التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

ثم أرشد الله - تعالى - : المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند لقائهم لأعدائهم ، وبعد انتصارهم عليهم ، كما بين لهم الحكمة مشروعية القتال . والجزاء الحسن الذى أعده للمجاهدين ، فقال - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين . . . عَرَّفَهَا لَهُمْ } .

والفاء فى قوله - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ } لترتيب ما بعدها من إرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله عند قتل أعدائهم ، على ما قبلها وهو بيان حال الكفار .

فالمراد باللقاء هنا : القتال لا مجرد اللقاء والرؤية . كما أن المراد بالذين كفروا هنا المشركون وكل من كان على شاكلتهم ممن ليس بيننا وبينهم عهد بل بيننا وبينهم حرب وقتال .

وقوله - سبحانه - : { فَضَرْبَ الرقاب } أمر للمؤمنين بما يجب فعله عند لقائهم لأعدائهم . وقوله : { فَضَرْبَ } منصوب على أنه مصدر لفعل محذوف . أى : فإذا كان حال الذين كفروا كما ذكرت لكم من إحباط أعمالهم بسبب اتباعهم الباطل وإعراضهم عن الحق ، فإذا لقيتموهم للقتال ، فلا تأخذكم بهم رأفة ، بل اضربوا رقابهم ضربا شديدا .

والتعبير عن القتل بقوله : { فَضَرْبَ الرقاب } ، لتصويره فى أفظع صوره . ولتهويل أمر القتال ، ولإِرشاد المؤمنين إلى ما يجب عليهم فعله .

قال صاحب الكشاف : قوله : { لَقِيتُمُ } من اللقاء وهو الحرب { فَضَرْبَ الرقاب } أصله : فاضرب الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وقدم المصدر ، فأنيب منابه مضافا إلى المفعول ، وفيه اختصار مع إعطاء معنى التوكيد ، لأنك تذكر المصدر ، وتدل على الفعل بالنصبة التى فيه .

وضرب الرقاب : عبارة عن القتل . . وذلك أن قتل الإِنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته ، فوقع عبارة عن القتل ، وإن ضرب بغير رقبته من المقاتل .

على أن فى هذه العبارة من الغلظة والشدة ، ما ليس سفى لفظ القتل ، لما فيها من تصوير القتل بأشنع صورة ، وهو حز العنق ، وإطارة العضو الذى هو رأس البدن .

وقوله - سبحانه - : { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق } بيان لما يكون من المؤمنين بعد مثل حركة أعدائهم ، وإنزال الهزيمة بهم .

وقوله : { أَثْخَنتُمُوهُمْ } من الإِثخان بمعنى كثرة الجراح ، مأخوذ من الشئ الثخين ، أى : الغليظ ، يقال : أثخن الجيش فى عدوه ، إذا بالغ فى إنزاله الجراحة الشديدة به ، حتى أضعفه وأزال قوته .

والوثاق - بفتح الواو وكسرها - اسم الشئ الى يوثق به الأسير كالرباط أى : عند لقائكم - أيها المؤمنون - لأعدائكم ، فاضربوا أعناقكم ، فإذا ما تغلتم عليهم وقهرتموهم ، وأنزلتم بهم الجراح التى تجعلهم عاجزين عن مقاومتكم ، فأحكموا قيد من أسرتموه منهم ، حتى لا يستطيع التفلت أو الهرب منكم .

وقوله - سبحانه - { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } إرشاد لما يفعلونه بعد ذلك .

والمن : الإِطلاق بغير عوض ، يقال : مَّن فلان على فلان إذا أنعم عليه بدون مقابل .

والفداء : ما يقدمه الأسير من أموال أو غيرها لكى يفتدى بها نفسه من الأسر .

وقوله : { مَنًّا } و { فِدَآءً } منصوبان على المصدرية بفعل محذوف : أى : فإما تمنون عليهم بعد السر منا بأن تطلقوا سراحهم بدون مقابل ، وإما أن تفدوا فداء بأن تأخذوا منهم فدية فى مقابل إطلاق سراحهم .

وقوله - سبحانه - { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } غاية لهذه الأوامر والإِرشادات .

وأوزار الحرب : آلاتها وأثقالها الى لا تقوم إلا بها ، كالسلاح وما يشبه .

قال الشاعر :

وأعددتَ للحرب أوزارها . . . رماحا طوالاً وخيلا ذكورا

أى : افعلوا بهم ما أمرناكم بفعله ، واستمروا على ذلك حتى تنتهى الحرب التى بينكم وبين أعدئاكم بهزيمتهم وانتصارهم عليهم .

وسميت آلات الحرب وأحمالها بالأوزار ، لأن الحرب لما كانت لا تقوم إلا بها ، فكأنها تحملها وتستقل بها ، فإذا انقضت الحرب فكأنها وضعت أحمالها وانفصلت عنها .

ثم بين - سبحانه - الحكمة من مشروعية قتال الأعداء ، مع أنه - سبحانه - قادر على إهلاك هؤلاء الأعداء ، فقال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } .

واسم الإِشارة : خبر لمبتدأ محذوف ، أى : الأمر ذلك ، أو فى محل نصب على المفعولية بفعل محذوف ، أى : افعلوا ذلك الذى أمرناكم به وأرشدناكم إليه واعلموا أنه - سبحانه - لو يشاء الانتصار من هؤلاء الكافرين والانتقام منهم لفعل ، أى : لو يشاء إهلاكهم لأهلكم ، ولكنه - سبحانه - لم يفعل ذلك بل أمركم بمحاربتهم ليختبر بعضكم ببعض ، فيتميز عن طريق هذا الاختبار والامتحان ، قوى الإِيمان من ضعيفه . كما قال - تعالى - : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ثم بين - سبحانه - بعد ذلك ما أعده للمجاهدين من ثواب عظيم فقال : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله } أى : والذين استشهدوا وهم يقاتلون من أجل إعلاء كلمة الله .

{ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أى : فلن يضيع أعمالهم ولن يبطلها .