ولما استقصى سبحانه وتعالى في شرح الوعد والوعيد ، والرغبة والترهيب ، أتبعه بقوله : { إنّ الله } ، أي : الملك المستجمع لصفات الكمال . { يأمر بالعدل } ، قال ابن عباس : في بعض الروايات : العدل : شهادة أن لا إله إلا الله . { والإحسان } : أداء الفرائض ، وقال في رواية أخرى : العدل : خلع الأنداد ، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، وأن تحبّ للناس ما تحبّ لنفسك ، فإن كان مؤمناً أحببت له أن يزداد إيماناً ، وإن كان كافراً أحببت له أن يكون أخاك في الإسلام ، وقال في رواية ثالثة : العدل : هو التوحيد ، والإحسان هو الإخلاص فيه . وقال آخرون : يعني بالعدل في الأفعال ، والإحسان في الأقوال ، فلا تفعل إلا ما هو عدل ، ولا تقل إلا ما هو إحسان ، وأصل العدل المساواة في كل شيء من غير زيادة ولا نقصان ، فالعدل هو المساواة في المكافأة إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، والإحسان أن تقابل الخير بأكثر منه ، والشرّ بأن تعفو عنه . وعن الشعبي ، قال عيسى بن مريم : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك . وقيل : العدل : الإنصاف ، والإنصاف : أعدل من الاعتراف للمنعم بإنعامه ، والإحسان : أن تحسن إلى من أساء إليك . وعن محمد بن كعب القرظي قال : دعاني عمر بن عبد العزيز فقال : صف لي العدل ؟ فقلت : بخ سألت عن أمر جسيم ، كن لصغير الناس أبا ، ولكبيرهم ابناً ، وللمثل منهم أخاً ، وللنساء كذلك . { وإيتاء } ، أي : ومن الإحسان إيتاء { ذي القربى } ، أي : القرابة القربى والبعدى ، فيندب أن تصلهم من فضل ما رزقك الله ، فإن لم يكن لك فضل فدعاء حسن وتودّد . وروى أبو سلمة عن أبيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنّ أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم ، إنّ أهل هذا البيت ليكونون تجاراً ، فتنمى أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم " .
ولما أمر تعالى بالمكارم نهى عن المساوئ بقوله تعالى : { وينهى عن الفحشاء } ، قال ابن عباس : ، أي : الزنا ، فإنه أقبح أحوال الإنسان وأشنعها . وقال غيره : الفحشاء : ما قبح من القول والفعل ، فيدخل فيه الزنا وغيره ، من جميع الأقوال والأفعال المذمومة جميعها . { والمنكر } ، قال ابن عباس : يعني الشرك والكفر . وقال غيره : المنكر : ما لا يعرف في شريعة أو سنة . { والبغي } : هو الاستيلاء على الناس والتجبر عليهم ، قيل : إنّ أعجل المعاصي عقاباً البغي ، ولو أنّ جبلين بغى أحدهما على الآخر ، لدك الباغي . ونص تعالى على البغي مع دخوله في المنكر اهتماماً به ، كما بدأ بالفحشاء لذلك . وقال ابن قتيبة في هذه الآية : العدل : استواء السرّ والعلانية ، والإحسان : أن تكون سريرته خيراً من علانيته ، والفحشاء والمنكر والبغي : أن تكون علانيته أحسن من سريرته . وقال بعض العلماء : إنّ الله تعالى ذكر من المأمورات ثلاثة أشياء ، ومن المنهيات ثلاثة أشياء ، فذكر العدل : وهو الإنصاف والمساواة في الأقوال والأفعال ، وذكر في مقابلته الفحشاء : وهو ما قبح من الأقوال والأفعال ، وذكر الإحسان : وهو أن يعفو عمن ظلمه ، ويحسن إلى من أساء إليه ، وذكر في مقابلته المنكر : وهو أن ينكر إحسان من أحسن إليه ، وذكر إيتاء ذي القربى ، والمراد به : صلة القرابة والتودّد إليهم والشفقة عليهم ، وذكر في مقابلته البغي : وهو أن يتكبر عليهم ، أو يظلمهم حقوقهم .
ولما كان هذا المذكور من أبلغ المواعظ ، نبه عليه بقوله تعالى : { يعظكم } ، أي : يأمركم بما يرقق قلوبكم من مصاحبة الثلاثة الأول ، وهي العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، ومجانبة الثلاثة الأخيرة ، وهي الفحشاء والمنكر والبغي . { لعلكم تذكرون } ، أي : لكي تتعظوا فتعملوا بما فيه رضا الله تعالى . وقرأ حفص وحمزة والكسائي : بتخفيف الذال ، والباقون : بالتشديد ، وفيه إدغام التاء في الأصل في الذال . وروى البيهقي في «شعب الإيمان » ، عن ابن مسعود أنه قال : أعظم آية في كتاب الله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحيّ القيوم } [ البقرة ، 255 ] ، وأجمع آية في كتاب الله للخير والشر ، الآية التي في النحل : { إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان } ، وأكثر آية في كتاب الله تفويضاً : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً 2 ويرزقه من حيث لا يحتسب } [ الطلاق : 2 ، 3 ]
وأشدّ آية في كتاب الله تعالى : { قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم } [ الزمر ، 53 ] الآية . وقال أهل المعاني : لما قال الله تعالى في الآية الأولى : { ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء } ، بيّن في هذه الآية المأمور به والمنهي عنه على سبيل الإجمال ، فما من شيء يحتاج إليه الناس في أمر دينهم مما يجب أن يؤتى به أو يترك ، إلا وقد اشتملت عليه هذه الآية .
وعن قتادة : ليس من خلق حسن كان من أهل الجاهلية يعملون به ويعظونه ويخشونه إلا أمر الله تعالى به ، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه . وعن عكرمة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة : { إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان } إلى آخر الآية . فقال له : يا ابن أخي أعد عليّ ، فأعادها عليه ؟ فقال الوليد : والله إنّ له لحلاوة ، وإنّ عليه لطلاوة ، وإنّ أعلاه لمثمر ، وإنّ أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.