في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرۡبَ ٱلرِّقَابِ حَتَّىٰٓ إِذَآ أَثۡخَنتُمُوهُمۡ فَشُدُّواْ ٱلۡوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّۢا بَعۡدُ وَإِمَّا فِدَآءً حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلۡحَرۡبُ أَوۡزَارَهَاۚ ذَٰلِكَۖ وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡضٖۗ وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعۡمَٰلَهُمۡ} (4)

ذلك الأصل الذي قررته الآية الأولى في السورة ، يرتب عليه توجيه المؤمنين لقتال الكافرين . فهم على الحق الثابت الذي ينبغي أن يتقرر في الأرض ، ويستعلي ويهيمن على أقدار الناس والحياة ليصل الناس بالحق وليقيم الحياة على أساسه . والذين كفروا على الباطل الذي ينبغي أن يبطل وتذهب آثاره من الحياة :

( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب . حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق . فإما منا بعد وإما فداء . حتى تضع الحرب أوزارها ) . .

واللقاء المقصود في الآية هنا هو اللقاء للحرب والقتال لا مجرد اللقاء . فحتى نزول هذه السورة كان المشركون في الجزيرة منهم المحارب ومنهم المعاهد ؛ ولم تكن بعد قد نزلت سورة " براءة " التي تنهي عهود المشركين المحددة الأجل إلى أجلها ، والمطلقة الأجل إلى أربعة أشهر ؛ وتأمر بقتل المشركين بعد ذلك أنى وجدوا في أنحاء الجزيرة - قاعدة الإسلام - أو يسلموا . كي تخلص القاعدة للإسلام .

وضرب الرقاب المأمور به عند اللقاء يجيء بعد عرض الإسلام عليهم وإبائهم له طبعا . وهو تصوير لعملية القتل بصورتها الحسية المباشرة ، وبالحركة التي تمثلها ، تمشيا مع جو السورة وظلالها .

( حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق ) . .

والإثخان شدة التقتيل ، حتى تتحطم قوة العدو وتتهاوى ، فلا تعود به قدرة على هجوم أو دفاع . وعندئذ - لا قبله - يؤسر من استأسر ويشد وثاقه . فأما والعدو ما يزال قويا فالإثخان والتقتيل يكون الهدف لتحطيم ذلك الخطر .

وعلى هذا لا يكون هناك اختلاف - كما رأى معظم المفسرين - بين مدلول هذه الآية ، ومدلول آية الأنفال التي عاتب الله فيها الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] والمسلمين لاستكثارهم من الأسرى في غزوة بدر . والتقتيل كان أولى . وذلك حيث يقول تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ، تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة ، والله عزيز حكيم . لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ) . . فالإثخان أولا لتحطيم قوة العدو وكسر شوكته ؛ وبعد ذلك يكون الأسر . والحكمة ظاهرة ، لأن إزالة القوة المعتدية المعادية للإسلام هي الهدف الأول من القتال . وبخاصة حين كانت القوة العددية للأمة المسلمة قليلة محدودة . وكانت الكثرة للمشركين . وكان قتل محارب يساوي شيئا كبيرا في ميزان القوى حينذاك . والحكم ما يزال ساريا في عمومه في كل زمان بالصورة التي تكفل تحطيم قوة العدو ، وتعجيزه عن الهجوم والدفاع .

فأما الحكم في الأسرى بعد ذلك ، فتحدده هذه الآية . وهي النص القرآني الوحيد المتضمن حكم الأسرى :

( فإما منا بعد وإما فداء ) . .

أي إما أن يطلق سراحهم بعد ذلك بلا مقابل من مال أو من فداء لأسرى المسلمين . وإما أن يطلق مقابل فدية من مال أو عمل أو في نظير إطلاق سراح المسلمين المأسورين .

وليس في الآية حالة ثالثة . كالاسترقاق أو القتل . بالنسبة لأسرى المشركين .

ولكن الذي حدث فعلا أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] والخلفاء من بعده استرقوا بعض الأسرى - وهو الغالب - وقتلوا بعضهم في حالات معينة .

ونحن ننقل هنا ما ورد حول هذه الآية في كتاب " أحكام القرآن للإمام الجصاص الحنفي " ونعلق على ما نرى التعليق عليه في ثناياه . قبل أن نقرر الحكم الذي نراه :

قال الله تعالى : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب )قال أبو بكر قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان . وهو نظير قوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . . " وهذا صحيح فليس بين النصين خلاف " .

حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحكم قال : حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان . قال : حدثنا أبو عبيد . قال : حدثنا عبدالله بن صالح ، عن معاوية بن صالح ، عن علي بن أبي طلحة . عن ابن عباس في قوله تعالى ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . قال : ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل ، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله تعالى بعد هذا في الأسارى : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار . إن شاءوا قتلوهم ، وإن شاءوا استعبدوهم ، وإن شاءوا فادوهم . شك أبو عبيد في . . وإن شاءوا استعبدوهم . . " والاستعباد مشكوك في صدور القول به عن ابن عباس فنتركه . وأما جواز القتل فلا نرى له سندا في الآية وإنما نصها المن أو الفداء .

وحدثنا جعفر بن محمد قال : حدثنا أبو عبيد ، قال : حدثنا أبو مهدي وحجاج ، كلاهما عن سفيان . قال : سمعت السدي يقول في قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . قال : هي منسوخة ، نسخها قوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) : قال أبو بكر : أما قوله : ( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ) . . وقوله تعالى : ( ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ) . . وقوله : ( فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ) . . فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ . وذلك لأن الله تعالى أمر نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] بالإثخان في القتل وحظر عليه الأسر - إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم - وكان ذلك وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين ، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء . فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام . " ونقول : إن الأمر بقتل المشركين حيث وجدوا خاص بمشركي الجزيرة . بينما النص في سورة محمد عام . فمتى تحقق الإثخان في الأرض جاز أخذ الأسارى . وهذا ما جرى عليه الخلفاء بعد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعد نزول سورة براءة بطبيعة الحال ، ولم يقتلوهم إلا في حالات معينة سيأتي بيانها " . .

وأما قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . ظاهره يقتضي أحد شيئين : من أو فداء . وذلك ينفي جواز القتل . وقد اختلف السلف في ذلك . حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير ، وقال : من عليه أو فاده . وحدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : أخبرنا هشيم . قال : أخبرنا أشعث قال : سألت عطاء عن قتل الأسير فقال : من عليه أو فاده قال : وسألت الحسن . قال : يصنع به ما صنع رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بأسارى بدر ، يمن عليه أو يفادى به . وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء اصطخر ليقتله ، فأبى أن يقتله ، وتلا قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . وروي أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير . وقد روينا عن السدي أن قوله : ( فإما منا بعد وإما فداء )منسوخ بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ) . وروي مثله عن ابن جريج . حدثنا جعفر قال : حدثنا أبو عبيد قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : هي منسوخة . وقال : قتل رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] عقبة ابن أبي معيط يوم بدر صبرا ، قال أبو بكر : اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه ، وقد تواترت الأخبار عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] في قتله الأسير ، منها قتله عقبة بن أبي معيط ، والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر . وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر . وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ ، فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية . ومن على الزبير بن باطا من بينهم ، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة ، وشرط على ابن أبي الحقيق ألا يكتم شيئا ، فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله . وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ، ومقيس بن حبابة ، وعبد الله بن أبي سرح ، وآخرين ، وقال : " اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة " . ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم . وروي عن صالح بنكيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف ، أنه سمع أبا بكر الصديق يقول : " وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته ، وكنت قتلته سريحا أو أطلقته نجيحا " . وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله . فهذه آثار متواترة عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه . واتفق فقهاء الأمصار على ذلك . " وجواز القتل لا يؤخذ من الآية ، ولكن يؤخذ من عمل رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وبعض الصحابة . وتتبع الحالات التي وقع فيها القتل يعطي أنها حالات خاصة ، وراءها أسباب معينة غير مجرد التعرض للقتال والأسر . فالنضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط كلاهما كان له موقف خاص في إيذاء رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وإيذاء دعوته . وكذلك أبو عزة الشاعر ، ولبني قريظة كذلك موقف خاص بارتضائهم حكم سعد بن معاذ سلفا . وهكذا نجد في جميع الحالات أسبابا معينة تفرد هذه الحالات من الحكم العام للأسرى الذي تقرره الآية : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . .

وإنما اختلفوا في فدائه ، فقال أصحابنا جميعا " يعني الحنفية " : لا يفادى الأسير بالمال ، ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا . وقال أبو حنيفة : لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ، ولا يردون حربا أبدا . وقال أبو يوسف ومحمد : لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين . وهو قول الثوري والأوزاعي ، وقال الأوزاعي : لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب ، ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون . وقال المزني عن الشافعي : للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم ، فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله : ( فإما منا بعد وإما فداء )وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين ؛ وبأن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فدى أسارى بدر بالمال . ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك ، عن معمر ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، عن عمران ابن حصين . قال : أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وأسر أصحاب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] رجلا من بني عامر ابن صعصعة ؛ فمر به النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وهو موثق ، فناداه ، فأقبل إليه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فقال : علام أحبس ? قال : " بجريرة حلفائك " . فقال الأسير : إني مسلم ، فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح " . ثم مضى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] فناداه أيضا ، فأقبل ، فقال : إني جائع فأطعمني . فقال النبي [ صلى الله عليه وسلم ] : " هذه حاجتك " . ثم إن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما . . ( وحجة القائلين بالفداء أرجح في تقديرنا من حجة أصحاب الإمام الجصاص على الاختلاف في الفداء بالمال أو بأسرى المسلمين ) .

وقد ختم الإمام الجصاص القول في المسألة بترجيح رأي أصحابه الحنفية قال : وأما ما في الآية من ذكر المن والفداء ، وما روي في أسارى بدر فإن ذلك منسوخ بقوله : ( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ) . . وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج . وقوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر )إلى قوله : ( حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) . فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية . والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك . ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة " براءة " بعد سورة " محمد " [ صلى الله عليه وسلم ] فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها . . " وقد سبق القول بأن هذا القتل للمشركين - أو الإسلام - مقصود به مشركو الجزيرة فهو حكم خاص بهم . أما غيرهم خارجهافتقبل منهم الجزية كما تقبل من أهل الكتاب . وقبول الجزية عند التسليم لا ينفي أن يقع الأسرى في أيدي المسلمين قبل التسليم . فهؤلاء الأسرى ما الحكم فيهم ? نقول : إنه يجوز المن عليهم إذا رأى الإمام المصلحة ، أو الفداء بهم بالمال أو بالمسلمين ، إذا ظل قومهم قوة لم تستسلم بعد ولم تقبل الجزية . فأما عند الاستسلام للجزية فالأمر منته بطبيعته وهذه حالة أخرى ، فحكم الأسرى يظل ساريا في الحالة التي لم تنته بالجزية ) .

والخلاصة التي ننتهي إليها أن هذا النص هو الوحيد المتضمن حكم الأسرى . وسائر النصوص تتضمن حالات أخرى غير حالة الأسر . وأنه هو الأصل الدائم للمسالة . وما وقع بالفعل خارجا عنه كان لمواجهة حالات خاصة وأوضاع وقتية . فقتل بعض الأسرى كان في حالات فردية يمكن أن يكون لها دائما نظائر ؛ وقد أخذوا بأعمال سابقة على الأسر ، لا بمجرد خروجهم للقتال . ومثال ذلك أن يقع جاسوس أسيرا فيحاكم على الجاسوسية لا على أنه أسير . وإنما كان الأسر مجرد وسيلة للقبض عليه .

ويبقى الاسترقاق . وقد سبق لنا في مواضع مختلفة من هذه الظلال القول بأنه كان لمواجهة أوضاع عالمية قائمة ، وتقاليد في الحرب عامة . ولم يكن ممكنا أن يطبق الإسلام في جميع الحالات النص العام : ( فإما منا بعد وإما فداء ) . . في الوقت الذي يسترق أعداء الإسلام من يأسرونهم من المسلمين . ومن ثم طبقه الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] في بعض الحالات فأطلق بعض الأسارى منا . وفادى ببعضهم أسرى المسلمين ، وفادى بعضهم بالمال . وفي حالات أخرى وقع الاسترقاق لمواجهة حالات قائمة لا تعالج بغير هذا الإجراء .

فإذا حدث أن اتفقت المعسكرات كلها على عدم استرقاق الأسرى ، فإن الإسلام يرجع حينئذ إلى قاعدته الإيجابية الوحيدة وهي : ( فإما منا بعد وإما فداء )لانقضاء الأوضاع التي كانت تقضي بالاسترقاق . فليس الاسترقاق حتميا ، وليس قاعدة من قواعد معاملة الأسرى في الإسلام .

وهذا هو الرأي الذي نستوحيه من النص القرآني الحاسم . ومن دراسة الأحوال والأوضاع والأحداث . . والله الموفق للصواب .

ويحسن أن يكون مفهوما أنني أجنح إلى هذا الرأي لأن النصوص القرآنية واستقراء الحوادث وظروفها يؤيده لا لأنه يهجس في خاطري أن استرقاق الأسرى تهمة أحاول أن أبرى ء الإسلام منها ! إن مثل هذا الخاطر لا يهجس في نفسي أبدا ، فلو كان الإسلام رأى هذا لكان هو الخير ، لأنه ما من إنسان يعرف شيئا من الأدب يملك أن يقول : إنه يرى خيرا مما يرى الله . إنما أنا أسير مع نص القرآن وروحه فأجنح إلى ذلك الرأي بإيحاء النص واتجاهه .

وذلك . . - أي القتال وضرب الرقاب وشد الوثاق واتباع هذه القاعدة في الأسرى - ( حتى تضع الحرب أوزارها ) . . أي حتى تنتهي الحرب بين الإسلام وأعدائه المناوئين له . فهي القاعدة الكلية الدائمة . ذلك أن " الجهاد ماض إلى يوم القيامة " كما يقول رسول الله[ صلى الله عليه وسلم ] حتى تكون كلمة الله هي العليا .

والله لا يكلف الذين آمنوا هذا الأمر ، ولا يفرض عليهم هذا الجهاد ، لأنه يستعين بهم - حاشاه - على الذين كفروا . فهو سبحانه قادر على أن يقضي عليهم قضاء مباشرا ؛ وإنما هو ابتلاء الله لعباده بعضهم ببعض ؛ الإبتلاء الذي تقدر به منازلهم :

( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ، ولكن ليبلو بعضكم ببعض . والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم . سيهديهم ويصلح بالهم ، ويدخلهم الجنة عرفها لهم ) . .

إن هؤلاء الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ، وأمثالهم في الأرض كلها في كل زمان من البغاة الطغاة المفسدين ، الذين يظهرون في ثوب البطش والاستكبار ، ويتراءون لأنفسهم وللضالين من أتباعهم قادرين أقوياء . إن هؤلاء جميعا حفنة من الخلق . تعيش على ظهر هذه الهباءة الصغيرة المسماة بالأرض ، بين هذه الكواكب والنجوم والمجموعات الفلكية والمجرات والعوالم التي لا يعلم عددها ولا مداها إلا الله في هذا الفضاء الذي تبدو فيه هذه المجرات والعوالم نقطا متناثرة ، تكاد تكون ضائعة ، لا يمسكها ولا يجمعها ولا ينسقها إلا الله .

فلا يبلغ هؤلاء ومن وراءهم من الأتباع ، بل لا يبلغ أهل هذه الأرض كلها ، أن يكونوا نمالا صغيرة . لا بل إنهم لا يبلغون أن يكونوا هباء تتقاذفه النسمات . لا بل إنهم لا يبلغون شيئا أصلا حين يقفون أمام قوة الله .

إنما يتخذ الله المؤمنين - حين يأمرهم بضرب رقاب الكفار وشد وثاقهم بعد إثخانهم - إنما يتخذهم سبحانه ستارا لقدرته . ولو شاء لانتصر من الكافرين جهرة . كما انتصر من بعضهم بالطوفان والصيحة والريح العقيم . بل لانتصر منهم من غير هذه الأسباب كلها ، ولكنه إنما يريد لعباده المؤمنين الخير . وهو يبتليهم ، ويربيهم ، ويصلحهم ، وييسر لهم أسباب الحسنات الكبار .

يريد ليبتليهم . وفي هذا الابتلاء يستجيش في نفوس المؤمنين أكرم ما في النفس البشرية من طاقات واتجاهات . فليس أكرم في النفس من أن يعز عليها الحق الذي تؤمن به ، حتى تجاهد في سبيله فتقتل وتقتل ، ولا تسلم في هذا الحق الذي تعيش له وبه ، ولا تستطيع الحياة بدونه ، ولا تحب هذه الحياة في غير ظله .

ويريد ليربيهم . فيظل يخرج من نفوسهم كل هوى وكل رغبة في أعراض هذه الأرض الفانية مما يعز عليهم أن يتخلوا عنه . ويظل يقوي في نفوسهم كل ضعف ويكمل كل نقص ، وينفي كل زغل ودخل ، حتى تصبح رغائبهم كلها في كفة وفي الكفة الأخرى تلبية دعوة الله للجهاد ، والتطلع إلى وجه الله ورضاه . فترجح هذه وتشيل تلك . ويعلم الله من هذه النفوس أنها خيرت فاختارت ، وأنها تربت فعرفت ، وأنها لا تندفع بلا وعي ولكنها تقدر وتختار .

ويريد ليصلحهم . ففي معاناة الجهاد في سبيل الله ، والتعرض للموت في كل جولة ، ما يعود النفس الاستهانة بهذا الخطر المخوف ، الذي يكلف الناس الكثير من نفوسهم وأخلاقهم وموازينهم وقيمهم ليتقوه . وهو هين هين عند من يعتاد ملاقاته . سواء سلم منه أو لاقاه . والتوجه به لله في كل مرة يفعل في النفس في لحظات الخطر شيئا يقربه للتصور فعل الكهرباء بالأجسام ! وكأنه صياغة جديدة للقلوب والأرواح على صفاء ونقاء وصلاح .

ثم هي الأسباب الظاهرة لإصلاح الجماعة البشرية كلها ، عن طريق قيادتها بأيدي المجاهدين الذين فرغت نفوسهم من كل أعراض الدنيا وكل زخارفها ؛ وهانت عليهم الحياة وهم يخوضون غمار الموت في سبيل الله . ولم يعد في قلوبهم ما يشغلهم عن الله والتطلع إلى رضاه . . وحين تكون القيادة في مثل هذه الأيدي تصلح الأرض كلها ويصلح العباد . ويصبح عزيزا على هذه الأيدي أن تسلم في راية القيادة للكفر والضلال والفساد ؛ وهي قد اشترتها بالدماء والأرواح ، وكل عزيز وغال أرخصته لتتسلم هذه الراية لا لنفسها ولكن لله !

ثم هو بعد ذلك كله تيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم الحسنى لينالوا رضاه وجزاءه بغير حساب . وتيسير الوسيلة لمن يريد الله بهم السوءى ليكسبوا ما يستحقون عليه غضبه وعذابه . وكل ميسر لما خلق له . وفق ما يعلمه الله من سره ودخيلته .

ومن ثم يكشف عن مصير الذين يقتلون في سبيل الله :

( والذين قتلوا في سبيل الله ، فلن يضل أعمالهم

لن يضل أعمالهم . . في مقابل ما جاء عن الذين كفروا أنه أضل أعمالهم . فهي أعمال مهتدية واصلة مربوطة إلى الحق الثابت الذي صدرت عنه ، وانبعثت حماية له ، واتجاها إليه . وهي باقية من ثم لأن الحق باق لا يهدر ولا يضيع .

ثم نقف أمام هذه الحقيقة الهائلة . . حقيقة حياة الشهداء في سبيل الله . . فهي حقيقة مقررة من قبل في قوله تعالى : ( ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون ) . . ولكنها تعرض هنا عرضا جديدا . تعرض في حالة امتداد ونماء في طريقها الذي غادرت الحياة الدنيا وهي تسلكه وتتوخاه . طريق الطاعة والهداية والتجرد والنقاء :