قوله تعالى : { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } نصب على الإغراء ، أي : فاضربوا رقابهم يعني أعناقهم . { حتى إذا أثخنتموهم } بالغتم في القتل وقهرتموهم ، { فشدوا الوثاق } يعني في الأسر حتى لا يفلتوا منكم ، والأسر يكون بعد المبالغة في القتل ، كما قال : { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } ( الأنفال-67 ) ، { فإما مناً بعد وإما فداءً } يعني : بعد أن تأسروهم فإما أن تمنوا عليهم مناً بإطلاقهم من غير عوض ، وإما أن تفادوهم فداء . واختلف العلماء في حكم هذه الآية ، فقال قوم : هي منسوخة بقوله : { فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم }( الأنفال-57 ) ، وبقوله : { اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } ( التوبة-5 ) وإلى هذا القول ذهب قتادة والضحاك والسدي وابن جريج ، وهو قول الأوزاعي وأصحاب الرأي ، قالوا : لا يجوز المن على من وقع في الأسر من الكفار ولا الفداء . وذهب آخرون إلى أن الآية محكمة ، والإمام بالخيار في الرجال العاقلين من الكفار إذا وقعوا في الأسر بين أن يقتلهم أو يسترقهم أو يمن عليهم ، فيطلقهم بلا عوض أو يفاديهم بالمال ، أو بأسارى المسلمين ، وإليه ذهب ابن عمر ، وبه قال الحسن ، وعطاء ، وأكثر الصحابة والعلماء ، وهو قول الثوري والشافعي ، وأحمد وإسحاق . قال ابن عباس : لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم أنزل الله عز وجل في الأسارى : { فإما مناً بعد وإما فداء } وهذا هو الأصح والاختيار ، لأنه عمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، حدثنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا سعيد بن أبي سعيد سمع أبا هريرة قال : " بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد ، فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له : ثمامة بن أثال سيد أهل اليمامة ، فربطوه بسارية من سواري المسجد ، فخرج إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ماذا عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي يا محمد خير إن تقتل تقتل ذا دم ، وإن تنعم تنعم على شاكر ، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : ما عندي إلا ما قلت لك : إن تنعم تنعم على شاكر ، فتركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كان بعد الغد ، فقال له : ما عندك يا ثمامة ؟ فقال : عندي ما قلت لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة ، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ، ثم دخل المسجد ، فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك ، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه كلها إلي ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك ، فأصبح دينك أحب الدين كله إلي ، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إلي ، وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ، فماذا ترى ؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر ، فلما قدم مكة قال له قائل : أصبوت ؟ فقال : لا ، ولكن أسلمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنبأنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، حدثنا أبو العباس الأصم ، أنبأنا الربيع ، أنبأنا الشافعي ، أنبأنا عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، عن أيوب ، عن أبي المهلب ، عن عمران بن حصين قال : " أسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني عقيل فأوثقوه ، وكانت ثقيف قد أسرت رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ففداه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرتهما ثقيف " . قوله تعالى : { حتى تضع الحرب أوزارها } أي : أثقالها وأحمالها ، يعني حتى يضع أهل الحرب السلاح ، فيمسكوا عن الحرب . وأصل الوزر : ما يحمله الإنسان ، فسمى الأسلحة أوزاراً لأنها تحمل . وقيل : الحرب هم المحاربون ، كالشرب والركب . وقيل : الأوزار الآثام ، ومعناه حتى يضع المحاربون آثامها ، بأن يتوبوا من كفرهم فيؤمنوا بالله ورسوله . وقيل : حتى تضع حربكم وقتالكم أوزار المشركين وقبائح أعمالهم بأن يسلموا ، ومعنى الآية : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يدخل أهل الملل كلها في الإسلام ، ويكون الدين كله لله فلا يكون بعده جهاد ولا قتال ، وذلك عند نزول عيسى بن مريم عليهما السلام ، وجاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال " . وقال الكلبي : حتى يسلموا أو يسالموا . وقال الفراء : حتى لا يبقى إلا مسلم أو مسالم . { ذلك } الذي ذكرت وبينت من حكم الكفار ، { ولو يشاء الله لانتصر منهم } فأهلكهم كفاكم أمرهم بغير قتال ، { ولكن } أمركم بالقتال ، { ليبلو بعضكم ببعض } فيصير من قتل من المؤمنين إلى الثواب ومن قتل من الكفار إلى العذاب ، { والذين قتلوا في سبيل الله } قرأ أهل البصرة وحفص : ( قتلوا ) بضم القاف وكسر التاء خفيف ، يعني الشهداء ، وقرأ الآخرون : ( قاتلوا ) بالألف من المقاتلة ، وهم المجاهدون ، { فلن يضل أعمالهم } قال قتادة : ذكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ، وقد فشت في المسلمين الجراحات والقتل .
{ 4-6 } { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ }
يقول تعالى -مرشدا عباده إلى ما فيه صلاحهم ، ونصرهم على أعدائهم- : { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا } في الحرب والقتال ، فاصدقوهم القتال ، واضربوا منهم الأعناق ، حَتَّى تثخنوهم وتكسروا شوكتهم وتبطلوا شرتهم ، فإذا فعلتم ذلك ، ورأيتم الأسر أولى وأصلح ، { فَشُدُّوا الْوَثَاقَ } أي : الرباط ، وهذا احتياط لأسرهم لئلا يهربوا ، فإذا شد منهم الوثاق اطمأن المسلمون من هربهم ومن شرهم ، فإذا كانوا تحت أسركم ، فأنتم بالخيار بين المن عليهم ، وإطلاقهم بلا مال ولا فداء ، وإما أن تفدوهم بأن لا تطلقوهم حتى يشتروا أنفسهم ، أو يشتريهم أصحابهم بمال ، أو بأسير مسلم عندهم .
وهذا الأمر مستمر { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : حتى لا يبقى حرب ، وتبقون في المسألة والمهادنة ، فإن لكل مقام مقالا ، ولكل حال حكما ، فالحال المتقدمة ، إنما هي إذا كان قتال وحرب .
فإذا كان في بعض الأوقات ، لا حرب فيه لسبب من الأسباب ، فلا قتل ولا أسر .
{ ذَلِكَ } الحكم المذكور في ابتلاء المؤمنين بالكافرين ، ومداولة الأيام بينهم ، وانتصار بعضهم على بعض { وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ } فإنه تعالى على كل شيء قدير ، وقادر على أن لا ينتصر الكفار في موضع واحد أبدا ، حتى يبيد المسلمون خضراءهم .
{ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } ليقوم سوق الجهاد ، ويتبين بذلك أحوال العباد ، الصادق من الكاذب ، وليؤمن من آمن إيمانا صحيحا عن بصيرة ، لا إيمانا مبنيا على متابعة أهل الغلبة ، فإنه إيمان ضعيف جدا ، لا يكاد يستمر لصاحبه عند المحن والبلايا .
{ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ } لهم ثواب جزيل ، وأجر جميل ، وهم الذين قاتلوا من أمروا بقتالهم ، لتكون كلمة الله هي العليا .
فهؤلاء لن يضل الله أعمالهم ، أي : لن يحبطها ويبطلها ، بل يتقبلها وينميها لهم ، ويظهر من أعمالهم نتائجها ، في الدنيا والآخرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرّقَابِ حَتّىَ إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدّواْ الْوَثَاقَ فَإِمّا مَنّا بَعْدُ وَإِمّا فِدَآءً حَتّىَ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلََكِن لّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَن يُضِلّ أَعْمَالَهُمْ } .
يقول تعالى ذكره لفريق الإيمان به وبرسوله : فَإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا بالله ورسوله من أهل الحرب ، فاضربوا رقابهم .
وقوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ يقول : حتى إذا غلبتموهم وقهرتم من لم تضربوا رقبته منهم ، فصاروا في أيديكم أسرى فَشُدّوا الوَثاقَ يقول : فشدّوهم في الوثاق كيلا يقتلوكم ، فيهربوا منكم .
وقوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وإمّا فِدَاءً يقول : فإذا أسرتموهم بعد الإثخان ، فإما أن تمنوا عليهم بعد ذلك بإطلاقكم إياهم من الأسر ، وتحرروهم بغير عوض ولا فدية ، وإما أن يفادوكم فداء بأن يعطوكم من أنفسهم عوضا حتى تطلقوهم ، وتخلوا لهم السبيل .
واختلف أهل العلم في قوله : حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً فقال بعضهم : هو منسوخ نسخه قوله : فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُم وقوله فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ في الحَرْب فَشَرّدْ بِهِمْ مِنْ خَلْفِهُمْ . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج أنه كان يقول ، في قوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله : فاقْتُلوا المشْرِكِينَ حَيْثُ وَجدْتُموهُمْ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن السديّ فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال : نسخها فاقْتُلُوا المُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً نسخها قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فإذَا لَقِيُتمُ الّذينَ كَفَرُوا إلى قوله : وَإمّا فِدَاءً كان المسلمون إذا لقوا المشركين قاتلوهم ، فإذا أسروا منهم أسيرا ، فليس لهم إلا أن يُفادوه ، أو يمنوا عليه ، ثم يرسلوه ، فنسخ ذلك بعد قوله : فإمّا تَثْقَفَنّهُمْ فِي الحَرْبِ فَشَرّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ : أي عظ بهم من سواهم من الناس لعلهم يذّكرون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن عبد الكريم الجزري ، قال : كتب إلى أبي بكر رضي الله عنه في أسير أُسر ، فذكر أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا ، فقال أبو بكر : اقتلوه ، لقتلُ رجل من المشركين ، أحبّ إليّ من كذا وكذا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : فإذَا لَقِيُتمُ الّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرّقابِ . . . إلى آخر الآية ، قال : الفداء منسوخ ، نسختها : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ . . . إلى كُلّ مَرْصَدٍ قال : فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا حرمة بعد براءة ، وانسلاخ الأشهر الحَرم .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً هذا منسوخ ، نسخه قوله : فإذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فلم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة بعد براءة .
وقال آخرون : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وقالوا : لا يجوز قتل الأسير ، وإنما يجوز المنّ عليه والفداء . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو عتاب سهل بن حماد ، قال : حدثنا خالد بن جعفر ، عن الحسن ، قال : أتى الحجاج بأسارى ، فدفع إلى ابن عمر رجلاً يقتله ، فقال ابن عمر : ليس بهذا أُمرنا ، قال الله عزّ وجلّ حتى إذَا أثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدّوا الوَثاقَ ، فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً قال : البكا بين يديه فقال الحسن : لو كان هذا وأصحابه لابتدروا إليهم .
حدثنا ابن حميد وابن عيسى الدامغانيّ ، قالا : حدثنا ابن المبارك ، عن ابن جُرَيج ، عن عطاء أنه كان يكره قتل المشرك صبرا ، قال : ويتلو هذه الآية فإمّا مَنّا بَعْدُ وَإمّا فِداءً .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن الحسن ، قال : لا تقتل الأُسارى إلا في الحرب يهيب بهم العدوّ .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، قال : كان عمر بن عبد العزيز يفديهم الرجل بالرجل ، وكان الحسن يكره أن يفادي بالمال .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن رجل من أهل الشأم ممن كان يحرس عمر بن عبد العزيز ، وهو من بني أسد ، قال : ما رأيت عمر رحمه الله قتل أسيرا إلا واحدا من الترك كان جيء بأسارى من الترك ، فأمر بهم أن يُسترقوا ، فقال رجل ممن جاء بهم : يا أمير المؤمنين ، لو كنت رأيت هذا لأحدهم وهو يقتل المسلمين لكثر بكاؤك عليهم ، فقال عمر : فدونك فاقتله ، فقام إليه فقتله .
والصواب من القول عندنا في ذلك أن هذه الآية محكمة غير منسوخة ، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بيّنا في غير موضع في كتابنا إنه ما لم يجز اجتماع حكميهما في حال واحدة ، أو ما قامت الحجة بأن أحدهما ناسخ الاَخر ، وغير مستنكر أن يكون جعل الخيار في المنّ والفداء والقتل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمة ، وإن لم يكن القتل مذكورا في هذه الآية ، لأنه قد أذن بقتلهم في آية أخرى ، وذلك قوله : فَاقْتُلُوا المُشْركِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ . . . . الآية ، بل ذلك كذلك ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك كان يفعل فيمن صار أسيرا في يده من أهل الحرب ، فيقتل بعضا ، ويفادي ببعض ، ويمنّ على بعض ، مثل يوم بدر قتل عقبة بن أبي مُعَيْط وقد أُتي به أسيرا ، وقتل بني قُرَيظة ، وقد نزلوا على حكم سعد ، وصاروا في يده سلِما ، وهو على فدائهم ، والمنّ عليهم قادر ، وفادى بجماعة أسارى المشركين الذين أُسروا ببدر ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفيّ ، وهو أسير في يده ، ولم يزل ذلك ثابتا من سيره في أهل الحرب من لدن أذن الله له بحربهم ، إلى أن قبضه إليه صلى الله عليه وسلم دائما ذلك فيهم ، وإنما ذكر جلّ ثناؤه في هذه الآية المنّ والفداء في الأسارى ، فخصّ ذكرهما فيها ، لأن الأمر بقتلهما والإذن منه بذلك قد كان تقدم في سائر آي تنزيله مكرّرا ، فأعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بما ذكر في هذه الآية من المنّ والفداء ماله فيهم مع القتل .
وقوله : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها يقول تعالى ذكره : فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا رقابهم ، وافعلوا بأسراهم ما بيّنت لكم ، حتى تضع الحرب آثامها وأثقال أهلها ، المشركين بالله بأن يتوبوا إلى الله من شركهم ، فيؤمنوا به وبرسوله ، ويطيعوه في أمره ونهيه ، فذلك وضع الحرب أوزارها ، وقيل : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها والمعنى : حتى تلقي الحرب أوزار أهلها . وقيل : معنى ذلك : حتى يضع المحارب أوزاره . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : حتى تَضَعَ الحَرْبُ أوْزَارَها قال : حتى يخرج عيسى ابن مريم ، فيسلم كلّ يهوديّ ونصرانيّ وصاحب ملة ، وتأمن الشاة من الذئب ، ولا تقرض فأرة جِرابا ، وتذهب العداوة من الأشياء كلها ، ذلك ظهور الإسلام على الدين كله ، وينعم الرجل المسلم حتى تقطر رجله دما إذا وضعها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها حتى لا يكون شرك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال : حتى لا يكون شرك .
ذكر من قال : عُنِي بالحرب في هذا الموضع : المحاربون .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور عن معمر ، عن قتادة حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها قال الحرب : من كان يقاتلهم سماهم حربا .
وقوله : ذلكَ وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ يقول تعالى ذكره : هذا الذي أمرتكم به أيها المؤمنون من قتل المشركين إذا لقيتموهم في حرب ، وشدّهم وثاقا بعد قهرهم ، وأسرهم ، والمنّ والفداء حتى تَضَعَ الْحَرْبُ أوْزَارَها هو الحقّ الذي ألزمكم ربكم ولو يشاء ربكم ، ويريد لانتصر من هؤلاء المشركين الذين بين هذا الحكم فيهم بعقوبة منه لهم عاجلة ، وكفاكم ذلك كله ، ولكنه تعالى ذكره كره الانتصار منهم ، وعقوبتهم عاجلاً إلا بأيديكم أيها المؤمنون لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ يقول : ليختبركم بهم ، فيعلم المجاهدين منكم والصابرين ، ويبلوهم بكم ، فيعاقب بأيديكم من شاء منهم ، ويتعظ من شاء منهم بمن أهلك بأيديكم من شاء منهم حتى ينيب إلى الحقّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلَوْ يَشاءُ اللّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ إي والله بجنوده الكثيرة كلّ خلقه له جند ، ولو سلط أضعف خلقه لكان جندا .
وقوله : «وَالّذِينَ قاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ » اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الحجاز والكوفة «وَالّذِينَ قاتَلُوا » بمعنى : حاربوا المشركين ، وجاهدوهم ، بالألف وكان الحسن البصري فيما ذُكر عنه يقرأه قُتّلُوا بضم القاف وتشديد التاء ، بمعنى : أنه قتلهم المشركون بعضهم بعد بعض ، غير أنه لم يسمّ الفاعلون . وذُكر عن الجحدريّ عاصم أنه كان يقرأه «وَالّذِينَ قَتَلُوا » بفتح القاف وتخفيف التاء ، بمعنى : والذين قتلوا المشركون بالله . وكان أبو عمرو يقرأه قُتِلُوا بضم القاف وتخفيف التاء بمعنى : والذين قتلهم المشركون ، ثم أسقط الفاعلين ، فجعلهم لم يسمّ فاعل ذلك بهم .
وأولى القراءات بالصواب قراءة من قرأه «وَالّذِينَ قاتَلُوا » لاتفاق الحجة من القرّاء ، وإن كان لجميعها وجوه مفهومة .
وإذ كان ذلك أولى القراءات عندنا بالصواب ، فتأويل الكلام : والذين قاتلوا منكم أيها المؤمنون أعداء الله من الكفار في دين الله ، وفي نصرة ما بعث به رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ، فجاهدوهم في ذلك فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ فلن يجعل الله أعمالهم التي عملوها في الدنيا ضلالاً عليهم كما أضلّ أعمال الكافرين . وذُكر أن هذه الآية عُنِي بها أهل أُحد . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ ذُكر لنا أن هذه الآية أُنزلت يوم أُحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشّعْب ، وقد فَشَت فيهم الجراحات والقتل ، وقد نادى المشركون يومئذٍ : أُعْلُ هُبَلْ ، فنادى المسلمون : الله أعلى وأجلّ ، فنادى المشركون : يوم بيوم ، إن الحرب سجال ، إن لنا عُزّى ، ولا عُزّى لكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللّهُ مَوْلانا وَلا مَوْلَى لَكْمُ . إنّ القَتْلَى مُخْتَلِفَةٌ ، أمّا قَتْلانا فأَحْياءٌ يُرْزَقُونَ ، وأمّا قَتْلاكُمْ فَفِي النّارِ يُعَذّبُونَ » .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة وَالّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَلَنْ يُضِلّ أعمالَهُمْ قال : الذين قُتلوا يوم أُحد .
{ فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً حتى تَضَعَ الحرب أوزارها } .
لا شك أن هذه الآية نزلت بعد وقعة بدر لأن فيها قوله : { حتى إذا أثخنتموهم فشُدُّوا الوثاق } . وهو الحكم الذي نزل فيه العقاب على ما وقع يوم بدر من فداء الأسرى التي في قوله تعالى : { ما كان لنبيء أن يكون له أسرى حتى يُثْخِن في الأرض } [ الأنفال : 67 ] الآية إذ لم يكن حكم ذلك مقرراً يومئذٍ ، وتقدم في سورة الأنفال .
والفاء لتفريع هذا الكلام على ما قبله من إثارة نفوس المسلمين بتشنيع حال المشركين وظهور خيبة أعمالهم وتنويه حال المسلمين وتوفيق آرائهم .
والمقصود : تهوين شأنهم في قلوب المسلمين وإغراؤهم بقطع دابرهم ليكون الدين كله لله ، لأن ذلك أعظم من منافع فداء أسراهم بالمال ليعبد المسلمون ربهم آمنين . وذلك ناظر إلى آية سورة الأنفال وإلى ما يفيده التّعليل من قوله : { حتى تضع الحرب أوزارها } .
و ( إذ ) ظرف للمستقبل مضمنة معنى الشرط ، وذلك غالب استعمالها وجواب الشرط قوله : { فضَرْب الرقاب } .
واللقاء في قوله : { فإذا لقِيتم الذين كفروا } : المقابلة ، وهو إطلاق شهير للقاء ، يقال : يوم اللقاء ، فلا يفهم منه إلا لقاء الحرب ، ويقال : إن لقيت فلاناً لقيت منه أسداً ، وقال النابغة :
تجنب بني حُنّ فإن لقاءهم *** كريهٌ وإن لم تلْق إلا بصائر
فليس المعنى : إذا لقيتم الكافرين في الطريق ، أو نحو ذلك وبذلك لا يحتاج لذكر مخصص لفعل { لقيتم } . والمعنى : فإذا قاتلتم المشركين في المستقبل فأمعنوا في قتلهم حتى إذا رأيتم أن قد خضّدتم شوكتهم ، فآسروا منهم أسرى .
وضرب الرقاب : كناية مشهورة يعبر بها عن القتل سواء كان بالضرب أم بالطعن في القلوب بالرماح أو بالرمي بالسهام ، وأوثرت على كلمة القتل لأن في استعمال الكناية بلاغة ولأن في خصوص هذا اللفظ غلظة وشدة تناسبان مقام التحريض .
والضرب هنا بمعنى : القطع بالسيف ، وهو أحد أحوال القتال عندهم لأنّه أدل على شجاعة المحارب لكونه مواجِهَ عدوه وجهاً لوجه . والمعنى : فاقتلوهم سواء كان القتَل بضرب السيف ، أو طعن الرّماح ، أو رشق النبال ، لأن الغاية من ذلك هو الإثخان .
والذين كفروا : هم المشركون لأنّ اصطلاح القرآن من تصاريف مادة الكفر ، نحو : الكافرين ، والكفار ، والذين كفروا ، هو الشرك . و { حتى } ابتدائية . ومعنى الغاية معها يؤول إلى معنى التفريع .
والإثخان : الغلبة لأنها تترك المغلوب كالشيء المثخن وهو الثقيل الصُلب الذي لا يخف للحركة ويوصف به المائع الذي جمد أو قارب الجمود بحيث لا يسيل بسهولة ، ووصف به الثوب والحبل إذا كثرت طاقاتهما بحيث يعسر تفككها .
وغلب إطلاقه على التوهين بالقتل ، وكلا المعنيين في هذه الآية ، فإذا فسر بالغلبة كان المعنى حتى إذا غلبتم منهم من وقعوا في قبضتكم أسرى فشدوا وثاقهم وعليه فجواز المنّ والفداءِ غيرُ مقيّد .
وإذا فسّر الإثخان بكثرة القتل فيهم كان المعنى حتى إذا لم يبق من الجيش إلا القليل فأسروا حينئذٍ ، أي أبقوا الأسرى ، وكلا الاحتمالين لا يخلو من تأويل في نظم الآية إلا أن الاحتمال الأول أظهر . وتقدم بيانه في سورة الأنفال في قوله : { حتى يُثخن في الأرض } .
وانتصب { ضرب الرقاب } على المفعولية المطلقة على أنه بدل من فِعله ثم أضيف إلى مفعوله ، والتقدير : فاضربوا الرقاب ضرباً ، فلما حذف الفعل اختصاراً قدم المفعول المطلق على المفعول به وناب مناب الفعل في العمل في ذلك المفعول وأضيف إلى المفعول إضافة الأسماء إلى الأسماء لأن المصدر راجح في الاسمية . والشَدّ : قوة الربط ، وقوة الإمساك .
والوثاق بفتح الواو : الشيء الذي يوثق به ، ويجوز فيه كسر الواو ولم يقرأ به . وهو هنا كناية عن الأسر لأن الأسر يستلزم الوضع في القيد يشد به الأسير . والمعنى : فاقتلوهم ، فإن أثخنتم منهم فأسروا منهم .
وتعريف { الرقاب } و { الوثاق } يجوز أن يكون للعهد الذهني ، ويجوز أن يكون عوضاً عن المضاف إليه ، أي فضربَ رقابِهم وشُدُّوا وثاقهم .
والمنُّ : الإنعام . والمراد به : إطلاق الأسير واسترقاقه فإن الاسترقاق منٌّ عليه إذ لم يُقتل ، والفداء : بكسر الفاء ممدوداً تخليص الأسير من الأسر بعوض من مال أو مبادلة بأسرى من المسلمين في يدي العدّو . وقدم المن على الفداء ترجيحاً له لأنه أعون على امتلاك ضمير الممنون عليه ليستعمل بذلك بغضه .
وانتصب { منّا } و { فداء } على المفعولية المطلقة بدلاً من عامليهما ، والتقدير : إما تمّنون وإما تُفدون .
وقوله { بعْدُ } أي بعد الإثخان وهذا تقييد لإباحة المنّ والفداء . وذلك موكول إلى نظر أمير الجيش بحسب ما يراه من المصلحة في أحد الأمرين كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد غزوة هوازن . وهذا هو ظاهر الآية والأصل عدم النسخ ، وهذا رأي جمهور أيمة الفقه وأهل النظر . فقوله : { الذين كفروا } عام في كل كافر ، أي مشرك يشمل الرجال وهم المعروف حَربهم ويشمل من حارَب معهم من النساء والصبيان والرهبان والأحبار . وهذه الآية لتحديد أحوال القتال وما بعده ، لا لبيان وقت القتال ولا لبيان من هم الكافرون ، لأن أوقات القتال مبينة في سورة براءة . ومعرفة الكافرين معلومة من اصطلاح القرآن بقوله : { فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] .
ثم يظهر أن هذه الآية نزلت بعد آية { ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض } في سورة الأنفال ( 67 ) . واختلف العلماء في حكم هذه الآية في القتل والمن والفداء والذي ذهب إليه مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وهو أحدُ قولين عن أبي حنيفة رواه الطحاوي ، ومِن السلف عبدُ الله بن عمر ، وعطاءُ ، وسعيدُ بن جبير : أن هذه الآية غير منسوخة ، وأنها تقتضي التخيير في أسرى المشركين بين القتل أو المن أو الفداء ، وأمير الجيش مخيّر في ذلك .
ويشبه أن يكون أصحاب هذا القول يرون أن مورد الآية الإذنُ في المنّ أو الفداء فهي ناسخة أو مُنهية لحكم قوله تعالى : ما كانَ لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض إلى قوله : { لمسَّكُم فيما أخذتم عذاب عظيم } في سورة الأنفال ( 67 ، 68 ) .
وهذا أولى من جعلها ناسخة لقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } لما علمت من أن مورد تلك هو تعيين أوقات المتاركة ، وأوقات المحاربة ، فلذلك لم يقل هؤلاء بحَظْر قتل الأسير في حين أن التخيير هنا وارد بين المنّ والفداء ، ولم يذكر معهما القتل . وقد ثبت في « الصحيح » ثبوتاً مستفيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل من أسرى بدر النضر بنَ الحارث وذلك قبل نزول هذه الآية ، وعقبة بن أبي معيط وقتل أسرى قريظة الذين نزلوا على حكم سعد بن معاذ ، وقتل هلال بن خطل ومقيس بن حبابة يوم فتح مكة ، وقتل بعد أحد أبا عزّة الجمعي الشاعر وذلك كله لا يعارض هذه الآية لأنها جعلت التخيير لولي الأمر . وأيضاً لم يذكر في هذه الآية جواز الاسترقاق ، وهو الأصل في الأسرى ، وهو يدخل في المنّ إذا اعتبر المن شاملاً لترك القتل ، ولأن مقابلة المن بالفداء تقتضي أن الاسترقاق مشروع . وقد روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك : أنَّ المنّ من العتق .
وقال الحسن وعطاء : التخيير بين المنّ والفداء فقط دون قتل الأسير ، فقتل الأسير يكون محظوراً . وظاهر هذه الآية يعضد ما ذهب إليه الحسن وعطاء . وذهب فريق من أهل العلم إلى أن هذه الآية منسوخة وأنه لا يجوز في الأسير المشرك إلا القتل بقوله تعالى : { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم } [ التوبة : 5 ] . وهذا قول مجاهد وقتادة والضحاك والسدّي وابن جريج ، ورواه العَوفي عن ابن عباس وهو المشهور عن أبي حنيفة ، وقال أبو يوسف ومحمد من أصحاب أبي حنيفة : لا بأس أن يُفادى أسرى المشركين الذين لم يسلموا بأسرى المسلمين الذين بيد المشركين . وروى الجصّاص أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسيرين من المسلمين بأسير من المشركين في ثقيف .
والغاية المستفادة من { حتى } في قوله : { حتى تضع الحرب أوزارها } للتعليل لا للتقييد ، أي لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، أي ليكفّ المشركون عنها فتأمنوا من الحرب عليكم وليست غاية لحكم القتال . والمعنى يستمر هذا الحكم بهذا ليهِن العدوَّ فيتركوا حربكم ، فلا مفهوم لهذه الغاية ، فالتعليل متصل بقوله : { فضرب الرقاب } وما بينهما اعتراض . والتقدير : فضرب الرقاب ، أي لا تتركوا القتل لأجل أن تضع الحرب أوزارها ، فيكون وارداً مورد التعليم والموعظة ، أي فلا تشتغلوا عند اللقاء لا بقتل الذين كفروا لتضع الحرب أوزارها فإذا غلبتموهم فاشتغلوا بالإبقاء على من تغلبونه بالأسر ليكون المنّ بعد ذلك أو الفداء .
والأوزار : الأثقال ، ووضع الأوزار تمثيل لانتهاء العمل فشبهت حالة انتهاء القتال بحالة وضع الحمّال أو المسافر أثقاله ، وهذا من مبتكرات القرآن . وأخذ منه عبد ربه السُلمى ، أو سُليم الحنفي قوله :
kفألقت عصاها واستقرّ بها النوَى *** كما قرّ عينا بالإياب المسافر
فشبه حالة المنتهي من كلفة بحالة السائر يلقي عصاه التي استصحبها في سيره .
{ ذلك وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ ببعض } .
أعيد اسم الإشارة بعد قوله آنفاً : { ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل } [ محمد : 3 ] للنكتة التي تقدمت هنالك ، وهو خبر لمبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف . وتقدير المحذوف : الأمر ذلك ، والمشار إليه ما تقدم من قوله : { فضرب الرقاب } إلى هنا ، ويفيد اسم الإشارة تقرير الحكم ورسوخه في النفوس .
والجملة من اسم الإشارة والمحذوف معترضة و { لو يشاء الله لانتصر منهم } في موضع الحال من الضمير المرفوع المقدر في المصدر من قوله : { فضَرْبَ الرقاب } ، أي أمرتم بضرب رقابهم ، والحال أن الله لو شاء لاستأصلهم ولم يكلفكم بقتالهم ، ولكن الله ناط المسببات بأسبابها المعتادة وهي أن يبلو بعضكم ببعض .
وتعدية ( انتصر ) بحرف ( من ) مع أن حقه أن يعدّى بحرف ( على ) لتضمينه معنى : انتقم .
والاستدراك راجع إلى ما في معنى المشيئة من احتمال أن يكون الله ترك الانتقام منهم لسبب غير ما بعدَ الاستدراك .
والبَلْوْ حقيقته : الاختبار والتجربة ، وهو هنا مجاز في لازمه وهو ظهور ما أراده الله من رفع درجات المؤمنين ووقع بأسهم في قلوب أعدائهم ومن إهانة الكفار ، وهو أن شأنهم بمرأى ومسمع من الناس .
{ والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم }
هذا من مظاهر بلوى بعضهم ببعض وهو مقابل ما في قوله : { فضرب الرقابِ } إلى قوله : { وإما فداء } ، فإن ذلك من مظاهر إهانة الذين كفروا فذُكر هنا ما هو من رفعة الذين قاتلوا في سبيل الله من المؤمنين بعناية الله بهم .
وجملة { والذين قاتلوا في سبيل الله } الخ عطف على جملة { فإذا لَقِيتُمُ الذين كفروا فضرب الرقاب } الآية فإنه لما أمرهم بقتال المشركين أعقب الأمر بوعد الجزاء على فعله .
وذكر { الذين قاتلوا في سبيل الله } إظهار في مقام الإضمار إذ كان مقتضى الظاهر أن يقال : فلن يُضل الله أعمالكم ، وهكذا بأسلوب الخطاب ، فعدل عن مقتضى الظاهر من الإضمار إلى الإظهار ليكون في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي إفادة تقوّي الخبر ، وليكون ذريعة إلى الإتيان بالموصول للتنويه بصلته ، وللإيماء إلى وجه بناء الخبر على الصلة بأن تلك الصلة هي علة ما ورد بعدها من الخبر .
فجملة { فلن يضل أعمالهم } خبر عن الموصول ، وقرنت بالفاء لإفادة السببية في ترتب ما بعد الفاء على صلة الموصول لأن الموصول كثيراً ما يشرب معنى الشرط فيقرن خبره بالفاء ، وبذلك تكون صيغة الماضي في فعل { قاتلوا } منصرفة إلى الاستقبال لأن ذلك مقتضى الشرط .