان : أن تكون السريرة أفضل من العلانية ، وقيل : العدل : التوحيد ، والإحسان : التفضل ، وقيل : العدل : خلع الأنداد ، والإحسان : أن تعبد الله كأنك تراه .

وقيل : العدل : التوحيد ، والإحسان : الإخلاص ، وقيل : العدل في الأفعال ، والإحسان في الأقوال ، فلا يفعل إلا ما هو عدل ، ولا يقول إلا ما هو حسن . وقيل غير ذلك مما لا حاجة إلى ذكره ، والعدل : هو المساواة في كل شيء من غير شطط ولا وكس .

والأولى تفسير العدل بالمعنى اللغوي ، وهو التوسط بين طرق الإفراط والتفريط ، فمعنى أمره سبحانه بالعدل : أن تكون عبادة في الدين على حالة متوسطة ، ليست بمائلة إلى جانب الإفراط ، وهو الغلو المذموم في الدين ، ولا إلى جانب التفريط ، وهو الإخلال بشيء مما هو من أمر الدين اعتقادا ، كالتوحيد المتوسط بين التعطيل والتشريك ، والقول بالكسب المتوسط بين محض الجبر والقدر ، وعملا : كالتعبد بأداء الواجبات المتوسط بين البطالة والترهب ، وخلقا : كالجود المتوسط بين البخل والتبذير .

وأما الإحسان ، فمعناه اللغوي يرشد إلى أنه التفضل بما لم يجب كصدقة التطوع ، ومن الإحسان فعل ما يثاب عليه العبد مما لم يوجبه الله عليه في العبادات وغيرها ، ولم يذكر متعلقات العدل والإحسان والبغي ، ليعم جميع ما يعدل فيه ويحسن به وإليه وينبغي فيه ، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه فسر الإحسان : بأن يعبد الله العبد حتى كأنه يراه ، فقال في حديث ابن عمر في الصحيحين : ( والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) ( 1 ) {[1059]} وهذا هو المعنى بالإحسان شرعا .

{ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى } ، ما تدعو إليه حاجتهم ، وفي الآية إرشاد إلى صلة الأقارب والأرحام ، وترغيب في التصدق علهم ، وهو من باب عطف الخاص على العام ، إن كان إعطاء الأقارب قد دخل تحت العدل والإحسان ، وقيل : من باب عطف المندوب على الواجب ، ومثل هذه الآية قوله : { وآت ذا القربى حقه } ، وإنما خص ذوي القربى ؛ لأن حقهم آكد ، فإن الرحم قد اشتق الله اسمها من اسمه الشريف ، وجعل صلتها من صلته ، وقطيعتها من قطيعته ، فيستحب أن يصلهم من فضل ما رزقه الله ، فإن لم يكن له فضل فدعاء حسن وتودد .

{ وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء } ، هي الخصلة المتزايدة في القبح من قول أو فعل ، وقيل : هي الزنا ، وقيل : البخل . { وَالْمُنكَرِ } ، وهو ما أنكره الشرع بالنهي عنه ، وهو يعم جميع المعاصي على اختلاف أنواعها ، وقيل : هو الشرك . { وَالْبَغْيِ } ، قيل : هو الكبر ، وقيل : هو الظلم ، وقيل : الحقد ، وقيل : التعدي ، وحقيقته تجاوز الحد ، فيشمل هذه المذكورة ، ويندرج بجميع أقسامه تحت المنكر ، وإنما خص بالذكر اهتماما به ؛ لشدة ضرره ووبال عاقبته ، وهو من الذنوب التي ترجع على فاعلها ، لقوله سبحانه : { إنما بغيكم على أنفسكم } ، وهذه الآية من الآيات الدالة على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

وعن عبد الملك بن عمير ، أن هذه الآية لما بلغت أكثم بن صيفي حكيم العرب ، قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق ، وينهى عن ملائمتها ، ثم قال لقوم :ه كونوا في هذه الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا ، وكونوا فيه أولا ولا تكونوا فيه آخرا .

وعن ابن عباس قال : أعظم آية في كتاب الله : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } ، وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر التي في النحل : { إن الله يأمر بالعدل والإحسان } ، وأكثر آي في كتاب الله تفويضا : { ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب } ، وأشد آية في كتاب الله رجاء : { يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله } الآية .

وعن عكرمة ، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية ، فقال له : يا ابن أخي أعد علي ، فأعادها عليه ، فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر ، وعن الحسن أنه قرأ هذه الآية إلى آخرها ؛ ثم قال : إن الله عز وجل جمع لكم الخير كله والشر كله في آية واحدة ، فو الله ما ترك العدل والإحسان من طاعة الله شيئا إلا جمعه وأمر به ، ولا ترك الفحشاء والمنكر والبغي من معصية الله شيئا إلا جمعه وزجر عنه .

وفي المستدرك عن ابن مسعود : وهذه أجمع آية في القرآن للخير والشر ، قال البيضاوي : وبسببها أسلم عثمان بن مظعون ، ولو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنه تبيان لكل شيء ، وهدى ورحمة ، ولعل إيرادها عقب قوله : { ونزلنا عليك الكتاب } للتنبيه عليه .

ثم ختم سبحانه هذه الآية بقوله : { يَعِظُكُمْ } ، بما ذكره في هذه الآية ، مما أمركم به ونهاكم عنه . { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، أي : إرادة أن تتذكروا ما ينبغي تذكره فتتعظوا بما وعظكم الله به ، فإنه كاف في باب الوعظ والتذكير .


[1059]:مسلم / 8